الحديث عن الفتة في عيد الأضحى

منذ 2022-07-10

الغرض من ذكرها، ولا الإحالة للكتاب أكثر من أمرين..أن الناس فعلًا تُقدر ما بيدها من نعيم بديهي هو بالنسبة للآخرين حلم

بمناسبة الحديث عن الفتة والصلصة...وحتمية التكافل بين الناس..

هناك كتاب لطيف جدًا اسمه ‘‘إعادة إنتاج التراث الشعبي: كيف يتشبث الفقراء بالحياة في ظل الندرة‘‘، للدكتور سعيد المصري، من إصدار هيئة حكومية وهي المجلس الأعلي للثقافة..الكتاب يحتوي مشاهد بديعة علي إيلامها الهائل عن سلوكيات فقراء مصر في تناول الطعام، وبالتحديد منطقة بولاق، كإطار مكاني للدراسة..

إحدي السيدات تحكي أنه أمر مؤلم جدًا في عيد الأضحي، أنها تقف في المطبخ، تشم رائحة الأكل عند جيرانها، وهي مش قادرة تعمل حاجة لعيالها، فتجلس فقط منتظرة الفرج، أن حد يحنّ عليها ويتبرّع بقطعتين لحمة، وفي الآخر تكون دهن علي عظم..ويتزامن كلامها مع أب، بيروح يقف وقت دبح الأضاحي منتظرًا دوره في توزيع اللحمة، فسمع أصحاب الأضحية من ورا الباب وهما بيقولوا أن شكله مش فقير كفاية، وشكله هياخد اللحمة يبيعها في السوق، فمشي وراح لأول جزار يطلب لحمة شُكك، والراجل رفض، بحجة أن كل البضاعة مُباعة سلفًا.

سيدة أخري تبلغ من العمر 29 سنة ومتزوجة من فواعلي وتعمل في بيع المنظفات تقول لمعدّ الدراسة عن اللحوم ‘‘ ساعات أقف أتفرج علي الجزار وهو بيدبح ويشفي اللحمة والناس واقفة توزن وتشتري، وأنا مش قادرة أعمل زيهم، وأقف بالساعات يمكن ربنا يفرجها عليا بحتة لحمة..وساعات ألف في الشوارع، أبص علي اللي بياكلوا في المطاعم، وأبقي شايفة النعمة قدامي ومش طايلة أكل منها..يبقي فيه أكتر من كده غلب؟‘‘.

وماذا لو توافرت اللحوم مرة في السنة؟ تدور معركة ‘‘المنابات‘‘..الأمهات عادة ما يلجأن لإخفاء قطع اللحمة الكبيرة للأزواج ‘‘ لأن الرجالة بتشقي وتتعب، فلازم يأكلوا الأول، ومش مهم الستات والعيال يستنوا بعدين‘‘..أحيانًا أخري الأمهات بيقنعوا الأطفال أن المشكلة فيهم، هما اللي مش بيحبوا اللحمة، فلما تيجي توزع المنابات، تفوت بنتها مرة والتانية والعاشرة، لغاية ما الطفلة تتعود أنها مش بتاكل لحمة ولا بتحبها..بس أحيانًا الطفل بيطمع، يأخد حتة كبيرة، وفورا يخبئها، وكل شوية يطلعها، يقضم، وينزل إيده تحت الطبلية، ولما يتمسك أمه وأبوه بيعكننوا عليه.

مظاهر الحرمان تبدو اعتيادية..لكن ما هو ليس اعتيادي حيل التكيف التي تتبعها الأمهات تحديدًا أمام طلبات ولادهم، اللي نفسهم يعيشوا زي الناس بتوع التلفزيون..إحدي حيل الأمهات عشان ميفتحوش عين عيالهم علي الأكل خارج إطار الرز والمكرونة المحمرة، أنهم يقرفوهم من أي نوع متوسط أو فاخر من الطعام..والحكايات علي لسان رواتها من السيدات لا تنقطع..لما واحدة ابنها طلب منها فلمنك..ردَت أن طعمه زي الصابون وهتعملك تلبك وتجيب وجع في البطن..طيب مانجو؟ لأ..أملاح وهتخليك تهرش في جسمك.

هل يقف الأمر هنا؟..لأ..إحدي الامهات مكنش معاها فلوس تجيب أكل، وعندها بقايا باذنجان بدأ فعلًا في التلف، ومكنش في البيت أكل غيره، فوضعته أمام الأولاد..الإبن الأصغر رفض يأكل، وقال نصًا ‘‘دي عيشة زفت وأكل زفت‘‘، فاخوه الأكبر نهره بشده، وقاله دي نعمة ربنا عيب تغلط فيها..راحت الأم وضعت علي الأكل الفاسد شوية توابل، والإبن الأكبر أكل، والصغير تبعه بعد أن قرص الجوع بطنه..واللي حصل لاحقًا أن الطفل الصغير اتسمم..فالأم أقنعته أن هو السبب في تسممه، مش الأكل، لأنه اتبطر علي نعمة ربنا، غير أخوه الكبير اللي بيأكل أي حاجة بنفس راضية..البطر والقناعة سلاح تستخدمه الأمهات ضد أطفالهم عشان يقبلوا العيشة حتي لو كانت مُسممة.

هناك أيضًا حيلة ‘‘ الشبع ع السيرة ‘‘..يعني الأم لما تجوع هي أو عيالها، تفكرهم بيوم عدّي عليهم أكل كويس..زي السيدة اللي زوجها ع باب الله، يحمّل عربية من هنا لهنا وهو ورزقه..وفي يوم كانوا ع الحديدة..الزوج خرج علي لحم بطنه، وربنا رزقه بناس خدوه يشيل لهم عفش عروسة..وأهل العريس راضوه..وادوله 25 جنيه، غير العشا واللحمة والفاكهة..والأم سوت اللحمة وخلصوها في ثانية..أو الزوجة اللي زوجها دخل عليها في سابقة تاريخية بثلاث فرخات مشوية من فلوس الزكاة..وكانت فخورة جدًا أنها لوحدها تناولت فرخة كاملة..سيرة اليوم الحلو حيلة تستخدم في أيام كثيرة سيئة قادمة..مش كلنا في يوم كويس..نستني يمكن يجي شبهه.

هل يقف الأمر هنا؟ للمرة الثانية لأ..سيدة كانت ماشية في سوق سمك،ونفسها راحت له..فوقفت تسأل عن أسعاره، وإبنها كان في إيدها، فألح عليها أنه نفسه يأكل ساندوتش جمبري، وهي مش معاها ثمنه..فقالت له ‘‘ يالهوي..تأكل صراصير، ده منظره يخوف، وخدته من إيده وطلعت تهرب قبل ما ‘‘ذوقه يضرب‘‘ لأنه لو اتعود في يوم علي طعمه، هيفضل يزن ويطلب، وحتي لو معاها تشتريه انهارده، مش هتجيبه، لأنه بكره وبعده وبعد بعده مش هيكون معاها تمنه، فالأحسن تقرفه وتمحي الصورة والرائحة من ذاكرته.

بس الأطفال بتقارن..ولا شيء أكثر تعبيرًا عن قصة أم، ولادها بيزنوا عليها يشتروا عصير زي الناس، فتلقائيًا تتبع الحيلة الشهيرة ‘‘ لأ..ده مفيهوش فايدة غذائية، كله سكر وألوان صناعية..هعملكم ليمون أحسن‘‘..لكن العيال مش بتبطل زنٌ، وليمون أمهم مش عاجب..فالسيدة ماشية بالصدفة في شارع 26 يوليو، لقت علب عصير فاضية مرمية في الزبالة، جمعتها ورجعت بها البيت، وعملت ليمون بالسكر وصبته في العلب، وقدمته للعيال..ورغم أنهم كانوا عارفين أنه ‘عصير أمهم‘‘..لكن كانوا مبسوطين وهما بيقلدوا ‘‘ولاد الناس‘‘ حتي لو علبة عصير من الزبالة ومعبأة بعصير ليمون بيتي.

لكن أم الحكايات العظيمة تعود لأب فقير، ذهب لحضور فرح لناس ميسورة..فاتعزم عليه بقطعتين شوكولاته فاخرة..وبحركة بهلوانية أمام المُعطي تناول قضمة صغيرة ثم دسّ الباقي بين ملابسه، ولما عاد للبيت..ولاده ومراته اتجمعوا يسألوه عن الفرح والمعازيم والناس دي عايشة ازاي وكلت إيه..فأقسم لهم أنه ما حطش لقمة واحدة في فمه من غيرهم، وراح مطلع الشوكولاته، وقالهم خدت حتة صغيرة، والباقي تركته لكم..ثم يقول لمعدّ الدراسة في تفسير سلوكه..‘‘زي ما اتحرموا من الأكل ده، يبقي يحرم عليّ أنا كمان، لازم نبقي زي بعض في كل حاجة‘‘.

هذه الحكايا وإطارها النظري التفسيري تأتي في الفصل الرابع ‘‘ تواتر التراث الشعبي بالتطبيق علي عادات الطعام‘‘ ص.ص 167-273..وليس الغرض من ذكرها، ولا الإحالة للكتاب أكثر من أمرين..أن الناس فعلًا تُقدر ما بيدها من نعيم بديهي هو بالنسبة للآخرين حلم لو فكر في يوم يملكهم، هيموتهم، ولنجاتهم لابد من أن يُقتل الحلم في ذائقتهم..والثاني أن الناس في غمرة فرحتها بالعيد، لا تنسي فقط أن في الجوار، الكثير الكثير جدًا من البشر، اللي خناقتهم مش صلصة علي الفتة ولا خل وتوم بس..أبدًا..الخناقة مع الزمن علي قطعة عظم، بس ياريت ياريت، تكون عليها حتة شغت، عشان العيال يلاقوا حاجة يأكلوها قبل ما ‘‘يقرقروا العظم‘‘..والأمنيات أن يجد هؤلاء المتعففين طريقًا للسعادة كما غيرهم..ومن لديه من النعم ليفيض بها علي الآخرين، فليفعل، علّ النجاة تكون في شبع بطن خاوية.

كل عام والجميع بخير.

عبده فايد

  • 4
  • 0
  • 1,186

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً