الميزان الحقيقي..
والشاهد ألا نحكم على الناس بالظواهر والأشكال، فربما أشعثُ أغبرُ لو أقسم على الله لأبرَّه.
هذا أغنى إذًا هذا أفضل مني.
هذا أذكى مني إذًا هو أفضل.
هذه أحلى مني شكلًا إذًا هي أفضل.
هذه أكثر أولادًا مني إذًا هي أعلى.
هذا بيته أكبر من بيتي إذًا هو أرفع قدرًا.
هذا وظيفته أعلى إذًا هو أعلى قدرًا ومكانة.
والجديد هذه أكثر متابعين مني إذًا هي أفضل.
هذه هي الموازين التي يحدِّد بها معظمُنا قدرَ الناس من حولنا، بل نقيس بها أنفسَنا مقارنةً بالآخرين، فإذا رجَحت كِفةُ غيرنا وطاشت كِفتنا، حَزِنَّا واكْتَأَبْنا واعتصرَنا الألمُ واليأسُ.
وأما إذا رجَحت كِفتنا اغتررنا وتكبَّرنا وتنمَّرنا على مَن نظنه أقلَّ منا ولو كان ذلك بالقلب وليس باللسان.
فهل هذه الموازين صحيحة، وهل هذه المقاييس مصيبة؟
أحضِر قلبك وتدبَّر قوله تعالى في سورة الحجرات: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
ها هو الحكيمُ العليم سبحانه يُخبرنا عن الميزان الحقيقي للبشر، ها هو العدل سبحانه يعلِّمنا ما هو المقياس الصحيح.
ليس أكرُمكم أكثرَكم مالًا أو أولادًا أو جاهًا أو متابعين، بل أتقاكم لله وأكثركم خشيةً له وطاعةً وإنابة، ليس أطولكم ولا أقصركم، ولا أرفعكم ولا أنسبكم جسمًا.
أقرأ معي هذا الحديث: عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «(مم تضحكون؟)، قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحُد)» ؛ [رواه أحمد] .
ها هو النبي يخبرنا أن المقياس ليس بالشكل ولا باللون ولا بالجنس، فلما ضحك الصحابة من دقة ساق سيدنا عبدالله بن مسعود، فصحَّح لهم النبي البوصلة في هذا القياس معلنًا أنه رغم ضعف جسده، فهو عند الله أرفع قدرًا مما تظنون، أخبرهم أن الله لا ينظر إلى قدمه ولا إلى جسده، ولكن ينظُر إلى مقدار الإيمان في قلبه.
وإليك حديثًا آخر: «مرَّ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ رجلٌ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ: ما تقولونَ في هذا الرَّجلِ؟ قالوا: رأيَكَ في هذا، نقولُ: هذا من أشرافِ النَّاسِ، هذا حريٌّ إن خطبَ، أن يُخطَبَ، وإن شفعَ، أن يشفَّعَ، وإن قالَ، أن يسمعَ لقولِهِ، فسَكتَ النَّبيُّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ، ومرَّ رجلٌ آخرُ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ: ما تقولونَ في هذا؟ قالوا: نقولُ، واللَّهِ يا رسولَ اللهِ، هذا من فقراءِ المسلمينَ، هذا حريٌّ إن خطبَ، لم ينْكح، وإن شفعَ، لاَ يشفَّع، وإن قالَ، لاَ يسمع لقولِهِ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليْهِ وسلَّمَ: لَهذا خيرٌ من ملءِ الأرضِ مثلَ هذا» ؛ [خلاصة حكم المحدث: صحيح] .
ها هو صلى الله عليه وسلم يوجِّه أنظار قلوبنا إلى الوجهة الصحيحة والبوصلة الصحيحة، باختبار واقعي يسير لأصحابه، ليرى كيف يفرقون بين الناس، فلما مرَّ الغني الشريف أثنوا عليه وعلى قدره، ولَما مرَّ الفقير ذكروا أنه لا يَأْبه له الناسُ ولا ينتبهون له.
فكانت المفاجأة أن تقييم النبي كان مختلفًا تمامًا عن تقييمهم، فلو وضعنا الفقير في كِفة وفي الكفة الأخرى ملءَ الأرض من الغني الشريف، لرجحت كفة الفقير..
كذلك، مَن منَّا لا يحب لابنه أن يكون غنيًّا ومقدرًا عند الناس، ولا يحب له أن يكون فقيرًا مُعدمًا يَحتقره الناس....
ليس حديث الثلاثة الذين تكلموا في المهد منا ببعيدٍ، ( «وبيْنا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِن أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ راكِبٌ علَى دابَّةٍ فارِهَةٍ، وشارَةٍ حَسَنَةٍ، فقالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هذا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وأَقْبَلَ إلَيْهِ، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فقالَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أقْبَلَ علَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ، قالَ: فَكَأَنِّي أنْظُرُ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وهو يَحْكِي ارْتِضاعَهُ بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ في فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّها، قالَ: ومَرُّوا بجارِيَةٍ وهُمْ يَضْرِبُونَها ويقولونَ: زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، وهي تَقُولُ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، فقالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَها، فَتَرَكَ الرَّضاعَ ونَظَرَ إلَيْها، فقالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَها، فَهُناكَ تَراجَعا الحَدِيثَ، فقالَتْ: حَلْقَى مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الهَيْئَةِ فَقُلتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ومَرُّوا بهذِه الأمَةِ وهُمْ يَضْرِبُونَها ويقولونَ زَنَيْتِ، سَرَقْتِ، فَقُلتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَها فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَها. قالَ: إنَّ ذاكَ الرَّجُلَ كانَ جَبَّارًا، فَقُلتُ: اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وإنَّ هذِه يقولونَ لها زَنَيْتِ ولَمْ تَزْنِ، وسَرَقْتِ ولَمْ تَسْرِقْ فَقُلتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَها» )؛ [ أخرجه البخاري] .
لَما رأت الأم ذلك الرجل ذا الهيئة الحسنة دعَت الله أن يجعل ابنها مثله، ولَما رأت هذه المرأة الذليلة الضعيفة دعت الله ألا يجعل ابنها مثلها، فإذا بالطفل يُنطقه الله بالصواب ويدعو الله ألا يكون كهذا الرجل؛ لأنه ظالم ومتكبر، أما المرأة فهي مظلومة والله ناصرُها، لذا علينا ألا نغترَّ بظواهر الناس، وننسى أن المقياسَ الحقيقي لا يتجلَّى لنا بالظاهر، فليس صاحبُ السيارة الأحدث والهاتف الأحدث هو الأفضلَ، وليس العامل البسيط هو الأقلَّ قدرًا ومكانةً.
بل نضع الأمور في نصابها وميزانها الحقيقي، فإن الله أعلم بما في صدور الناس وهو خبير أحوالهم.
ولا نحزن إن كنا أقلَّ من أحد في شيء من الأمور الظاهرة، فهي زهرة الحياة الدنيا يعطيها الله بعض عباده، {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
ولكن ليس معنى ذلك ألا نطمع في فضل الله أن يوسِّع أرزاقنا من خير الدنيا، ولكن لا يكون ذلك سببًا لتكبرنا، وظننا أننا أفضل ممن هو أقل منا؛ قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } [الفجر: 15 - 17].
فليست النعمة دليلَ إكرامٍ من الله، وليس المنع دليل احتقار.
ها هم قوم قارون لَما رأوه في زينته قالوا: يا ليت لنا مثل ما أُوتي قارون، وندموا على مقالتهم هذه لَما رأوا ما حلَّ به من خسفٍ به وبداره.
والأحاديث في ديننا عن هذه الأمور كثيرة لا يتسع لها المقام والمقالُ.
والشاهد ألا نحكم على الناس بالظواهر والأشكال، فربما أشعثُ أغبرُ لو أقسم على الله لأبرَّه.
ولا نحتقر شخصًا ولا نسخر منه لفقره أو مسكنته، فعسى أن يكون عند الله أفضل منا؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
فإن الله لا ينظُر إلى صورنا وأجسامنا، ولكن ينظُر إلى قلوبنا وأعمالنا، فلنحرِص على تزيين بواطننا بالإيمان والتقوى كما نحرِص على تزيين ظواهرنا.
سمر سمير
- التصنيف: