أوروبا وشبح الشتاء القارس دون الغاز الروسي
المثير هنا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد فَطِن إلى لُعبة توظيف الشتاء القارس شديد البرودة كسلاح، ليبدأ في التلويح بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا، ومِن ثمَّ إحداث أزمة طاقة لكسر إرادة حلف الناتو؛ الداعم الأول لـكييف عسكريًّا واقتصاديًّا
في عام 1941م، وبينما كانت دول المحور تستعدّ بمشاركة 4.5 مليون جندي من قواتها للبدء في عملية بارباروسا -وهو الاسم الرمزي الذي أطلقته على عملية غزوها لأراضي الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية-؛ كان الشتاء لا يزال يُلقي بظلاله على الأجواء، كانت أهداف ألمانيا النازية من وراء المعركة تنصبُّ على السيطرة على غرب الاتحاد السوفييتي واستيطان الألمان هناك، ومِن ثمَّ الاستيلاء على احتياطي النفط من القوقاز والموارد الزراعية من الأراضي السوفييتية.
لكن الشتاء القارس أفسَد الطموحات الألمانية؛ فالجنود الذين جِيءَ بهم من مناطق دافئة نوعًا ما، لم يكونوا قادرين على التعامل مع طبيعة الشتاء السوفييتي شديد البرودة. وبعد فشل معركة موسكو بدأ النازيون في مراجعة جميع خططهم، وقد أصدر الزعيم النازي أدولف هتلر بيانًا أشار فيه أن دخول فصل الشتاء والبرد الشديد كانا من بين الأسباب التي أدَّت إلى فشل العملية العسكرية.
الآن وبعد كل هذه السنوات من عملية بارباروسا، ومِن قبلها فشل نابليون في معركة بورودينو لغزو روسيا؛ حيث كان للطقس البارد أيضًا دوره المهم في هزيمته، يبدو أن التاريخ يُعيد نفسه ويكرّر أحداثه، لكن هذه المرة تبدَّلت الأدوار وبدأت روسيا -وريثة الاتحاد السوفييتي- حربًا على أوكرانيا، تطمح من ورائها إلى تحقيق عدة أهداف ومطامع لا تقل عن أهداف ألمانيا النازية.
والمثير هنا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد فَطِن إلى لُعبة توظيف الشتاء القارس شديد البرودة كسلاح، ليبدأ في التلويح بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا، ومِن ثمَّ إحداث أزمة طاقة لكسر إرادة حلف الناتو؛ الداعم الأول لـكييف عسكريًّا واقتصاديًّا.
أهميـة الغـاز الروسـي
بينما تقترب ميادين القتال من الشتاء؛ تتزايد النكسات المتكررة للقوات الروسية في مناطق دونباس وخيرسون، فيما تشير بعض التقارير إلى نقص الإمدادات الحيوية للروس وانهيار الروح المعنوية للجنود في ظل الإرهاق القتالي المستمر والخسائر الكبيرة في الأرواح، وفي المقابل يُحْرِز الهجوم الأوكراني المضادّ تقدُّمًا ملحوظًا خلال الفترة الأخيرة في الجنوب والشرق.. كلّ هذه الأسباب تدفع بوتين إلى التفكير في كيفية تخفيف الضغط عن قواته وعكس مسار المعركة.
وفي ظل تعثُّر الأسلحة القتالية سيلجأ بوتين إلى أسلحة أخرى بديلة؛ حيث تُعدّ روسيا مُصدِّرًا ضخمًا للمواد الغذائية والأسمدة والنفط والغاز، وهو ما جعلها تتمتع بنفوذ كبير على الاقتصاد الأوروبي، وقد نجح بوتين ببراعة خلال العقد الماضي في جعل الأوروبيين يعتمدون على الغاز الروسي الرخيص بشكل أساسي في تشغيل المصانع وتوليد الكهرباء وتدفئة المنازل.. والآن حان الوقت لكي يستخدم هذا الغاز أداةَ ضغط ضد دول الناتو والاتحاد الأوروبي التي تدعم أوكرانيا. ففي أوائل سبتمبر الجاري أعلنت شركة الطاقة الروسية العملاقة “غازبروم” أنها ستُغلق خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 1»، الذي يُوزّع الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر ألمانيا، مشيرةً إلى أنه لن يُستأنف عمله بالكامل بسبب مشكلات فنية تتعلق بصيانته، وزعمت أنه لا يمكن حلّ تلك المشكلات بسبب العقوبات التي تمنع العديد من التعاملات مع روسيا.
وقد اعتادت روسيا على تصدير 40٪ من غازها إلى أوروبا؛ مما جعله أحد ركائز الاقتصاد في القارة العجوز، صحيح أنه لا يزال هناك بعض الغاز الروسي يتدفق إلى أوروبا عبر خط أنابيب يمر عبر أوكرانيا إلى سلوفاكيا، وآخر يعبر البحر الأسود إلى تركيا ثم إلى بلغاريا، لكنَّ حجم الغاز المارّ خلالهما قد تم تخفيضه أيضًا منذ الصيف الماضي، مما أدَّى ذلك إلى ارتفاع حادّ في الأسعار.
تكمن أهمية الغاز الروسي في انخفاض تكلفته مقارنةً بأسعار المنافسين، مما يجعله مصدرًا رئيسيًّا لتوليد الكهرباء وتشغيل الآلات وتدفئة المنازل، وفيما تهدّد أسعار الطاقة -المرتفعة بالفعل- بالتسبُّب في ركود الاقتصادات الأوروبية المضطربة بالأساس من خلال تضخم قياسي، وخاصةً خلال فصل الشتاء المقبل؛ سيعاني المستهلكون من ارتفاع تكاليف الغذاء وأسعار الوقود والمرافق.
الشركات بدورها تخشى من الانهيار في حالة ارتفاع أسعار الغاز بشكل مُبالَغ فيه؛ إذ لا يمكنها الانتقال بين عشية وضحاها إلى مصادر طاقة أخرى، وقد تتخلى الشركات كثيفة الاستهلاك للطاقة ببساطة عن أوروبا وتنتقل إلى بلدان أخرى.
ونظرًا لأهمية الغاز الروسي والآثار السلبية لانقطاعه؛ فقد أشارت استطلاعات رأي عديدة إلى أن هناك أصوات أوروبية عديدة بدأت تطالب بتخفيف العقوبات عن روسيا؛ لضمان استمرار إمدادات الطاقة خلال فصل الشتاء ومِن ثَم استقرار الوضع الاقتصادي، إلا أن قادة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو أوضحوا أنه من غير المعقول سياسيًّا تخفيف العقوبات القاسية؛ لأن التراجع عنها يعني «الانصياع والرضوخ لدولة لا تغزو جزءًا من أوروبا فحسب، بل تَرتكب أيضًا بوقاحة جرائم حرب دون أن تبالي بالمجتمع الدولي»؛ في ازدواجية غريبة اعتدنا عليها من قادة الغرب لعقود مضت، ففي أوكرانيا.. ما يفعله الروس هي جرائم حرب تستحق العقاب وعدم التهاون، فيما يتم غض الطرف عما حدث -ولا يزال يحدث- في فلسطين والعراق وسوريا وغيرها.
ســلاح الـطـاقـة
رهان بوتين الأساسي الآن هو أن الأوروبيين سيختارون الدفء خلال ليالي الشتاء على استقلال أوكرانيا ومواصلة دعمها، وأن مسألة الطاقة يمكنها أن تُحْدِث اختراقًا للوحدة الموجودة بين الحكومات الغربية، لا سيّما في ظلّ الفروق الموجودة بين اقتصاداتها، فعلى سبيل المثال لا تشهد المجر الآن أزمة كبيرة في أسعار الطاقة؛ لأن زعيمها فيكتور أوربان -الذي يميل نسبيًّا في توجهاته إلى بوتين- أعلن صراحة رفضه للعقوبات ضد موسكو، وبالتالي لم تشهد بلاده أي انخفاض في إمدادات الغاز لديها، بل عملت الحكومة الروسية على زيادة حصة المجر من الغاز.
وفي حين تتمتع المجر بوفرة من الغاز الروسي وانخفاض في أسعار الطاقة؛ تواجه ألمانيا وفرنسا والتشيك -وهي دول مناهضة بشدة لبوتين- ارتفاعًا كبيرًا في الأسعار.. لقد أيقن بوتين أن الطاقة هي سلاح استراتيجي أخير يحمله بيده، ولا بد من أن يُحْسِن استغلاله في الحرب الاقتصادية المتبادلة مع الغرب، فأيّ عقوبات أخرى من الغرب ضد موسكو سَتُقَابل بمزيد من التخفيض في إمدادات الطاقة، مع عواقب واضحة على الشركات والمستهلكين الأوروبيين.
ومع استمرار الحرب، يتوقع الخبراء أن حكومات الدول الغربية ستتعرَّض لضغوط كبيرة من الناخبين الذين سيعانون من ارتفاع الأسعار وبرودة الشتاء، وسيزداد الأمر سوءًا إذا حدث توقُّف كامل لصادرات الغاز الروسية إلى أوروبا دون وجود بدائل مضمونة بدون كلفة إضافية، مما سيؤدي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي خلال العام المقبل بما يقدر بنحو 1.5 إلى 2 نقطة مئوية، ومن المحتمل أن يؤدي هذا أيضًا إلى ركود يبدأ بنهاية هذا العام؛ حيث ستشهد ألمانيا وإيطاليا انكماشًا في الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، فيما حذَّر وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لو مير، من أن الوقف التام للغاز الروسي سيُشكّل تحديًا خطيرًا لفرنسا، مؤكدًا: «سيكون عام 2023 أكثر صعوبة؛ لأن نموّنا الاقتصادي يعتمد على الغاز الطبيعي الروسي».
في الحقيقة إن من المتوقع أن يكون الشتاء القادم قاسيًا، وبالتالي سيتعين على الجميع فرض تدابير احترازية لتخفيف وطأته في ظل عدم موثوقية روسيا كمصدر للطاقة، ثمة شعوب في أوكرانيا ودول البلطيق وبولندا ومولدوفا وجورجيا والدول التي كانت يومًا ما تحت سيطرة روسيا؛ تدرك جيدًا أن الشتاء البارد مخيف، وفي نفس الوقت فإن الانصياع للضغوط الروسية مرعب، لذا ستسعى حكومات تلك الدول إلى تعزيز استقلالها عن واردات الطاقة الروسية بأيّ طريقة.
وفي هذا الإطار فإن عزم الغرب على دعم أوكرانيا يبدو أنه لم يَخْفُت بعدُ؛ إذ كشفت مجموعة الدول السبع الكبرى عن أنها ستضع حدًّا لسعر صادرات النفط الروسية للحد من أرباحها التي تساعد في تمويل غزو أوكرانيا، لكن هذا القرار يحمل في طياته الكثير من العبثية، فروسيا بدورها أعلنت أنها ستتوقف عن بيع النفط والغاز إلى الدول التي ستطبق هذا الإجراء وهو ما سيزعزع استقرار السوق النفطية بصورة كبيرة، وسيكون المستهلكون الأمريكيون والأوروبيون أول مَن سيدفع ثمن الارتفاع القياسي للأسعار، لكنْ حتى مع تضاؤلمبيعات الغاز الروسي في الفترة الأخيرة، لقد ساعد الارتفاع الصاروخي في أسعار الطاقة في الحفاظ على دخل روسيا من تلك المبيعات.
وعلى الرغم من أن أوروبا قد حظرت الفحم الروسي في البداية؛ إلا أنها أعفت واردات النفط والغاز من الحظر؛ لأنها كانت تعتمد عليهما بشكل كبير. ومن المنتظر أن تحظر معظم النفط الروسي بحلول نهاية العام، وهو ما قد يُشكّل ضربة أخرى للاقتصاد الروسي الذي يعتمد على النفط كمصدر رئيسي للمال، وعلى عكس الغاز الذي يتم تصديره عبر خطوط أنابيب ثابتة إلى أوروبا، يمكن بيع النفط في جميع أنحاء العالم عن طريق الناقلات.
وفي المجمل فقد بلغت عائدات روسيا من صادرات الوقود الأحفوري 158 مليار يورو في الفترة من فبراير إلى أغسطس، وفقًا لمركز أبحاث الطاقة الذي يقع مقره في هلسنكي.
خـطط بـديـلـة
حكومات الاتحاد الأوروبي لم تنتظر طويلًا؛ إذ بدأ قادتها في البحث عن خطط بديلة لتعويض مشكلة نقص الغاز الروسي، تتضمَّن الخطط إعادة الاستثمار في الوقود الأحفوري والطاقة النووية، مع فرض مجموعة قواعد جديدة لتوفير الطاقة، من بينها على سبيل المثال: عدم تدفئة المباني العامة إلا إلى 66 درجة فهرنهايت، وعدم إضاءتها خارجيًّا بعد الساعة العاشرة مساءً، هذا بخلاف توفير مصادر بديلة للغاز من دول أخرى، مثل مصر والجزائر والمغرب، وأيضًا قطر وبعض دول شرق آسيا واليابان؛ إلا أن مشكلة استيراد الغاز من بعض هذه الدول تكمن في بُعد المسافة التي تزيد صعوبة الاستيراد، وترفع من تكلفة الغاز في النهاية.
وقد بدأت أوروبا أيضًا في تسريع وتيرة تخزين الغاز؛ استعدادًا للأشهر المقبلة، وسبق أن صرّح مفوض الاتحاد الأوروبي للاقتصاد، باولو جينتيلوني، بأن «أوروبا مستعدَّة جيدًا لمقاومة استخدام روسيا المفرط لسلاح الغاز، يعود الفضل في ذلك إلى قدرتها التخزينية وتدابير الحفاظ على الطاقة»، مشيرًا إلى أن تخزين الغاز في دول الاتحاد الأوروبي بفضل تنوع الإمدادات يبلغ حاليًا نحو 80٪ كنسبة متوسطة تختلف من دولة لأخرى، فألمانيا التي تحصل على 55٪ من غازها الطبيعي من روسيا، كشفت عن أن مخزونها من الغاز قد وصل إلى 85٪، وأنها في الوقت الحالي باتت تحصل على الجزء الأكبر من غازها من النرويج وهولندا وبلجيكا، هذا إلى جانب إطلاق خطة إغاثة بقيمة 65 مليار دولار تتضمن إعفاءات ضريبية للصناعات التي تستخدم كميات كبيرة من الوقود وتقليل تكلفة النقل العام والكهرباء للمواطنين.
لكن مهما كان حجم التخزين، فإن الاعتماد الأساسي سيكون متوقفًا على حالة الطقس خلال الشتاء؛ فإذا تعرضت أوروبا لموجات برد شديدة؛ فإن الاستهلاك سيزداد، وبالتالي ستظهر الحاجة لمزيد من الواردات، المصادر البديلة ليست بالسهلة هي الأخرى؛ إذ قوّضت موجة الجفاف الأخيرة عملية إنتاج الطاقة الكهرومائية من الأنهار والخزانات المائية، كما أن إنتاج الكهرباء من طاقة الرياح يُعدّ محدودًا، فعلى الرغم من كلّ الاستثمارات في طاقة الرياح والطاقة الشمسية خلال السنوات الماضية، لا يزال الوقود الأحفوري يمثل 82٪ من إجمالي استخدام الطاقة في العالم، وحتى الدول التي تعتمد على محطاتها النووية تعاني من النقص، ففرنسا على سبيل المثال والتي تمتلك 56 محطة، تعمل الآن بنصف قوتها فقط؛ نظرًا لإغلاقها بسبب مشاكل التآكل في الأنابيب الرئيسية والإصلاحات والتحديثات وفحوصات السلامة.
أما الغاز الطبيعي المسال الذي يأتي عن طريق السفن من الولايات المتحدة ودول أخرى، فهو أغلى بكثير من الغاز المُرسل عبر خطوط الأنابيب، كما أن معظم الدول الأوروبية ليست لديها المحطات المناسبة لتخزين الغاز المسال، ولا يمكن بناء مثل هذه المحطات في وقت قريب.
وفي هذا الإطار يظل الفحم خيارًا أخيرًا للبعض، مثل ألمانيا التي لا تزال تحتفظ بالمحطات العاملة بالفحم، والتي كانت ستغلقها للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، لكن يبدو أنها ستلجأ إلى إعادة تنشيطها مجددًا، ببساطة فإن العثور على بدائل للغاز الروسي ليس بالأمر السهل، خاصةً أن روسيا تعدّ ثاني أكبر مزوّد للغاز في أوروبا، أما النرويج التي تحتل الصدارة فقد سعت إلى زيادة إمداداتها في أعقاب بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها لا تستطيع حتى الآن سد الفجوة بالسرعة المتوقعة.
بصفة عامة إذا نجحت أوروبا في تجاوز الشتاء المقبل؛ فإنها ستنجح بشكل مباشر في إلحاق هزيمة جديدة ببوتين؛ حيث ستزداد معاناة الاقتصاد الروسي الذي يتم استنزافه يوميًّا بسبب المستنقع الأوكراني، كما يراهن الغرب على أن تزايد الأزمات في الداخل الروسي سيخلق حالة من الرفض والمواجهة ضد بوتين.
بوتين بدوره يراهن على تداعيات شحّ الطاقة في أوروبا خلال الشتاء، وهو ما من شأنه خلق بعض الأزمات للقارة الأوروبية التي تكافح من أجل المحافظة على استمرارية وحدتها، وكانت بداية المخاوف مع نزول عشرات الآلاف من مواطني التشيك إلى الشوارع للاحتجاج على حكومتهم وسياسات الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، بعد ارتفاع أسعار الطاقة نتيجة القطع الفوري للغاز الروسي المارّ عبر خط «نورد ستريم 1»، يبدو أن الشتاء القادم هو آخر فرصة لاختبار مدى فعالية سلاح الطاقة على تلك الجبهة الجديدة في الصراع بين روسيا والغرب.
________________________________________________________
الكاتب: أحمد مصطفى الغر
- التصنيف:
- المصدر: