متى نزرع القمح؟!
إذا لم يحدث التحرك العاجل للإنقاذ فإن السيناريوهات القادمة ستكون صادمة، وسنكون على شفا الفوضى المخططة لتقسيم الدول العربية، وهذه المرة باستخدام الجوع
تشير التطورات العالمية والحقائق المشاهدة إلى أن العالم مقبل على مجاعات وأزمات غذاء غير مسبوقة، ولا تتوقف المنظمات الدولية عن التحذير مما ينتظرنا بسبب الحروب وموجات الجفاف التي تضرب أوربا وأمريكا وأفريقيا، وسوء الإدارة الذي يبدد الموارد، والفساد الذي يسير بكثير من الدول في طرق التهلكة.
الجوع الذي ينتظر الكثير من دول العالم يفوق ما سجله التاريخ من مجاعات لاتساع دائرته، ولن يقتصر على دولة واحدة تمكن إغاثتها أو منطقة جغرافية تتكافل فيما بينها؛ فنحن أمام ظاهرة عالمية لن ترحم؛ فكل الدول المنتجة للحبوب تأثرت بما يجري، وستسعى لتأمين احتياجاتها أولا وتحقيق الاكتفاء الذاتي قبل التفكير في التصدير ومساعدة الآخرين.
أكثر مناطق العالم التي ستكون ضحية للجوع القادم هي الدول العربية؛ فهناك 9 دول تستورد القمح، في مقدمتها مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، بل إن السودان الذي تجتمع فيه كل الأسباب التي تجعله سلة خبز العالم العربي تدهور فيه الحال حتى أصبح يستورد القمح بنسبة 50% وأكثر!
رغم خطورة ما ينتظرنا فإنه لا حياة لمن تنادي، فلم نسمع عن خطة لزراعة القمح في أي دولة عربية، سواء منفردة أو مع غيرها في جامعة الدول العربية التي يبدو أنها دخلت غرفة الإنعاش منذ عقود ولم تخرج منها، وهذا التجاهل للخطر القادم يثير الرعب أكثر من الجوع الذي سيقضي على الأنفس ويخرب العمران.
رغيف الخبز
يعد رغيف الخبز الطعام الرئيسي للشعوب منذ بداية الخليقة، ولهذا كان القمح هو المحصول الرئيسي في كل الحضارات قبل ظهور الدول وما يسمى بالتفكير الاستراتيجي.
لكن مع حالة التبعية التي تعيشها الأمة، وحالة الخضوع للدول الاستعمارية، تم منع دول المسلمين من زراعة القمح لتستمر حالة الاحتياج للمحتل أبد الدهر، وبسبب الضعف المتراكم والحكومات غير المستقلة وحالة الاختراق في دوائر السلطة العليا غابت الدعوات الوطنية إلى الاستقلال واختفت خطط زراعة القمح باعتباره محصولا استراتيجيا له الأولوية للحفاظ على أمن الشعوب.
يروج أنصار التبعية للأجنبي دوما لنظريات زائفة، لتبرير عدم زراعة القمح، فتارة يقولون إن زراعة محاصيل أخرى أكثر ربحية نشتري من عائدها القمح أوفر لنا من الناحية الاقتصادية، وأحيانا يقولون بوضوح إن أمريكا لا تسمح لنا بزراعة القمح، بل وهناك من كان يقول إننا خارج خط القمح!
من الأوهام التي يعتقدها بعض ذوي السلطة والنفوذ أن الدول الغربية لن تتركنا نجوع ولن يتركوا بلادنا تتقسم وتسقط في الفوضى، وهؤلاء لا يعيشون الواقع ولا ينظرون حولهم، فالدول التي ينتظرون منها الدعم مشغولة بنفسها وتحتاج إلى الدعم.
معلوم أن تقسيم بلاد العرب وتفتيتها هدف صهيوني منذ الثمانينيات، وبدعم غربي نجحت هذه الخطط في العراق وسوريا والسودان وليبيا واليمن، ولن يتخلى العقل الصهيوني عن تقسيم المملكة السعودية ومصر، بل إنه يعتبر هذا التقسيم الجائزة الكبرى.
مثل هذه الأفكار التي يتم ترويجها لحساب الهيمنة الخارجية هي التي تقودنا إلى الكوارث المتوقعة، ولم يعد سرًّا أن كثيرا من الأشخاص الذين يتولون الحقائب الوزراية المؤثرة تم زرعهم في دوائر السلطة في معظم بلاد العرب، وهم يعملون لتنفيذ أجندات من جاؤوا بهم وليس لتحقيق آمال وطموحات شعوبهم.
لماذا العجز؟
كل الأسباب متوفرة لزراعة القمح؛ فالأراضي الممهدة متاحة، والمياه تجري رغم المؤامرات والتهديدات (نهر النيل نموذجا) والأيدي العاملة متعطلة تنتظر الفرصة، والنفط متدفق ونصدره لكل العالم، والطاقة في بلاد العرب لا تنضب، فلماذا كل هذا العجز والاستسلام للانتحار جوعا؟
للأسف، معظم حكومات العرب غير قادرة على وضع خطط اقتصادية وطنية تحقق مصالح الشعوب؛ وأصبحت تساق إلى حتفها بسرعة الصاروخ، فقد تم تقييد دولنا باتفاقات مع صندوق النقد والبنك الدولي ومع أوربا وأمريكا تشلّ حركتها وتمنعها من التصرف بما يتواءم مع مصالحها والدفاع عن حقها في الاستمرار والبقاء.
الخطر الذي يقترب يحتاج إلى وقفة، وإذا لم يحدث التحرك العاجل للإنقاذ فإن السيناريوهات القادمة ستكون صادمة، وسنكون على شفا الفوضى المخططة لتقسيم الدول العربية، وهذه المرة باستخدام الجوع.
الجوع يهدم الدول
إذا وقعت المجاعة فلن تستطيع دولة السيطرة عليها، وتشبه صدمة الجوع البركان المنفجر الذي يصعب احتواؤه؛ فالشعوب الجائعة لا عقول لها، وستدعس كل شيء أمامها، وسيخرج الجوع أسوأ ما في النفس البشرية من أنانية وطمع وجشع وإجرام خاصة مع غياب الدين والقيم التي تم تدميرها.
أهل الحكم في بلاد العرب الذين لا يشعرون بخطر المجاعة عليهم أن يقرؤوا كتب التاريخ ليتعظوا، وليعرفوا تجارب السابقين ويحسنوا التصرف قبل أن تقع الواقعة.
في المجاعة التي وقعت في زمن المستنصر سنة 457هـ بسبب نقص النيل وقصور الفيضان اختفى القمح وتلاشت البهائم، وأكل الناس الكلاب والقطط، وتطور الحال فأكل الناس بعضهم بعضا، وكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها ومعهم كلاليب فإذا مر بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوه.
وفي مجاعة 596هـ زمن العادل الأيوبي بسبب توقف النيل عن الزيادة تعطلت الصنائع وجاع الناس وفنيت الأقوات والنفوس ومات نصف الشعب، وذكر المقريزي أن “القرية التي كان بها خمسمئة نفس لم يتأخر بها سوى اثنين أو ثلاثة وجافت الطرق كلها بمصر والقاهرة وسائر دروب النواحي بجميع الأقاليم من كثرة الموتى.. وكانت الأزقة كلها بالقاهرة ومصر لا يرى فيها من الدور المسكونة إلا القليل”.
ولتكن قصة سيدنا يوسف وعزيز مصر هي المثل الذي يحتذى في حالتنا الراهنة؛ فلم ينتظر الملك قدوم المجاعة، وإنما تحرك قبلها بسبع سنوات واختار الشخص المؤهل (الحفيظ العليم) لوضع خطة الإنقاذ، وسخر الدولة كلها لزراعة القمح وتخزينه (في سنبله)، حتى جاءت السبع العجاف فكانت الإدارة العبقرية التي وفرت الخبز للمصريين وجيرانهم.
المصدر : الجزيرة مباشر
صحفي وكاتب مصري، شغل موقع مساعد رئيس تحرير جريدة الشعب، ورئيس تحرير الشعب الالكترونية.
- التصنيف: