الإحسان إلى الناس ونفعهم

منذ 2022-11-08

في شكوى الفقير ابتلاءٌ للغني، وفي انكسار الضعيف امتحانٌ للقوي، وفي توجُّع المريض حكمة للصحيح، ومن أجل هذه السُّنة الكونية جاءت السنة الشرعيَّة بالحثِّ على التعاون بين الناس، وقضاء حوائجهم، والسعي في تفريج كروبهم

خَابَ الَّذِي سَارَ عَنْ دُنْيَاهُ مُرْتَحِلاً   ***   وَلَيْسَ فِي كَفِّهِ مِنْ دِينِهِ طَرَفُ 

لاَ خَيْرَ لِلْمَرْءِ إِلاَّ خَيْرَ آخِـــــــــــرَةٍ   ***   يَبْقَى عَلَيْهِ فَذَاكَ العِزُّ وَالشَّرَفُ 

 

إخوة الإيمان:

دعونا ننتقل نحن وإيَّاكم الآن بِعُقولنا ومشاعرنا إلى "طيبة" الطيِّبة زمنَ النبوَّة، بينما الصحابة جلوسٌ حول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صدر النهار، ينهلون من فيض خُلقه وعِلمه, قد سُعدوا، وحقَّ لهم ذلك، بينما هم على هذه الحال - وما أطيبها من حالٍ! - إذْ دخَل عليهم قومٌ من قبيلة مُضَر، حافيةٌ أقدامهم، قد لبسوا صوفًا مخرقًا، عباءة أحدِهم تستر بعض جسده، متقلِّدون سيوفهم، بِهم من الفقر وضيق الحال ما لا يَعلمه إلاَّ الله.

 

ساقَتْهم أقدامُهم إلى أكرمِ الخلق، وأرحمِ الناسِ بالناس، جاؤوا وقد أحسنوا المَجيء، وأفلحوا في الاختيار، كيف لا؟ وقد قصدوا من يلهج إلى مولاه، أن يرزقه حُبَّ المساكين، فلمَّا رآهم - صلوات ربِّي وسلامه عليه - تَمَعَّر وجهه، ثم دخل بيته، وخرج مضطرِبَ الحال، منشغل التفكير، مهمومًا مغمومًا، فأمر بلالاً، فأذَّن وأقام، فصلَّى، ثم خطب، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18] ((تصدَّق رجلٌ مِن ديناره، من درهمِه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تَمره - حتَّى قال: «ولو بشقِّ تمرة»، يقول جريرٌ راوي الحديث: "فجاء رجلٌ من الأنصار بِصُرَّة كادت كَفُّهُ تعجز عنها، بل قد عجزت"، قال: "ثُمَّ تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيتُ وجه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتهلَّل كأنه مذهبة".

 

هنا انفرجت أساريرُ وجهِه - عليه الصَّلاة والسَّلام - وانزاح هَمُّه، وهو يرى أبناء أمَّتِه يشعرون بحاجة إخوانهم، ويهتمُّون لِهَمِّهم، ويرسمون في صورةٍ رائعة شعورَ الجسد الواحد والأمَّة الواحدة، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعد أن أتى الأنصاريُّ بالصرَّة التي أثقله حملُها قاعدةً مهمَّة في هذا الدِّين، تدلُّ على سُموِّه وعلوِّه، وعظمته ويُسرِه؛ قال: «مَن سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنةً فله أجرها وأَجْرُ من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووِزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»؛ والقصة في "صحيح مسلم".

 

كم في هذا الكلام البليغ من الدَّعوة إلى التنافس في الخير، والتسابق في افتتاح مشروعاته النافعة! وهذا لا يَقتصر على الشؤونِ الدِّينيةِ فقط، بل يشمل الوسائل الدُّنيوية، ومن أمثلة ذلك ما فعله الخليفة الراشدُ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مِن وَضْع ديوان الجُنْد، وبعض التراتيب الإداريَّة التي اقتضَتْها مصلحةُ الدولة آنذاك.

 

 

معشر الكرام:

ديننا جعل نفع الناس والإحسانَ إليهم عبادةً عظيمة؛ فالله سبحانه أمر بالإحسان في آياتٍ كثيرة، وأخبَر أنَّه يحبُّ المُحسنين، وأنَّه مع المُحسنين وأنه يَجزي المُحسن بالإحسان، وأنه يجزي المحسنين بالحُسنى وزيادة، وأنه لا يضيع أجر المُحسنين، ولا يضيع أجرَ من أحسن عملاً، وورد ذِكْرُ الإحسان في مواضِعَ كثيرةٍ من القرآن الكريم؛ تارة مقرونًا بالإيمان، وتارة مقرونًا بالتَّقوى أو بالعمَل الصَّالِح، كلُّ ذلك مما يدلُّ على فضل الإحسان وعظيم ثوابه عند الله تعالى.

 

والإحسان يكون إحسانًا إلى الغير، وهو بِمَعنى الإنعام عليه، والإحسان فيما بين العبد وبين ربِّه، وهو أعلى مراتب الدِّين، وقد فسَّره النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأن تعبد الله كأنَّك تراه؛ فإن لم تكن تراه فإنه يراك، ومعنى ذلك أنَّ العبد يعبد الله تعالى على استحضار قربِه منه، وأنه بين يديه كأنَّه يراه، وذلك يوجب الخشيةَ والخوف والتَّعظيم، ويوجب النُّصح في العبادة وتحسينها وإتمامها.

 

 

أيُّها المؤمنون:

ونفع الناس والسَّعي في كشف كروبِهم من صفات الأنبياء والرُّسل؛ فالكريم يوسف - عليه السَّلام - مع ما فعله إخوتُه، جهَّزهم بجهازهم، ولَم يبخسهم شيئًا منه، وموسى - عليه السَّلام - لَمَّا ورد ماء مدين وجد عليه أمَّة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتَيْن، رفع الحجر عن البئر، وسقى لهما، حتَّى رويت أغنامهما، وخديجة - رضي الله عنها - تقول في وصف نبيِّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إنَّك لتَصِل الرَّحِم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحقِّ".

 

 

إخوة الإيمان:

في شكوى الفقير ابتلاءٌ للغني، وفي انكسار الضعيف امتحانٌ للقوي، وفي توجُّع المريض حكمة للصحيح، ومن أجل هذه السُّنة الكونية جاءت السنة الشرعيَّة بالحثِّ على التعاون بين الناس، وقضاء حوائجهم، والسعي في تفريج كروبهم؛ قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "وقد دلَّ العقل والنقل والفطرة وتجاربُ الأمم - على اختلاف أجناسها ومِلَلها ونِحَلها - على أن التقرُّب إلى ربِّ العالَمين، والبِرَّ والإحسانَ إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكلِّ خير، وأنَّ أضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكلِّ شر، فما استُجْلبِت نِعَمُ الله، واستُدفعت نقمه بِمثل طاعته، والإحسان إلى خلقه"؛ اهـ.

 

أما بعدُ:

فإنَّ خدمة الناس ومُسايرة المستضعفين دليلٌ على طيب المَنْبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحُسن السَّريرة، وربُّنا يرحم مِن عبادِه الرُّحماء، والصَّادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيَّن لنا قاعدةً في الإحسان عظيمة بقوله: «من نفَّس عن مؤمنٍ كربة من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه»؛ (رواه مسلم).

 

القاعدة واضحة، والأمر بَيِّن، فالجزاء من جنس العمل.

 

 

إخوة الإسلام:

أوَّل المستفيدين من الإحسان هم المُحسنون أنفسُهم، يَجْنون ثَمراتِه؛ عاجلاً في نفوسهم وأخلاقِهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراحَ والسَّكينة والطُّمأنينة.

 

إنَّ الإحسان كالمِسْك؛ يَنفع حامِلَه وبائعه ومشترِيَه، شَربة ماء مِن بغيٍّ لكلب عقور أثْمرَت دخول جنَّةٍ عرضها السَّماوات والأرض؛ لأنَّ صاحب الثواب غَفور شكورٌ، غنيٌّ حميد، جوَادٌ كريم، فلا تحتَقِرْ - أخي المُحسن - إحسانك وَجُودك وعطاءك، مهما قلَّ.

أَحْسِنْ إِلَى النَّاسِ تَسْتَأْسِرْ قُلُوبَهُمُ   ***   فَطَالَمَا اسْتَأْسَرَ الإِنْسَانَ إِحْسَانُ 

وَكُنْ عَلَى الدَّهْرِ مِعْوَانًا لِذِي أَمَـــلٍ   ***   يَرْجُو نَدَاكَ فَإِنَّ الْحُرَّ مِعْــــوَانُ 

 

وبعد، عبادَ الله، صلُّوا وسلِّموا.

____________________________________________________

الكاتب: حسام بن عبدالعزيز الجبرين

  • 4
  • 1
  • 1,569

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً