{أولئك هم الغافلون}

منذ 2022-09-27

الزمن يدور، والحياة تسير، والسفر إلى الله طويل، وما من يوم ينشق فجْرُه إلا ويُنادي مُنادٍ من قِبَل الله: «يابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنِمْني؛ فإنِّي إلى يوم القيامة لن أعُودَ».

{أولئك هم الغافلون}

إن الأيام تُطْوى، والأعمار تُفْنى، والأبدان تُبْلى، وإن الليل والنهار يتراكضان تراكض البريد، يُقرِّبان كل بعيد، ويخلقان كل جديد، ويفلَّان كلَّ حديد، وفي ذلك عباد الله ما ألهى عن الشهوات، ورغَّب في الباقيات الصالحات {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم: 76].

 

أيها المسلمون؛ الزمن يدور، والحياة تسير، والسفر إلى الله طويل، وما من يوم ينشق فجْرُه إلا ويُنادي مُنادٍ من قِبَل الله: «يابن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنِمْني؛ فإنِّي إلى يوم القيامة لن أعُودَ».

 

عباد الله؛ الناس يلهون، والقدر معهم جاد، ويغفلون ويوم حسابهم قادم، ويسهون وكل ذرة من أعمالهم محسوبة، كيف؟! {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6].

 

عباد الله؛ إن الله تعالى سخَّر لعباده الطيبات من الرِّزْق، وسخَّر لهم ما في الأرض جميعًا، وسخَّر لهم الفلك تجري في البحر بأمره، وسخَّر لهم الأنهار، ورغبهم للجنة، ورهبهم من النار؛ كي يرجون رحمته، ويخافون عذابه، وذكَّرهم بما هم مقبلون عليه بعد الموت من أهوال وكربات عظام، حتى يفيقوا من غفلتهم، وينهضوا من عثرتهم، ويستأنفوا الطريق إلى ربهم؛ لكن بعض الناس ينسى، فيسير في طريق المعاصي والشهوات، ويغفل فيتهاون في الفرائض والواجبات، وكأن النار لم تُخلَق! وكأنها خُلِقَتْ فقط لغيرهم، قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

 

أيها المسلمون؛ إن الإنسان له قلب، والقلب يُخترق ويصاب كما يُصاب البدن، والإنسان عندما يُصاب في هذه الحياة الدنيا بأمراض في البدن والجسم، يُسارِع إلى الطبيب طلبًا للعلاج ورغبة في الشفاء؛ لكنه قد يُصاب بأمراض هي أشدُّ فتكًا، وأعظم خطرًا من أمراض البدن، وهذه الأمراض تؤدي إلى خسارته في الدنيا والآخرة، تلكم هي أمراض القلوب.

 

وأخطر أمراض القلوب هي الغفلة؛ إنها تُميت القلب وتُعطِّله عن أدائه الذي خُلِق من أجله، ليكون سليمًا، خاشعًا لربِّه خاضعًا لمولاه! فحياةُ القلوب حياةٌ للأبدان، وموتُ القلوب موتٌ للأبدان؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلمَ: «أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلُحَتْ صَلُحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ القَلْبُ»؛ (متفق عليه) .

 

إذا مرضت القلوب عظُمَ البلاء واشتدَّ العناء؛ حيث توعَّد الله تعالى أصحابَ القلوب المريضة التي غفلت فنسيت فقَسَتْ فماتَتْ بوعيد شديد وعذاب أليم، فقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]، الويل: وادٍ في قعر جهنم، مرضى القلوب جديرون به.

 

وفي الوجه المقابل، تجد أن القلب الذاكر هو القلب الحي، صاحِبُه يعلم أنَّ سعادته في عبادته لربِّه ومولاه قائمًا على أمره، منتهيًا عمَّا حذر منه ونهاه، لا تشغله دنياه عن أُخْراه، كأمثال هؤلاء القوم الذين مدحهم الله تعالى في القرآن، فهم لا تشغلهم دنيا، ولا تفتنهم شهوة، ولا تبعدهم مصلحة، ولا تُعطِّلهم تجارة؛ إنما هم دومًا ذاكرين، في حركاتهم وسكناتهم، وفي بيعهم وشرائهم، وفي قوتهم وضعفهم، فلم تستطِعِ الدُّنيا أن تصرفهم عن خالقهم، أو الاتصال برازقهم، كيف؟! {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ *لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 37، 38].

 

أيها المسلمون؛ في كتاب الله سورة سُمِّيت بسورة الأنبياء، والأنبياء أكثر البشر خشوعًا لله، وأعظمهم خضوعًا له، افتتح ربُّنا السورة بآية مزلزلة، آية مرعبة، طارقة للقلوب المارقة، محذرة القلوب الغافلة، يقول ربُّنا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ *مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء: 1 - 3].

 

هذه الآية لو تدبَّرها الإنسان وفَهِمَ معناها لغيَّر سلوكه، ولأقلع عن ضلاله ولترك غيَّه، ولأقبل على خالقه ومولاه مُتذلِّلًا خائفًا، راجيًا رحمته، مشفقًا من عذابه، كلمات تهزُّ الغافلين هزًّا، فالحساب يقترب والناس في غفلة، والقرآن يُتْلى والناس في إعراض، ولِقاءُ الله قادمٌ لا محالة والناس في عناد، والسبب في ذلك هو أن قلوبَهم لاهيةٌ، ونفوسهم ساهيةٌ، وأن الغافل عن ربِّه ومولاه في ضنك وشقاء، ولو كان في نعيم ورخاء {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، قال ابن كثير: "هذا تنبيه من الله تعالى لعباده على اقتراب الساعة.. وإن الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وإن الناس عنها في غفلة".

 

أيها المسلمون؛ إنَّ أشدَّ ما ينبه القلب الغافل هو الموت! هناك علاقة وطيدة بين نسيان الموت والغفلة، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].

 

قدَّم اللهُ تعالى ذكر الموت؛ لأنه أكثر أهمية، بمعنى أنك حينما تُولَد أمامك خيارات لا تُعَدُّ ولا تُحْصى، أما حينما يأتي الموت، فأمامك خيارانِ اثنانِ لا ثالث لهما، ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفسي بيده، ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار»؛ البيهقي من رواية الحسن، المصير إلى خيارين: الجنة أو النار، وأنت من هنا مَن تختار!

 

سيدنا عمر قال لأبي ذَرٍّ: عِظْني؟ فقال: "ارْضَ بالقوت، وخَفْ من الفوت، واجعل صومَك الدنيا وفطرك الموت"؛ أي: هذه الدنيا محدودة وفانية، أطِعْ أمرَ الله فيها؛ لكن بعد الموت ليس هناك تكليف.

 

الخيار الأول: أنَّ هناك جنةً عرضها السموات والأرض، قال ربُّنا: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]، وقال سبحانه: «أعدَدْتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أُذُنٌ سمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلب بَشَرٍ»؛ (متفق عليه عن أبي هريرة) .

 

الخيار الثاني: دركات سُفْلى من النار: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145]، ماذا يريد الإنسان بعد ذلك؟ ألا يعمل من الصالحات وهو مؤمن فيرث الجنة ونعيمها، ألا يقطع نهاره في ذكر الله وشكره، ألا يقضي ليله قائمًا قانتًا!

 

قال بعضهم: نهارك ضيفك، فأحْسِن إليه، فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمِّك، وكذلك ليلك.

 

وحتى ينتبه الناس قال الرسول الكريم، عن أنس رضي الله عنه: «أكثِرُوا ذِكْرَ هاذم اللَّذَّات»؛ الديلمي.

 

نعم، فالموت مُفرِّق الأحباب، مُدمِّر الأرباب، مُشتِّت الجماعات، مغيب القامات؛ لذلك: «عِشْ ما شئتَ فإنك ميِّتٌ، وأحْبِبْ ما شئتَ فإنك مُفارِق، واعمل ما شئت فإنك مجزي به».

كُلُّ ابن آدم وإن طالَتْ سلامتُه   ***   لا بُدَّ يومًا على آلةٍ حَدْباءَ مَحْمُولُ 

 

والموت يُغيب الغَثَّ والثمين، المؤمن والكافر، الجاحد والشاكر، الصالح والطالح؛ لكن لكُلٍّ سيرته، ولكُلٍّ مصيرُه!

قد ماتَ قومٌ وما ماتَتْ مكارِمُهم   ***   وقد عاشَ قومٌ وهُمْ في الناسِ أموات 

 

الموت يُزلزل كيان المؤمن، يُقلِق مضجعه، ويفزعه ويفجعه؛ لأن الذي يجمعه الإنسان في عمر مديد يخسره في ثانيةٍ واحدةٍ؛ بل إن كل ممتلكات الإنسان، ومكانة الإنسان، وشأن الإنسان متعلِّق بقطر شريانه التاجي، قد يضيق أو ينسدُّ فيموت، متعلق بسيولة دَمِه، قد تتجمَّد فيرحل من الدنيا، قد يتعلَّق بنمُوِّ خلاياه، فيحدث لها ضمور في عضلاته فيمرض ومِنْ ثَمَّ يموت! وبذلك يحول الموت بينه وبين ما يشتهي، بينه وبين ما يؤمِّل من مشاريع وممتلكات وضيعات!

 

الموت يأتي بغتةً، لا يرسل إشارة فينذر، ولا يطرق بابًا فيستأذن؛ لذلك على المسلم أن ينتبه من غفلته، وينهض من عثرته، "قال علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه: مَنْ أراد صاحبًا فاللهُ يكفيه، ومَنْ أراد مؤنِسًا فالقرآنُ يكفيه، ومَن أراد غِنًى فالقناعةُ تكفيه، ومَن أراد واعظًا فالموتُ يكفيه، ومَن لم يجِدْ واحدًا في هذه الأربع فلا خير فيه والنار تكفيه".

 

أولئك هم الغافلون، حجزوا لأنفسهم في جهنم، كيف؟! {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، عن الحق والسير في الخير تجدهم يُعطِّلون جوارِحَهم ويُجمِّدون عقولهم، ويصمُّون آذانَهم، ويعمون أبصارَهم، "لهم قلوبٌ لا يعقلون بها، فلا يرجون ثوابًا ولا يخافون عقابًا، ولهم أعينٌ لا ينظرون بها آيات الله وأدلته، ولهم آذانٌ لا يسمعون بها آيات كتاب الله فيتفكَّرُوا فيها، هؤلاء كالبهائم التي لا تَفْقَهُ ما يُقال لها، ولا تفهم ما تبصره، ولا تعقل بقلوبها الخير والشر فتُميِّز بينهما؛ بل هم أضلُّ منها؛ لأن البهائم تُبصِر منافعها ومضارَّها، وتتبع راعيها، وهم بخلاف ذلك، أولئك هم الغافلون عن الإيمان بالله وطاعته"؛ ابن كثير.

 

إن الغفلة حجاب عظيم على القلب يجعل بين الغافل وبين ربِّه وحشة عظيمة لا تزول إلَّا بذكر الله تعالى، وإذا كان أهل الجنة يتأسَّفُون على كل ساعة مرَّتْ بهم في الدنيا لم يذكروا الله فيها، فما بالك الغافل اللاهي؟! {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100].

 

أيها المسلمون؛ إنهم عند نزول الموت بساحتهم يتمنَّون أن يُؤخِّروا لحظات قلائل، والله ما تمنَّوا عندها البقاء حبًّا في الدنيا، ولا رغبةً في التمتُّع بها؛ ولكن ليتوبوا ويستدركوا ما فات، لكن هيهات {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].

 

كيف لا والغافلون يُضيِّعون الوقت في غير فائدة؟! فإن الوقت نعمة، ولا يُضيِّعه إلا غافل؛ لأنه لا يعرف أن الوقت هو أغلى ما يملك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلمَ: «نِعْمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ».

 

كيف لا والغافلون يكثرون الكلام في غير ذكر الله تعالى؟! عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: "لا تُكثِرُوا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي، ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "إن مجالس الذكر مجالس الملائكة، ومجالس اللغو والغفلة مجالس الشياطين، فليتخيَّر العبد أعجبهما إليه وأَولاهما به، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة".

 

كيف لا والغافلون يتكاسلون عن الطاعات وعلى رأسها الصلاة؟! {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142]، إنه حال المنافقين وديدن الغافلين.

 

كيف لا والغافلون يستصغرون المحرمات ويتهاونون بها؟! قال عبدالله بن مسعود رَضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبَه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبَه كذُباب مرَّ على أنفِه فقال به هكذا"، فقال أبو شهاب: "بيده فوق أنفه".

 

كيف لا والغافلون يألفون المعصية ومحبَّتها والجهر بها؟! عن أبي هريرة رَضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلمَ أنه قال: «كُلُّ أُمَّتي معافًى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعملَ الرَّجلُ بالليل عملًا ثم يُصبحُ وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستره ربُّه ويصبح يكشف ستر الله عنه».

تزوَّد من التُّقَى فإنَّك لا تــــــــدري   ***   إذا جنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلى الفجــــر 

فكم من صحيحٍ ماتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ   ***   وكَمْ من عَليلٍ عاشَ حينًا من الدَّهْر 

 

كيف لا والغافلون مفتونون بحب الدنيا؟! فحُبُّ الدنيا رأس كل خطيئة، وأصل كل بلية، ما هي إلا زينة وتفاخُر، تباهٍ وتكاثُر، زهو ولهو، غفلة وسهو، والغفلة هي ثمرة حُبِّ الدنيا، قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ *يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 6، 7].

 

وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: "وَاللَّهِ لَبَلَغَ من أحدهم بدنياه أن يَقْلِبَ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ".

 

كيف لا وأنت تجدهم يجلسون بعضهم مع بعض، كل حديثهم عن الدنيا، عن المال، عن النساء، عن الشهوات، عن الربح عن الخسارة، وهم عن الآخرة هم غافلون؟! فالاغترار بالدنيا والانغماس في شهواتها سبب كبير للغفلة، قال الله عز وجل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].

 

كيف لا وهم في سُكْر مُتيَّم بحب الدنيا؟! في سهرات حمراء، وتجمُّعات صفراء، يجاهرون بالمعصية، والشمس في كبد السماء، ويبيعون القضية مع أول فتنة عمياء، وكأنهم مُخلَّدون فيها، وكأنهم لن يخرجوا منها بغير شيء من متاعها مع أن القرآن يهتف بنا: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]؛ لذلك لا يفيقون منها إلا في معسكر الموتى نادمين، متحسِّرين، ((الناس نيامٌ فإذا ما ماتوا انتبهوا))، الواحد منهم كأنه لم يُخلَق للعبادة؛ وإنما خُلِق للدنيا وشهواتها، فإنه إن فكَّر فكَّر للدُّنْيا، وإنْ أحَبَّ أحَبَّ للدُّنْيا، وإنْ عمِلَ عمِلَ للدُّنيا، فمن أجلها يُخاصم ويُزاحم ويُقاتل، وبسببها يتهاون، ويترك كثيرًا من أوامر الله عز وجل، وينتهك المُحرَّمات.

 

كيف لا وهم جاهلون بالله عز وجل وأسمائه وصفاته؟! والحق أنَّ كثيرًا من الناس لم يعرفوا ربَّهم حقَّ المعرفة، ولو عرفوه حقَّ المعرفة ما غفلوا عن ذكره، وما غفلوا عن أوامره ونواهيه، ولزالت بدعائهم الجبال؛ لأن المعرفة الحقيقية تُورِث القلبَ تعظيمَ الربِّ ومحبَّته وخوفه ورجاءه، فيستحي المؤمن أن يراه ربُّه على معصية، أو أن يراه غافلًا، فأُنْس الجاهلين بالمعاصي والشهوات، وأُنْس العارفين بالذِّكْرِ والطاعات.

 

كيف لا والمعاصي تتراكم عليهم كأنها الجبال؟! وهي من أعظم أسباب الغفلة، قال الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].

 

كيف لا وصحبتهم سوء وسيرتهم أسوأ؟! والصاحب ساحب، والطبع يسرق من الطبع، فمن جالس أهلَ الغفلة والجرأة على المعاصي سرى إلى نفسه هذا الداء: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا *يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا *لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29].

 

عن أبي هريرة رَضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: «الرجُلُ على دينِ خليلِه، فليَنْظُر أحدُكم مَنْ يُخالِل»، وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخُدْري رَضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلمَ أنه قال: «لا تُصاحِب إلا مؤمنًا ولا يأكُل طعامَك إلا تقيٌّ».

 

وقد قيل:

عَنِ المَرْءِ لا تسألْ وسَلْ عَنْ قَرِينِهِ   ***   فكُلُّ قرينٍ بالمقارِنِ يَقْتَدي 

 

كيف لا وقد غرَّهُم طولُ الأمل؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وتَشِبُّ منه اثنتانِ: الحِرْصُ على المالِ، والحِرْصُ على العُمُرِ»، وقال عليُّ بْنُ أبي طالب رَضي الله عنه: ارتحلت الدنيا مُدْبِرة، وارتحلت الآخرة مُقْبِلة، ولكل واحدةٍ منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرةِ ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وصدق ربُّنا {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7، 8].

 

أيُّها المسلمون؛ حتى نفيق من الغفلة لا بُدَّ من معرفة الله تعالى حقَّ المعرفة ومعرفة نبيِّه صلى الله عليه وسلمَ، ومعرفة دينه وشرعه، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وعن معاوية رَضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلمَ أنه قال: «مَنْ يُرِد اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْه في الدِّين».

 

ذِكْرُ اللهِ حياةٌ، ونسيانُه مواتٌ: «مَثَلُ الذي يذكُرُ ربَّه والذي لا يذكُرُه مَثَلُ الحَيِّ والمَيِّتِ».

 

حتى نفيق من الغفلة لا نترك تلاوة القرآن واختيار مجالس الذكر؛ فهي العلاج الناجع لعلاج غفلة القلوب، فعن أنس بن مالك رَضي الله عنه، أن رسول الله قال: «إذا مَرَرْتُم برياضِ الجنةِ فارْتَعُوا»، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: «حِلَقُ الذِّكْرِ».

 

قال خبَّاب بن الأرتِّ رَضي الله عنه: "تقرَّب إلى الله ما استطعْتَ، واعلم أنك لن تتقرب بشيء أحب إليه من كلامه"، وقال عثمان رَضي الله عنه: "لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربِّكم"، وقال عبدالله بن مسعود رَضي الله عنه: "مَنْ أحَبَّ القرآنَ فهو يُحِبُّ اللهَ ورسولَه".

 

حتى نفيقَ من الغفلة يجب أن نحافظ على الصلوات الخمس مع الجماعة؛ عن أبي هريرة رَضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: «مَنْ حافظ على هؤلاءِ الصلواتِ المكتوباتِ لم يُكتَب من الغافلين»، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلمَ، أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: «مَنْ حافظَ عليها كانَتْ له نورًا وبُرْهانًا ونجاةً يومَ القيامة، ومَنْ لم يحافظْ عليها، لم يكن له نورٌ، ولا بُرْهانٌ ولا نجاةٌ، وكان يومَ القيامة مع قارون وفِرْعون وهامان وأُبَيِّ بن خَلَف».

 

وحتى نفيق من غفلتنا نحرص على قيام الليل، ولو بعشر آيات في قيامه، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلمَ أنه قال: «مَنْ قامَ بعشر آياتٍ لم يُكتَب من الغافلين، ومَنْ قامَ بمائةِ آيةٍ كُتِب من القانتينِ، ومَنْ قامَ بألفِ آيةٍ كُتِبَ من المقنطرين».

 

وعن سهل بن سعد رَضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي الكريم صلى الله عليه وسلمَ فقال له: «يا محمدُ، عِشْ ما شئتَ فإنك ميِّتٌ، وأحبِبْ مَن شئتَ فإنك مُفارِقُه، واعمَل ما شئتَ فإنك مجزيٌّ به، واعلم أنَّ شرفَ المؤمن قيامُ الليل، وأنَّ عِزَّهُ استغناؤُه عن الناس».

 

حتي نفيق من الغفلة يجب الإكثار من ذكر الموت؛ عن أبي هريرة رَضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: «أكثِرُوا ذِكْرَ هاذمِ اللَّذَّاتِ»، وفي لفظ لابن حِبَّان: «أكْثِرُوا ذِكْرَ هاذِمِ اللَّذَّاتِ، فما ذَكَرَه عبدٌ قَطُّ وهو في ضيق إلا وَسَّعَهُ عليه، ولا ذَكَرَه وهو في سَعةٍ إلَّا ضَيَّقَه عليه».

 

اللهُمَّ اجعلنا لك ذاكرين شاكرين مُنيبين مُخبتين يا رب العالمين.

________________________________________________________________

الكاتب: خميس النقيب

  • 2
  • 0
  • 3,689

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً