تلاقح الحضارات والحوار مع الآخرين
تتضح الرؤية من خلال الحوار، وهو ما يسمى الآن بحوار الحضارات، ويسميه البعض بتلاقح الحضارات، ومع إدراك الفرق بين المصطلحين إلا أن كليهما فيه نوع من اللقاء القائم على قبول بعض مقومات حضارة لحضارة أخرى...
لعله من المناسب هنا أن يكتب كاتب قادر بعض الأفكار الصادقة والانطباعات الأولية عن مجتمع غير مجتمعه، ونحن نعلم أن كثيرًا من الكتابات والآراء حول المجتمعات الأخرى تحاول - في مجملها - أن تقلل من أهمية هذه المجتمعات في سبيل إبراز أفضلية المجتمع التي تعيش فيه.
لا بد من التأكيد على أن هناك مجتمعات فاضلة ومجتمعات مفضولة، ولكن المجتمعات الفاضلة لا تخلو من هَنَاتِ البشر التي لا بد منها في حياة البشر، ويخطئ من يحاول أن يطهر أي مجتمع من تصرفات البشر التي نزلت الكتب السماوية لتقول كلمتها فيها، ولتحدد موقف القائمين على المجتمع منها.
والمجتمعات المفضولة لا تخلو أيضًا من جوانب تفتقر إليها المجتمعات الفاضلة، وتلكم من سنن الله في خلقه، ويخطئ من يحاول أن يلصق كل نقيصة في المجتمعات المفضولة فقط؛ لأنها مجتمعات مفضولة.
أقول هذا وأنا أسمع أحيانًا نقاشًا قائمًا على هذه النظرات المتميزة التي ينقصها العدل في الحكم، ولعل السبب في هذه النظرات الشعور بأن هذه المجتمعات ضد القيم والمبادئ التي يدين بها مجتمعنا، وأن هذه المجتمعات تسعى سعيًا غير معلن للقضاء على هذه القيم والمبادئ القائمة على الوحي الإلهي، ولعل مجرد كونها قيمًا ومبادئ إلهية يُعفي من الخوف من أي مجتمع آخر للقضاء عليها، ما دامت محفوظة من الباري عز وجل.
وواقع الحال أن المجتمعات الأخرى مقبلة الآن على تبني هذه القيم والمبادئ بشكلها الشامل المتكامل، الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إحلال الدين الإسلامي محل المعتقدات الأخرى، سواء كانت بقايا من رسالات سماوية، أو كانت مرية مجرد التفكير فيها يدعو إلى البعد عنها والبحث عن قوة عظمى يتعلق بها المرء ليؤمن على حياته ومصيره بعد مماته.
حقًّا إن هذا الاطمئنان من عدم قدرة المجتمعات الأخرى على القضاء على القيم والمبادئ الربانية لا يعني الاستكانة والاتكالية التامة، ومع هذا فإنه لا بد من وضع هذا المبدأ في الاعتبار، ومحاولة تحويل المجهود إلى المهمة الأسمى، وهي انتشال المجتمعات الأخرى من الدوامة التي تعيش فيها، وإبراز البديل لهذا الخلط إبرازًا يضع الآخرين أمام الأمر الواقع، ثم يترك مقياس التأثير والتأثر لله تعالى يحكم به بمشيئته المطلقة، وهنا سيكون التأثير قويًّا عندما لا يواجه الآخرين بالحط من قيمهم ومبادئهم التي يتبنون كثيرًا منها عن قناعة، ويتبنون بعضًا منها لأنهم لا يعرفون هناك بديلًا عنها، والذي يبدو أن الشخص ينتقد مجتمعه وبعض التصرفات فيه مع أقرانه من أبناء المجتمع نفسه، ولكنه يحتفظ عندما يكون الجانب الآخر خارج الإطار، حتى لو كان هذا الجانب الآخر قد جاء ليخرج هذا المجتمع من ظلام دامس إلى نورٍ شامل، وربما أدى هذا الأسلوب في المواجهة إلى التأخير في قبول ما جاء به هذا المصلح أو الموجه أو الداعية، أو المناقش، أو أيًّا كانت مهمته، ولعل من الأولى لمن أراد استغفال الآخرين في قيمهم أن يتحدث عن نفسه، وألا يتمثل في هذا قيمًا يريد لها أن تحل محل القيم البالية التي ينتقدها.
كان أحدهم يتحدث عن الوضع في الفليبين بعد مغادرة ماركوس وتولي أكينو، فكان يقول كلامًا لمجموعة من الفليبينيين عن السلف والخلف لا يريدون سماعه عنهما، مهما كانا غير مقبولين، وما كان منهم إلا أن تضايقوا وبحثوا عن مخرج لهذا، وعندما وجدوه تشبثوا به، فكان التأثير، وكان آخر يشتم المجتمعات الغربية في الوقت الذي تراه يعيش فيها ولا يقبل مغادرتها والتعامل مع أي مجتمع غيرها، وكان ثالث قد وطد النفس على الحط من كل ما يأتي من الغرب، حتى ولو كان من الأشخاص الذين يتبنون القيم والمبادئ التي يتبناها هذا الشخص، إلا أنه يحس أن هذه القيم لا بد وأن تتأثر من قريب أو بعيد بالقيم الغربية - التي يراها جملة وتفصيلًا غير مقبولة لتقود أمة - وهو وإن كان على شيء من الحق في هذا فلا يعني أنه لم يجانب الصواب في حكمه العام الذي جعله من مسلمات موقفه من هذا المجتمعات.
والعجيب في هذا أن مثل هذه النماذج إنما اعتمدت على الدعايات والإشاعات والأقوال البعيدة عن المعايشة، لتحكم من خلالها على المجتمعات الأخرى بأحكام لها أساس من الصحة، ولكنها ليست بالضرورة صحيحة في مجملها، وكثيرًا ما يتحول الموقف إلى الدفاع الذي يأخذ طابع الهجوم على المجتمعات الأخرى، ومجتمعنا ليس بحاجة إلى من يدافع عن قيمه ومبادئه الربانية بقدر ما هو بحاجة إلى من يوضح هذه القيم والمبادئ للآخرين، ويزيل عنها الغبش الذي ألبست إياه من قِبَل بعض الذين لَوَوْا هذه القيم والمبادئ لتناسب منطلقات بشرية منحرفة عن الخط المستقيم، ومتى ما اتضحت الرؤية للآخرين من خلال الإيضاح والممارسة وجدنا أن المجتمعات الأخرى تُقبِل باندفاع لتبني هذه القيم والمبادئ بشكلها الشمولي الذي جاءت به.
وستتضح الرؤية من خلال الحوار، وهو ما يسمى الآن بحوار الحضارات، ويسميه البعض بتلاقح الحضارات، ومع إدراك الفرق بين المصطلحين إلا أن كليهما فيه نوع من اللقاء القائم على قبول بعض مقومات حضارة لحضارة أخرى، في الوقت الذي يكون فيه العكس صحيحًا، فلا يقتصر الأمر على التلقي من جانب واحد فقط.
وإذا كان البعض قد يحتفظ على فكرة تلاقح الحضارات وفكرة حوار الحضارات فإن هذا نابع من الخوف على الحضارة الإسلامية من أن تطغى عليها مقومات الحضارات الأخرى فتمسخها وتحل محلها، وهذا قطعًا لن يكون بسبب من اليقين في حفظ هذه الحضارة ومقوماتها، وهذا الحفظ لم يمنع في السابق، ولن يمنع في الحاضر والمستقبل من أن تستفيد الحضارة الإسلامية من إيجابيات الحضارات الأخرى، خاصة أن الحضارة الإسلامية إنما هي امتداد لحضارات سابقة كانت تقوم على الوحي الإلهي قبل أن يتدخل في تعاليمها الإنسان فيعدل فيها ويحذف ويضيف.
وعلى هذا فالحوار مطلوب عندما يكون المحاورون على درجة قوية من الاطلاع والفهم والإدراك والتطبيق للحضارة الإسلامية، فتجد عندهم المبررات للثغرات التي مرت بها هذه الحضارة في فترات ضعفها عبر السنين الماضية، وليس هناك بأس، من هذا المنطلق، من فتح باب الحوار، ليس رغبة في التلاقي، ولكن في التوضيح والكشف عن القيم السامية لهذه الحضارة لدى عالم خيمت عليه قيم جرت إلى مصائب بدأ يبحث في الخلاص منها ومن القوانين التي ساعدت على قيامها وانتشارها في تلكم المجتمعات، ولا يكفي هنا أن نتوقف عند انتقاد هذه المجتمعات والحط منها إذا كنا غير قادرين على تقديم الحلول لها..والله المستعان.
___________________________________________________
الكاتب: أ. د. علي بن إبراهيم النملة
- التصنيف: