وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ
{مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ} حيث: ظرف مكان، فالمعنى من الجهة التي أمر الله تعالى، وهو «القبل» لأنه هو المنهي عنه في حال الحيض.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) }
{{وَيَسْأَلُونَكَ}} وقبله { {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} } وقبله {{ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} } بالواو العاطفة على {{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}} قيل: لأن السؤال عن الثلاثة في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع لذلك، كأنه قيل: جمعوا لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن كذا وكذا.
قال ابن عاشور: والباعث على السؤال أن أهل يثرب قد امتزجوا باليهود واستنوا بسنتهم في كثير من الأشياء، وكان اليهود يتباعدون عن الحائض أشد التباعد بحكم التوراة، ففي الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين: "إذا كانت امرأة لها سيل دما في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها، وكل من مسها يكون نجسا إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه يكون نجسا، وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء، وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام".
وَإِنَّ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ مَنْ كَانَتِ الْحَائِضُ عِنْدَهُمْ مَبْغُوضَةً فَقَدْ كَانَ بَنُو سُلَيْحٍ أَهْلُ بَلَدِ الْحَضْرِ، وَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ نَصَارَى إِنْ حَاضَتِ الْمَرْأَةُ أَخْرَجُوهَا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الرَّبْضِ حَتَّى تَطْهُرَ وَفَعَلُوا ذَلِكَ بِنَصْرَةَ ابْنَةِ الضَّيْزَنِ مَلِكِ الْحَضْرِ، فَكَانَتِ الْحَالُ مَظِنَّةَ حِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْأَمْرِ تَبْعَثُ عَلَى السُّؤَالِ عَنْهُ، فَكَانَتِ الْحَالُ مَظِنَّةَ حِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْأَمْرِ تَبْعَثُ عَلَى السُّؤَالِ عَنْهُ.
{{عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}} الضر الذي ليس بفاحش؛ كما دل عليه الاستثناء في قوله تعالى: {{لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} } [آل عمران:111] إشارة إلى إبطال ما كان من التغليط في شأنه، وشأن المرأة الحائض في شريعة التوراة.
فقدم العلة على الحكم لتنفر النفوس من الفعل قبل الحكم به؛ فيقع الحكم وقد تهيأت النفوس للاستعداد له، وقبوله.
ومن فوائد الآية: أنه لا ينبغي أن يستحيي الإنسان من سؤال العلم.
ومنها أيضا: إثبات الحكمة فيما شرعه الله عزّ وجلّ؛ لكن من الحكمة ما هو معلوم للخلق؛ ومنها ما ليس بمعلوم؛ لكننا نعلم أن جميع أحكام الله الشرعية والقدرية مقرونة بالحكمة.
{{فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء}} الحائضات {{فِي الْمَحِيضِ}} مكان الحيض وهو الفرج { {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} } لا تقربوا جماعهن.
«روى أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ إِذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُمْ أَخْرَجُوهَا مِنْ الْبَيْتِ، فَلَمْ يُؤَاكِلُوهَا وَلَمْ يُجَامِعُوهَا، فَسَأَلَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} حَتَّى فَرَغَ مِنْ الْآيَةِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ، قَالَتْ الْيَهُودُ: "مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِنَا إِلَّا خَالَفَنَا فِيهِ" فَجَاءَ عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ كَذَا وَكَذَا، أَفَلَا نَنْكِحُهُنَّ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ عَلَيْهِمَا، فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ وَاسْتَقْبَلَتْهُمَا هَدِيَّةٌ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمَا فَسَقَاهُمَا، فَظَنَنَّا أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَلَيْهِمَا. »
واختلف في هذا الاعتزال، فذهب ابن عباس، وجماعة من أهل العلم إلى أنه يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار، ويعضده ما صح أنها تشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها. فروى الدارمي عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- « «يَأْمُرُ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا أَنْ تَشُدَّ عَلَيْهَا إِزَارَهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا» »
وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجب إلاَّ اعتزال الفرج فقط، وهو الصحيح من قول الشافعي.
ولم تتعرض الآية لما يجب على من وطئ في الحيض، واختلف في ذلك العلماء، فقال أبو حنيفة، ومالك، ويحيى بن سعيد، والشافعي، وداود: يستغفر الله ولا شيء عليه، وقال محمد: يتصدّق بنصف دينار، وقال أحمد: يتصدّق بدينار أو نصف دينار، واستحسنه الطبري، وهو قول الشافعي ببغداد.
وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ. قَالَ: «يَتَصَدَّقُ بِدِينَارٍ أَوْ نِصْفِ دِينَارٍ » [رَوَاهُ اَلْخَمْسَةُ, وَصَحَّحَهُ اَلْحَاكِمُ وَابْنُ اَلْقَطَّانِ, وَرَجَّحَ غَيْرَهُمَا وَقْفَه]
{{حَتَّىَ يَطْهُرْنَ}} أي يتطهرن من المحيض بالاغتسال، كقوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ} [المائدة:6] أي اغتسلوا.
وأما اشتراط طهارة الحدث فاختلف فقهاء الإسلام في مجمل الطهر الشرعي هنا، فقال قوم: هو غسل محل الأذى بالماء، فذلك يحل قربانها، وهذا الذي تدل عليه الآية، لأن الطهر الشرعي يطلق على إزالة النجاسة وعلى رفع الحدث، والحائض اتصفت بالأمرين.
وقال الجمهور: لا بد لقرينة الأمر بالإتيان، وإن كان قربهنّ قبل الغسل مباحاً، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلاَّ على الوجه الأكمل. وأخذاً بأكمل أفراد هذا الاسم احتياطا.
وإذا كان التطهر «الغسل بالماء»، فمذهب مالك والشافعي وجماعة، أنه كغسل الجنابة، وهو قول ابن عباس، وعكرمة، والحسن؛ وقال طاووس، ومجاهد: الوضوء كاف في إباحة الوطء، وذهب الأوزاعي إلى أن المبيح للوطء: هو غسل محل الوطء بالماء، وبه قال ابن حزم.
وسبب الخلاف أن يحمل التطهر بالماء على التطهر الشرعي أو اللغوي، فمن حمله على اللغوي قال: تغسل مكان الأذى بالماء، ومن حمله على الشرعي حمله على أخف النوعين، وهو الوضوء، لمراعاة الخفة، أو على أكمل النوعين وهو أن تغتسل كما تغتسل للجنابة إذ به يتحقق البراءة من العهدة.
والاغتسال بالماء مستلزم لحصول انقطاع الدم، لأنه لا يشرع إلاَّ بعده.. وعلامة الطهر للمرأة القَصة البيضاء بأن لا تتغير القطنة إذا احتشت بها؛ وهذا هو الغالب في النساء؛ لكن بعض النساء لا ترى ذلك وتعرف الطهر بانقطاع الدم فقط ولا ترى القصة البيضاء.
ومن فوائد الآية: تحريم الوطء بعد الطهر قبل الغسل عند من يقول بوجوبه.
ومن أوجب الغسل فصفته كما روى مسلم من حديث عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ غُسْلِ الْمَحِيضِ؟ فَقَالَ: « (تَأْخُذُ إِحْدَاكُنَّ مَاءَهَا وَسِدْرَتَهَا فَتَطَهَّرُ فَتُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ تَصُبُّ عَلَى رَأْسِهَا فَتَدْلُكُهُ دَلْكًا شَدِيدًا حَتَّى تَبْلُغَ شُؤُونَ رَأْسِهَا ثُمَّ تَصُبُّ عَلَيْهَا الْمَاءَ ثُمَّ تَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَطَهَّرُ بِهَا) فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: وَكَيْفَ تَطَهَّرُ بِهَا؟ فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِينَ بِهَا!!) فَقَالَتْ عَائِشَةُ -كَأَنَّهَا تُخْفِي ذَلِكَ-: تَتَبَّعِينَ أَثَرَ الدَّمِ.»
{{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ}} اغتسلن { {فَأْتُوهُنَّ}} الأمر هنا للإباحة كقوله {: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ}} [المائدة:2] {{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} } [الجمعة:10]، والمراد بالإتيان الجماع، فكني بالإتيان عن المجامعة.
{{مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ}} حيث: ظرف مكان، فالمعنى من الجهة التي أمر الله تعالى، وهو «القبل» لأنه هو المنهي عنه في حال الحيض.
{{إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}} تعليل لما سبق من الأوامر؛ وهي اعتزال النساء في المحيض، وإتيانهن من حيث أمر الله بعد التطهر، وجمع بينهما؛ لأن «التوبة» تطهير الباطن؛ و «التطهر» تطهير الظاهر.
ومن فوائد الآية: إثبات محبة الله عزّ وجلّ؛ والمحبة صفة حقيقية لله عزّ وجلّ على الوجه اللائق به؛ وهكذا جميع ما وصف الله به نفسه من المحبة، والرضا، والكراهة، والغضب والسخط، وغيرها؛ كلها ثابتة لله على وجه الحقيقة من غير تكييف ولا تمثيل.
ومنها: أن محبة الله من صفاته الفعلية - لا الذاتية -؛ لأنها علقت بالتوبة؛ والتوبة من فعل العبد تتجدد؛ فكذلك محبة الله عزّ وجلّ تتعلق بأسبابها؛ وكل صفة من صفات الله تتعلق بأسبابها فهي من الصفات الفعلية.
ومنها: فضيلة التوبة والتطهر، وأنهما من أسباب محبة الله للعبد.
{نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} قوله: {حَرْثَكُمْ} يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في «محل الحرث» يعني بذر الولد بالنطفة، وذلك هو «القبل» دون الدبر كما لا يخفى؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد، كما هو ضروري.
وهذا نظير قوله تعالى: { {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}} [البقرة:187]؛ لأن المراد بما كتب الله لكم «الولد» على قول الجمهور، وهو اختيار ابن جرير، ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل. فالقبل إذن هو المأمور بالمباشرة فيه، بمعنى الجماع فيكون معنى الآية: "فالآن باشروهن، ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد"، الذي هو القبل دون غيره.
وقوله {أَنَّى شِئْتُمْ}: يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث «القبل» على أي حالة شاء الرجل، سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة أو على جنب أو من الخلف.
«روى مسلم عن جابر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ إِذَا أَتَى الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَنَزَلَتْ» : { {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}}
وروى أحمد عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْعَبْسِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « (لَا يَسْتَحِي اللَّهُ مِنْ الْحَقِّ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ)» .
«وروى أحمد من حديث أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى الْأَنْصَارِ تَزَوَّجُوا مِنْ نِسَائِهِمْ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يُجَبُّونَ [الزوجة مكبوبة على وجهها] وَكَانَتْ الْأَنْصَارُ لَا تُجَبِّي، فَأَرَادَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ امْرَأَتَهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَبَتْ عَلَيْهِ حَتَّى تَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: فَأَتَتْهُ فَاسْتَحْيَتْ أَنْ تَسْأَلَهُ فَسَأَلَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ فَنَزَلَتْ {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وَقَالَ: (لَا إِلَّا فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ) وفي رواية مسلم: (إِنْ شَاءَ مُجَبِّيَةً وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبِّيَةٍ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ) »
«وروى أبو داود من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قَالَ: ... كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، وَهُمْ أَهْلُ وَثَنٍ، مَعَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ يَهُودَ، وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، وَكَانُوا يَرَوْنَ لَهُمْ فَضْلًا عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ، فَكَانُوا يَقْتَدُونَ بِكَثِيرٍ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَأْتُوا النِّسَاءَ إِلَّا عَلَى حَرْفٍ، وَذَلِكَ أَسْتَرُ مَا تَكُونُ الْمَرْأَةُ، فَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ أَخَذُوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ، وَكَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ يَشْرَحُونَ النِّسَاءَ شَرْحًا [أي يطأونهن وهن مستلقيات عن أقفيتهن] مُنْكَرًا، وَيَتَلَذَّذُونَ مِنْهُنَّ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ تَزَوَّجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا ذَلِكَ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: إِنَّمَا كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ، فَاصْنَعْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَاجْتَنِبْنِي حَتَّى شَرِيَ أَمْرُهُمَا [أي تفاقم اللجاج] فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: { {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} } أَيْ مُقْبِلَاتٍ وَمُدْبِرَاتٍ وَمُسْتَلْقِيَاتٍ يَعْنِي بِذَلِكَ مَوْضِعَ الْوَلَدِ. »
ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يحاول كثرة النسل؛ لقوله تعالى: {{حَرْثٌ لَكُمْ}} ؛ وإذا كانت حرثاً فهل الإنسان عندما يحرث أرضاً يقلل من الزرع، أو يكثر من الزرع؟
فالجواب: الإنسان عندما يحرث أرضاً يكثر من الزرع؛ وقد روى الإمام أحمد من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَأْمُرُ بِالْبَاءَةِ وَيَنْهَى عَنْ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شَدِيدًا، وَيَقُولُ: « (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ إِنِّي مُكَاثِرٌ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)»
«وروى أبو داود عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ، وَإِنَّهَا لَا تَلِدُ، أَفَأَتَزَوَّجُهَا؟ قَالَ: (لَا) ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ)» [الألباني: حسن صحيح]
وأما القول بتحديد النسل فهذا لا شك أنه من دسائس أعداء المسلمين يريدون من المسلمين ألا يكثروا؛ لأنهم إذا كثروا أرعبوهم، واستغنوا بأنفسهم عنهم: حرثوا الأرض، وشغَّلوا التجارة، وحصل بذلك ارتفاع للاقتصاد، وغير ذلك من المصالح؛ فإذا بقوا مستحسرين قليلين صاروا أذلة، وصاروا محتاجين لغيرهم في كل شيء؛ ثم هل الأمر بيد الإنسان في بقاء النسل الذي حدده؟! فقد يموت هؤلاء المحدَّدون؛ فلا يبقى للإنسان نسل.
{{وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ}} الأجر في تجنب ما نهيتم وامتثال ما أمرتم به.
لأنه تقدّم أمر ونهي، وهو الخير الذي ذكره في قوله: {{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ}} [البقرة:110] ولذلك جاء بعده {{وَاتَّقُواْ اللّهَ}} أي: اتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وهو تحذير لهم من المخالفة، ولأن العظيم الذي تقدّم يحتاج إلى أن يقدّم معك ما تقدّم به عليه مما لا تفتضح به عنده، وهو «العمل الصالح».
وقيل: قدموا فعل الطاعات، وإنما قال ذلك بعد ذكر إتيان النساء حتى لا ننشغل بهؤلاء النساء عن تقديم ما ينفعنا يوم القيامة.
{{وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ}} كما قال تعالى: { {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ}} [الانشقاق:6]
وإنما أمرهم الله بعلم أنهم ملاقوه مع أن المسلمين يعلمون ذلك تنزيلا لعلمهم منزلة العدم في هذا الشأن، ليزاد من تعليمهم اهتماما بهذا المعلوم وتنافسا فيه، كما أن في افتتاح الجملة بكلمة: {{اعْلَمُوا}} اهتماما بالخبر واستنصاتا له وهي نقطة عظيمة.
وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولا { {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ}} ثم يعقبه الأمر بالتقوى { {وَاتَّقُواْ اللّهَ}} ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم {وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ}، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء {{وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ}} ، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعارا بأنها هي الاستعداد {{وَاتَّقُواْ اللّهَ}} ثم ذكروا بأنهم ملاقو الله {وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ} فجاء ذلك بمنزلة التعليل.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين} بحسن العاقبة في الآخرة، وفيه تنبيه على الوصف الذي به يتقى الله ويقدّم الخير، ويستحق التبشير، وهو «الإيمان».
وفي أمره لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالتبشير تأنيس عظيم ووعد كريم بالثواب الجزيل، ولم يأت بضمير الغيبة، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف.
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
[email protected]
- التصنيف: