البضاعة الأكثر رواجا في عالمنا المعاصر!
ما أحوجَنا إلى الصَّراحة في هذا الزَّمان! نحتاجها في دنيانا، ونحتاجها لأخرانا؛ لأنَّ الصَّراحة نوع مِن محاسبة النَّفْس، ومحاسبة النَّفس مطلوبة
ما أحوجَنا إلى الصَّراحة في هذا الزَّمان! نحتاجها في دنيانا، ونحتاجها لأخرانا؛ لأنَّ الصَّراحة نوع مِن محاسبة النَّفْس، ومحاسبة النَّفس مطلوبة: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، والأمة التِي تُحسِن محاسبة نفسها، تحسن صنعَ مستقبلها، وتحسن تربية أبنائها، وتحسن عرْضَ قضيَّتِها.
والموضوع الَّذِي نتحدَّث عنه اليوم يَحتاج إلى قدْرٍ كبير من الصَّراحة، كَيْفَ لا، والله سبحانه قد ذكره في القرآن الكريم أكثر من مائتين وثمانين مرَّة، محذِّرًا، ومتوعدًا، ومنذرًا، ومخوفًا، وحذَّر منه النبيُّ - عليه الصلاة السلام - وبيَّن أنَّ المسلمَ قد يتَّصف ببعض الصِّفات السيِّئة، والأخلاق المَذْمومَة، ولكن لا يتصف بهذا الخلق أبدًا؟ فهل عرَفتم أيُّها القُرَّاء الأعزاء هذا السُّوق الذِي وَلِجه أكثر النَّاس في زماننا المعاصر، إلا ما رحم الله؟
إنه سوق "الكذب"، وما أدراك ما سوقُ الكذب!
أمَّا تحذيره - عليه الصلاة السلام - منه، فقد قال: «إيَّاكمْ والكذبَ»[1]، وأمَّا بيانه أن المسلم المؤمن لا يتصف به أبدًا؛ فقد سُئِل - عليه الصلاة السلام -: أيكون المُؤمن جبانًا؟ فقال: «نَعم»، فقيل له: أيكون المؤْمن بخيلاً؟ فقال: «نعم»، فقيل له: أيكون المؤمِن كذَّابًا؟ فقال: «لا»[2].
لقد أصبح للكذب مدارِسُه، وأساليبه الخاصَّة التِي تعلِّم الناس كَيْفَ يكذبون، ولا أبالغ إِذَا قلت: إنَّ أغلب وسائل الإعلام في العالَم - شرقِه وغربه - قد قامت في جلِّ برامجها عَلَى الكذب، وقَلْب الحقائق، وتسمية الأمور بغير أسمائها، وقد تجاوز الأمر حدَّه، حَتَّى ظهر الحقُّ في صورة الباطل، والباطلُ في صورة الحق، وأصبحنا نسمَعُ مَن يقول عن الصَّادق الذِي يتحرَّى الصِّدق بأنَّه ساذج وبسيط وسطحيّ، في الوقت الذِي يُوصف فيه الكاذب المنافق بأنَّه الحكيم المُحنَّك!
نعم، لقد كثر الكذب في حياتنا، وراج سوقُه، وارتفعت راياته، وعلا صوته، وانتشر انتشارَ النَّار في الهشيم، كما أخبَر - عليه الصلاة السلام -: «خَير الناس قَرْني، ثم الذين يلونَهم، ثم الذين يلونهم، ثم يَفْشو الكذب حتَّى يَشهد الرَّجلُ ولا يُستَشهد، ويَحلف الرجل ولا يُسْتحلَف»[3].
التَّجوال في السُّوق الرَّائجة:
لو سألتَ أيَّ شخص وقلت له: هل أنت صادق؟! فسوف يجيب بِنَعم، فكلُّ واحدٍ يتصوَّر أنه صادق ولا يكذب، وقد يعترف أحدهم بكذبة أو كذبتين، ويعتبر نفسه بلغ الغاية من الدِّقة والصراحة مع النَّفس، وأنه أدلى بحقيقةٍ لا تَقبل المراجعة، ومع ذلك دعُونا نراجع معًا هذا الادِّعاء العريض، إننا نبدأ في الكذب من لحظةِ أَنْ نستيقظ في الصَّباح، وقبل أَنْ نفتح فمنَا بكلمة[4]!!
أحيانًا تكون مجرد تسريحة الشَّعر التِي نَختارها كذبةً، الرَّجُل الكهل الذِي يسرِّح شعره ليبدو أصغر من سنِّه يكذب، المرأة العجوز التِي تصبغ شعرَها لتبدو أصغر من سنها تكذب، (الباروكة) عَلَى رأس الأصلع كذبة، البذلة الأنيقة التِي تُخفي تحتها ملابسَ داخلية ممزَّقة عتيقةً كذبةٌ، (المكياج) الذِي يحاول صاحِبُه أَنْ يخفي به التجاعيدَ هو نوعٌ آخر من الكذب الصَّامت، و(البودرة) والأحمر والرُّموش الصِّناعية... كلُّها أكاذيب ينطق بها لسان الحال قبل أَنْ يفتح الواحدُ منا فمَه ويتكلم، بل إنَّ مجرد ضفيرة المدارس عَلَى رأس بنت الثَّلاثين كذبة، والعِلْكة في فم رجلٍ كهل هي كذبة كبيرة!
كلُّ هذا ولم يبدأ اللِّسان ينطق، ولم ينفتح الفَمُ بعد، فإذا فتح الواحد منَّا فمَه، وقال: صباح الخير، فإنَّه يقولها عَلَى سبيل العُرف والعادة، لا ينوي بها الخير، وهو يقرأ السَّلام عَلَى مَن يبيِّت له العدوان فهو يكذب، وهو يسأل عن حاله ولا يريد الجوابَ، فإذا رفع سمَّاعة الهاتف مضى يطلب ما لا يُريد من الأشياء؛ لِمُجرَّد أنها مَظاهر ومُجاملات فهو يكذب، وقد يرفض ما يريد؛ خجلاً أو ادِّعاءً فهو يكذب، والولد والبنت يتكلَّمان طوال ساعتين في كلِّ شيء، إلا ما يتحرَّقان شوقًا إلى أَنْ يتصارحا به، فهما يكذبان، والإعلان الذِي يصف لك نكهة السِّيجارة وفوائِدَها الصِّحية يكذب عليك، والإعلان الذِي يقول لك: إنَّ قرص الأسبرين يَشفي من الأنفلونزا كذب، حَتَّى بالقياس إلى عالم الأدوية[5].
والكذب في هذه الأمور التِي ذكرنا يقود إلى الكذب في أمورٍ أكبَر وأضخم؛ لأنَّ الكذَّاب يكذب كذبة، ثمَّ يريد أَنْ يؤيِّد كذبته، فيكذب كذبة ثانية، ثمَّ يريد أَنْ يؤيِّدها، فيكذب كذبة ثالثة، ثمَّ يريد أَنْ يؤيدها، فيكذب كذبة رابعة...
وهكذا كما قال - عليه السلام -: «وإيَّاكمْ والكذب فإن الكذب يَهدي إلى الفجور، وإن الفجور يَهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتَّى يكتب عند الله كذَّابًا»[6]، والحال دائمًا في الذُّنوب تبدأ هكذا كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في السارق: «لعن الله السارق يَسْرق البيضة فتُقْطع يده، ويسرق الحَبل فتُقْطع يدُه»[7]، قيل: معنى الحديث: أنَّه يبدأ بِسَرقة الأمور الصَّغيرة، ثُمَّ يتدرَّج به الأمرُ حَتَّى يسرق الأمور الكبيرة، فتُقطع يده بالسَّرقة؛ لأنه لا حدَّ في السرقة في أقلَّ مِن رُبع دينار، وهكذا الكذَّاب، يبدأ بالكذبات الصَّغيرة؛ متهاونًا بِها، حَتَّى يصل به الشَّيطان إلى الكذب عَلَى الله - سبحانه وتعالى[8].
وجلُّ ما يدور في عالم البيع والشَّراء يبدأ بالكذب: فالبائع الذِي يكتم عيوب السِّلعة ويُخفيها عند بيعها، أو يحاول إخفاءَ العيب بوضع لاصقٍ عليه، أو جعله في أسفل صندوق البضاعة، واستعمال موادَّ كيميائية ونحوها تُظهِره بمظهرٍ حسن، أو يغيِّر تاريخ انتهاء صلاحيَّة السِّلعة، أو يمنع المشتري من معاينة السِّلعة أو فحصِها، هل هذا صادق في معاملته وتجارته؟! أم أن الكذب قد عشَّش في دماغه، وسرى في دمه.
في عالم الدِّين يطل الكذب الخفي من وراء الشعائر:
فشهر الصِّيام - الذِي هو امتناع عن الأكل - يتحوَّل إلى شهر أَكْل؛ فتظهر المشهِّيات والحلويات والمخلَّلات والمتبَّلات؛ من كنافة، إلى (قمر دين)، إلى قطائف، إلى مكسَّرات، ويرتفع استهلاك اللحم في شهر رمضان؛ فتقول لنا الإحصائيات: إنَّه يصل إلى الضِّعف، ويصبح شهر رمضان هو شهرَ (الصَّواني والصُّحون والطَّناجر)! فهل نحن حقًّا نصوم رمضان؟!
فإن الصِّيام الذِي يمارسه البعض منا، ليس هو الصِّيامَ الذِي شرعه الخالق؛ فهو نومٌ في معظم النَّهار، وغضب لأتفه الأسباب بدعوى الصِّيام، فالصِّيام عند البعض كسل جسدي، وانفعال نَفْسي في النهار، وتُخمة، وسهر في اللهو والعبث في اللَّيل.
وبين كلِّ مائة مصلٍّ أكثرُ من تسعين يقفون بين يدي الله وهم شاردون، مشغولون بمصالحهم الدُّنيوية، وبعضهم يصلِّي ليراه النَّاس، وينقلوا خبَرَه ويتسامعوا به، وآخرون يعبثون في صلواتهم؛ يقفون أمام الله، وأحدهم ينظر في ساعته، أو يعدل ثوبه، أو يلقم إصبعه أنفَه، ويرمي ببصره يمينًا وشمالاً، وإلى السَّماء! فهل هؤلاء صادقون في عبادتِهم، أم كاذبون؟
في دولة الحبِّ:
نجد أن مخادعة النَّفس هي الأسلوب المتعارف عليه؛ يَخدع كلُّ واحد نفسه، ويخدع الآخر أحيانًا بوعي وبغير وعي؛ فيتحدَّث العاشقان عن الحب، وهما يريدان أَنْ يقدِّما مبررًا شريفًا للوصول إلى "الحرام"، وفي المجتمعات المتمدِّنة يُمارَس الحبُّ كنوع من قتل الوقت، أو كنوعٍ من إظهار البَراعة والمهارة، أو كمظهر من مظاهر النَّجاح!
وأحيانًا تكون كلمة الحبِّ كذبة معسولة تُخفي وراءها رغبة شريرة في الامتلاك والاستحواذ والسَّيطرة، وهي ذريعتنا دائمًا للتغلُّب عَلى عُقدة الذَّنْب، فتخلع المرأة آخر قطعة من ثيابها، وهي تطمئِنُ نفسها بأنها ضحية الحُبِّ! وأن الحبَّ إحساس طاهر! وأنه أمر الله، وأنه قضاء وقدَر! وأنها ليست أوَّلَ من أحبَّت، ولا آخر من أعطت!! ولا توجد شبكة حريريَّة من الأكاذيب كما توجد في الحب، ففي كلِّ كلمة كذبة، وفي كلِّ لمسة كذبة[9].
الكذب في الفن عادة قديمة:
عادةٌ بدأها الشُّعَراء من زمن قديم، وقصائد المديح والهجاء والفخر شاهدةٌ عَلى ذلك، حَتَّى قالوا: "أعذب الشِّعر أكذبه"؛ يقول الشَّاعر:
إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا صَبِيٌّ ♦♦♦ تَخِرُّ لَهُ الْجَبَابِرُ سَاجِدِينَا!
مغالطات في حياتنا قائمة عَلَى الكذب:
فالكُتَّاب الذين يَدْعون إلى "تحرير المرأة"، أمُخْلصون هم في دعوة التَّحرير؟ وهل أوجعَهم حقًّا تخلُّفُ المرأة وعبوديتها؟ هل سالت ضمائرهم رقَّة عَلَى المعذَّبات في الأرض، وفاضت أعينهم بالدُّموع؟ هل يريدون حقًّا أَنْ تشعر المرأة بشخصيتها، وتحقِّق كيانَها؟ أيريدون تحرير المرأة للتحرُّر حقًّا، أم لتصبح سهلةَ التَّناول في المتجر، والمصنع، والمكتب، والطَّريق، وللحصول عَلى شهوات ميسَّرة، لا تقف في وجهها العوائق، ولا تَحُول دونَها "التَّقاليد"؟! فلنكن صُرَحاء، ولنقل: إنَّهم لكاذبون، وإنها شهوة الحصول عَلَى المرأة، وليست الرَّغبة في التَّحرير[10].
ما أكثر الكذب حقًّا!! أرأيتم كَيْفَ دخل الكذب في كلِّ جزء من حياتنا؟! إننا لنكذب حَتَّى في الأكل، فنأكل ونحن شِباعٌ، والاستماع للكذب شيء خطير، وتصديقه أخطر، وتطبيق ما يدعو إليه أشدُّ خطورة، ولقد عاب الله سبحانه عَلَى اليهود أنهم سمَّاعون للكذب، فقال - جل جلاله -: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة: 41]، وأكذب الكاذبين إبليس عليه لعنة الله؛ كذب عَلَى أبينا آدم - عليه السلام -: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120].
"لقد لمس في نفسه الموضع الحساس؛ فالعمر البشري محدود، والقوة البشرية محدودة، ومن هنا يتطلع إلى الحياة الطَّويلة وإلى الملك الطَّويل، ومن هاتين النَّافذتين يدخل عليه الشَّيطان، وآدم مخلوق بفطرة البشر وضعف البشر، لأمر مقدور وحكمة مخبوءة، ومن ثَم نسي العهد، وأقدم عَلَى المحظور"[11].
الكذب: الدَّوافع والأضرار والعلاج:
إِذَا تأملنا في مسيرة الكذب والكذَّابين فيما مضى وفي الحاضر، وإلى آخر الزَّمان كما يبدو! نجد أن الكذَّابين ينقسمون إلى قسمين؛ حسب أهدافهم من الكذب[12]:
فهناك من يكذب؛ ليدفع شرًّا يخشى أَنْ يصيبه:
كالطَّالب الذِي يكذب في سبب تأخُّره عن المدرسة؛ خوف العقاب، والموظَّف الذِي يكذب في سبب غيابه؛ خشية الخصم من مرتبه، والولد الذِي يكذب عَلَى أبيه؛ خوفًا منه، وكل إنسان ضعيف يجبن عن مواجهة الحقيقة، وكل إنسان فيه أنانية كريهة يريد أَنْ يأخذ بدون أَنْ يعطي، فالكذب رذيلةٌ كبرى تتكون من ثلاث رذائل؛ هي: الجُبْن، والجهل، والظُّلم.
وهناك من يكذب؛ ليجلب نفعًا له، وهم أنواع:
فهناك الحاسد الذِي يتكلم في محسوده كذبًا، ويعدُّ له مثالب لا وجود لها، ويزيِّف عليه المواقف والأقوال.
وهناك الحاقد الذِي يريد أَنْ ينتقم ممن يبغض بالتقوُّل عليه، وتشويه سمعته بالكذب والحطِّ منه.
وهناك المنافق الذِي يحسب كلَّ صيحة عليه؛ فيكذب مع هؤلاء ومع هؤلاء؛ لينال - في اعتقاده المريضِ - الحظوةَ عند الفريقين، فيخسر الأمرين، وهو يكذب في المدح والذَّم؛ يذمُّ أولئك عند هؤلاء، ثمَّ يمدح هؤلاء، وهو كاذب في الموقفين، والعكس، وهذا من شر النَّاس، قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «وتجدون شرَّ الناس ذا الوجهَين؛ الذي يأتي هؤلاء بوجهٍ، ويأتي هؤلاء بوجْه»[13].
وهناك التَّاجر الكذوب، كما ذكرنا سابقًا، يُنفق سلعته بالكذب والغشِّ والخداع، وقد يمعن في كذبه، فيحلف بالله كاذبًا؛ ابتغاء عرَضٍ من الدُّنيا.
وهناك أنواع كثيرة من الكذب الذِي يلجأ صاحبه إليه؛ لينال نفعًا في اعتقاده، فعُشَّاق المظاهر وغُواة التَّباهي والتَّفاخر كثيرًا ما يَكذبون، ويعتادون الكذب.
وهناك الذين يكذبون ابتغاء الضَّحك والهزل، واللغو والمزاح.
وكيف نعالج هذه الآفة؟
العلاج إنَّما يكون في الصِّدق؛ يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]؛ فالكذب لا يأتي بخير أبدًا، والعاقل يعلم أن الصِّدق - فوق أنَّه واجب ديني وأخلاقي - أجدى نفعًا من الكذب بكثيرٍ عَلَى المدى الطَّويل، حَتَّى بمقياس (النَّفع) نفسه الَّذِي ألجأ الكاذبين إلى هذا الحبل القصير.
فالكذب لدفع الضَّرر عن النّفس ينكشف سريعًا، فيعود الضَّرر أكبر، مصحوبًا بعدم الثّقة حَتَّى لو جاء سببٌ قاهر في المستقبل، فلن ينجو صاحبُه من العقاب؛ لأنّه كذب مرارًا، حَتَّى صار كذَّابًا لا يصدِّقه أحد، يضاف إلى هذا أنَّ اعتياد الكذب لدفع الضّرر يجعل صاحبه يعتاد الكسل والتَّسويف، والاستخفاف بالأمور.
والكذب لأجل جلب المنافع قصير الأمد، وضرَرُه أكبر عَلَى المدى الطويل؛ فالناس ليسوا أغبياء، والتَّاجر الكذوب قد يربح مرَّتين أو ثلاثًا، ولكن مصيره إلى الإفلاس التامِّ إِذَا داوم عَلَى ذلك؛ لأن الناس سوف يعرفونه ويتجنَّبونه تمامًا، لا ينجح عَلَى المدى الطويل إلا التاجر الصَّادق، السائر على الجادة ولو طالت؛ لأنها توصل صاحبها إلى برِّ الأمان، أما طرق الكذب الجانبية المجهولة فلا توصل إلاَّ إلى الحسرة والخسارة، وضياع الجهود في اصطناع الأكاذيب، ولو بذل هذا جهوده تلك في العمل الدَّؤوب بصدقٍ لنجحَ وبَرَّ، ونفع واستنفع، وأراح واستراح.
كذلك الحسد والحقد وما يدفعان إليه من كذب؛ فالحاسدون والحاقدون يحقِّق لهم الكذبُ عكس ما يعتقدون؛ فهو ذمٌّ لهم، وفخرٌ لِمن يكرهون؛ لأن الناس يميِّزون الغث من السَّمين، ويعرفون الدَّوافع، ويدركون بواطِنَ الأمور، فكلامُ الحاسد له رائحةٌ نفَّاذة لا يُخْطِئها أغبَى الناس، وهو لصالح المَحسود رغم أنف الحاسد.
أما المنافقون الذين يركبون مطية الكذب - وبئس الراكب والمركوب - فإنَّهم يستخِفُّون بالقيم والعقول، فينالون الاحتقار والخسران، والذين يَكذبون من باب حب التَّفاخر والمظاهر يكشفون سوءاتهم وهم لا يشعرون، يدلُّون على شعورهم بالنقص، وإحساسهم بالدُّونية.
وأما اعتياد الكذب لأجل المزاح والضَّحك، والإغراب، والهَزل واللَّغو، فإنه أيضًا لا يأتي بخير، وفي حقائق الحياة، وفي الآداب والفنون وأخبار العالَم، وجميلِ الهوايات، وفي القراءة والرِّياضة وحديث العقول النَّاضجة، ما يُغْني عن تلك الأكاذيب، ويكون أمتع، وأنفع، وأجدر بكلِّ إنسان يحترم نفسه.
والإنسان يجاهد نفسه على التحلِّي بالخير ما استطاع، ويجد الأجر والجمال في ذلك الجهاد، وحَتَّى لو كان معتادًا الكذب لسبب أو آخر؛ فإنه يستطيع بالإصرار والمثابرة أَنْ يتخلَّص من هذه العادة الذميمة بالتدريج، إن استطاع أَنْ يرميها من النافذة فهو الأفضل، وإلا فليَنْزل بها مع الدرجة، ويُحاصرها ويحدّها، حَتَّى تصل إلى باب الخروج، فيَرْكلها سعيدًا بفراقها، غير مشتاق[14]!
قطوف من حديقة الصِّدق الوارفة:
{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة: 119].
وللصالحين والفضلاء في الصِّدق أقوال جميلة وعبارات سديدة أتحفك ببعضها:
قال عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله -: "ما كذبتُ مذ علمتُ أنَّ الكذب يشين صاحِبَه"، وقال الإمام الأوزاعي - رحمه الله -: "والله لو نادى منادٍ من السَّماء أن الكذب حلالٌ ما كذبت"، وقال عبدالملك بن مروان لمعلِّم أولاده: "علِّمهم الصِّدق كما تعلمهم القُرآن"[15]، وقال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وقلب الصادق ممتلئٌ بنور الصِّدق، ومعه نور الإيمان"[16]، وقال أيضًا: "والله تعالى يعاقب الكذَّاب بأن يقعده ويثبِّطه عن مصالحه ومنافعه، ويثيب الصَّادق بأن يوفقه للقيام بِمَصالح دُنياه وآخرته، فما استُجلِبَت مصالح الدُّنيا والآخرة بِمثل الصِّدق، ولا مفاسِدُهما ومضارُّهما بمثل الكذب"[17].
ومن طريف ما يُروى:
أنَّ الحجَّاج بن يوسف خطب يومًا، فأطال الخُطبة، فقال أحد الحاضرين: الصَّلاةَ؛ فإن الوقت لا ينتظرُك، والربَّ لا يَعذرك، فأمر بِحَبْسه، فأتاه قومه، وزعموا أن الرَّجل مجنون، وسألوه أن يخلِّي سبيله، فقال الحجَّاج: إن أقرَّ بالجنون خلَّصتُه من سجنه، فقال الرَّجل: لا يسوغ لي أَنْ أجحد نعمة الله تعالى، أنعم بها عليَّ، وأُثبت على نفسي صفة الجنون الَّتِي نزَّهَني الله عنها، فلمَّا رأى الحجاجُ صِدقه خلَّى سبيله[18].
[1] "سنن أبي داود"، كتاب الأدب، حديث 4991.
[2] "موطأ مالك"، كتاب الكلام، حديث1832.
[3] "سنن التِّرمذي"، كتاب الشّهادات، حديث 2472.
[4] "رحلتي من الشَّك إلى الإيمان"، مصطفى محمود، ص 24.
[5] المرجع السّابق، ص 25.
[6] "مسلم"، كتاب البر والصّلة والآداب، حديث 6805.
[7] "البخاري"، كتاب الحدود، حديث 6783.
[8] "الكذب رأس الخطايا"، الشّيخ عبدالرحمن عبدالخالق: http://www.alsalafyoon.com
[9] "رحلتي من الشّك إلى الإيمان"، مرجع سابق، ص 25.
[10] "معركة التّقاليد"، محمد قطب، ص 115.
[11] "في ظلال القرآن"، سيد قطب، ج4، ص 2354.
[12] "الكذابون الثّلاثة"، عبد الله الجعيثن: http://www.alriyadh.com
[13] "البخاري"، كتاب المناقب، 3494.
[14] "الكذابون الثّلاثة!" مرجع سابق.
[15] "الصّدق"، حاتم الحربي، موقع المنبر: http://www.alminbar.cc/default.htm
[16] "مدارج السّالكين" ج 2، ص282.
[17] "الفوائد"، ص245.
[18] "منهاج المسلم"، أبو بكر الجزائري، ص 13.
_________________________________________________
الكاتب: إبراهيم عطية السعودي
- التصنيف: