رباعية الفلاح

منذ 2022-10-06

إن للفلاح أربعة موارد يمشي عليها السالك لربه تعالى، حتى ينظمه بإذنه ورحمته في سلك المفلحين، وهي: سلامة القلب، وقوة الإرادة، وصحة العلم والذكاء، فسلامة القلب وقوة الإرادة وصحة العلم...

إن للفلاح أربعة موارد يمشي عليها السالك لربه تعالى، حتى ينظمه بإذنه ورحمته في سلك المفلحين، وهي: سلامة القلب، وقوة الإرادة، وصحة العلم والذكاء، فسلامة القلب وقوة الإرادة وصحة العلم، عليهما المعول بإذن الله تعالى، أما العقل فيكفي في مناط تكليفه تمييز الخير من الشر، فالقلب هو موضع نظر الرب جل وعلا، فأهم المهمات صلاحُه وطيبه ونقاء موارده، حتى يكون نقيًّا طاهرًا طيبًا، تعينُه بإذن ربه إرادةٌ قوية حازمة صابرة، لا تلين قناتها لشدائد البلايا وكبريات الرزايا، بل تزيدها قوةً ومضاءً وعزمًا، والطريق الموصل إلى رضوان الله تعالى مفتقر لعلم صحيح يضيء الطريق لنفوذ البصيرة، وأنَّى ذلك إلا بالوحي المنزل وعلى قدر العلم النافع كمًّا وكيفًا تكون الرفعة وعلو المراتب بإذن الله، فإن ساعد على ذلك ساعدُ ذكاء وحِدةُ نباهة وجودة ذهن، كان المُرتقى العظيم الجليل إلى الله تبارك وتعالى بإذنه ولطفه ورحمته.

 

وبحمد الله تبارك وتعالى فلم يجعل الله الذكاء شرطًا لرضاه وجنته، إنما علقه على القلب السليم، فقال سبحانه: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، فالقلب لا عذر لأحد في بذل وسعه لسلامته لتعلق المصير المحتوم بذلك، ولكن يحتاج المؤمن لجرعات أرادة حازمة لتطهير ذلك القلب، فالقلب هو الوعاء القُرباني للإله العظيم سبحانه، والإرادة هي الطاقة المُحركة والعاملة والحاملة لهذا الوعاء العجيب، أما العلم فهو النور المضيء لجهات بقعة الابتلاء لهذا الإنسان، فيضيء له سبيله الموصل - إن سلكه وثبت عليه - لجنات النعيم، وليس هذا الضياء سوى الوحي المقدس المنزل، لهذا بعث الله الرسل وأنزل الكتب، ولكن لا تمييز للمرء بدون عقلٍ يسمح له بالمعرفة للحال والمآل والخير والشر على الإجمال، وحسن التصور لما حوله وما مضى وما يستقبل، ويمكنه من التعامل مع جوارحه الحسية والمعنوية، حتى تكون القيادة له والسيطرة لديه، وهذا القدر من العقل هو القدر الكافي لحمل الأمانة وهو المناط للتكليف، أما ما زاد عليه فهو الذكاء، والذكاء مراتب عديدة وأنواع متشعبة، ويزيد حساب التكليف مع زيادة حدته وقوته.

 

لذلك فالذكاء سلاح ذو حدين فليس كله خيرٌ، فإن استعمله في طاعة الله قدر وسعه، فهو معراج هائل سريع لنيل القربات العظيمة؛ لأنه ينفذ به لكوامن العلوم ويحلق به في سماوات المعارف، ويحصل به فوائد غيوث الوحي، فيحفظ الكتاب والسنة ويغوص في معانيهما، ويربط بينها، ويحلل العُقد ويجمع الأشتات، ويفرق بين ما فرقته الشريعة، ويجمع بين ما ماثلَتهُ حقيقة وإن اختلف ظاهرًا، ويقارن بين كلام العلماء، فيعرف مناطات اختلافهم ومسائل إجماعهم، ويستوعب ذلك بما أمدَّه الله بذكائه، فيحيل زبدة هذا العلم لقلبه الطاهر السليم، ويستعين بإرادته الصابرة الشديدة للعمل به في نفسه أولًا، ثم بنشره ونفع الناس به، هناك يكون – بلطف الله تعالى – من أهل العلم النافع والعمل الصالح، وممن رفعهم الله تعالى، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

 

ولكن الذكاء الثاقب بالمقابل بابٌ كبير مشرع على مفاتن الدنيا التي تلوح وتتزين للأذكياء ولا يراها البسطاء؛ لأنه حقيقة الذكاء أنه نفوذ الإدراك للأشياء كما هي، وعلى قدر الذكاء يكون النفوذ الإدراكي كمًا بإدراك الأمور البعيدة والخارجة عن المألوفات المعتادة، وكيفًا عن طريق النفوذ لتفاصيل التفاصيل، مما هو قريب جدًّا حتى غاب بقربه عن إدراك العامة، فكثيرٌ من موارد وساوس الشيطان الخفية سببها ذكاء لم يوفَّق صاحبه لاستعماله في مرضاة ربه، فعاد عليه خيبة ووبالًا.

 

عباد الرحمن؛ إن الذكاء يكون خيرًا للمرء إذا كانت طهارة قلبه وقوة إرادته مساوية له أو أكبر منه؛ لأن نفوذه لإدراك الأشياء يكون دومًا محروسًا بقلب طاهر وإرادة صلبة، فهنا تكون حدة الذكاء وقوته وقودًا هائلًا ممتعًا مريحًا يطوي المكان والزمان بثاقب بصيرته، ويرفع الهمة عاليًا لأسقف السماوات بنفوذ إدراكه؛ لأنه حينها يستعمل العلم ويستفيد منه خير الفوائد، ويُسخر علومَ دنياه لخدمة آخرته، فيحصل النفوذ في جواهر العلوم الربانية بالقرآن العظيم، والضياء الرسالي بالسنة المحمدية، فتنكشف له غوامض العلوم المنغلقة على غيره لا لعدمها، ولكن لتشابهها أو تفرُّقها أو نسيانها أو كثرتها، ونحو ذلك، ولكن البر الرحيم جمع له الله قلبًا طيبًا سليمًا، وإرادة رجولية صلبة، وعلمًا من الوحي صافيًا من أكدار الأهواء وأخلاطِ العلوم الأرضية الزائفة، وذكاءً نافذًا لجواهر المعاني دون الانتظار طويلًا على عتبات الرسوم والشكليات، ومن أمثلة أولئك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ولا أزكي على الله أحدًا.

 

والمقصود هو أن المؤمن المريد للفلاح لا يستغني عن الصبر، فالصبر هو المُعيلُ – بإذن الله – للإرادة، ومن لا صبر له فإرادته ضعيفة غير مستحقة لنيل معالي الأمور، ولكن إن قوى الله صبر المرء قوِيت على إثره إرادته، فاستطاع – بتوفيق الله له – أن يطهر قلبه من أدران الخطايا ومشوشات البصيرة، ثم استعمل صبره في تحصيل العلوم النافعة لدينه، المغذية لإيمانه، العائدة عليه بحلاوة العبادة ولذة المعرفة، ثم حرس قلبه وعقله وإرادته بصبره لله ما دام قلبه يخفق خفقات الابتلاء في دار الابتلاء، والله المستعان.

 

إن المؤمن حين ينبض فؤاده بمعاني الدين ومقامات الإسلام، فنبضُه محتاج لجرعات صبر من لدن رب العالمين سبحانه، فهو مضطر إلى الاصطبار لحمل نفسه الإمارة على أحكام التنزيل العزيز، وهو مفتقر إلى كل معاني الصبر أيضًا حينما يسير على خُطا المرسلين حين تنطمس سُبلهم وتندرس خطاهم تحت ركام حظوظ دَنايا النفوس وحطام فراغ الرؤوس، فرغبوا العاجلة الفانية دون الآخرة الباقية.

 

فالمؤمن الموفَّق هو من يتحصن بجُنة الصبر عند ادْلهام الملمات وانصباب الكُربات، وحينما يرى ببصره وبصيرته أكثرَ الناس قد استبدلوا بالتوحيد شركًا وباليقين شكا، فإنه يضع كفهُ على نابض قلبه صاعدًا ببصره إلى سماء الله الفسيحة يتلو مثاني الصبر في كتاب ربه، ضارعًا لإلهه بكل رُوحه وجوارحه ونفسه وكِيانه - أن يُفرغ على قلبه القُلبِ صبرًا يُثبتُه حين تزيغُ أقدام الإقدام عن مراضي الملك العلام، ويا رب هل إلا عليك المعول.

بارك الله لي ولكم..

__________________________________________________

الكاتب: إبراهيم الدميجي

  • 1
  • 0
  • 601

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً