انحراف القيم وخطره على الإنسانية
الشيطان وأعوانه لا يتوقفون في الدعوة إلى الانحراف في القيم وترويجه عند خطوة ولا عند محطة، بل يتدرجون من تزيينه إلى الدعوة عليه، ثم الترويج للتعاطف معه وتأييده، ثم التقنين له، وتجريم إنكاره ، وسن قوانين لمعاقبة المنددين به...
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، فأكرمه ونعمه، وفضله وعلمه، وسخر له الكون بما فيه من سماء وأرض وما بينهما، فجعل السماء له بناء والأرض مهادا، وسخر له كافة المخلوقات، فمنها رزقه من طعامه وشرابه، ومنها مسكنه وملبسه، ومنها زينته ووسائل رفاهيته.
ومقابل هذه النعم أمر الله تعالى الناس بأمر عظيم، فقال تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، ونهاهم سبحانه وتعالى عن أمر عظيم، فقال: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا} [البقرة: 22] وبين سبحانه وتعالى أنه خلق الجن والإنس لحكمة عظيمة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وقد فطر الله تعالى الإنسان وهيأه لتقبل هذا الأمر والعمل به، واجتناب هذا المنهي عملا بمقتضى هذه الحكمة العظيمة التي خلق من أجلها، فغرز في وجدانه قيما ومبادئ تنبعث منها قناعاته السليمة، ورغباته المستقيمة، وتكبح من جماح انحرافاته وسوء تصرفاته.
وهذه القيم تختلف صياغتها والتعبير عنها باختلاف الثقافات والأديان والشعوب والبلدان، لكنها تلتقي عند الطهر والإحسان والاستقامة، وهذه القيم هي التي تتمحور حول الخير والحق، وضدها يتمحور حول الشر والباطل وهي: الرذيلة، والإساءة والانحراف.
ولا يزال الصراع في داخل الإنسان بين هذين الاتجاهين، وفي علاقات الإنسان بالإنسان كذلك لا يخرج الصراع عن بوصلة الاتجاهين، وذلك امتداد لمحاولات الشيطان الماكرة لتكدير حياة الإنسان الدنيوية والأخروية.
فالصراع بين الخير والحق من جهة، وبين الشر والباطل صراع أزلي قديم، وإن الحق أبلج، والباطل لجلج، لا يتم التسويق له بشكل صريح، بل يلبس لباسا يخفي معالمه القبيحة، والمنفرة، ويتم التجسير له بجسر خطوات الشيطان المنهي عن اتباعها في قول ربنا جل في علاه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21] ، فالشيطان وأعوانه لا يتوقفون في الدعوة إلى الانحراف في القيم وترويجه عند خطوة ولا عند محطة، بل يتدرجون من تزيينه إلى الدعوة عليه، ثم الترويج للتعاطف معه وتأييده، ثم التقنين له، وتجريم إنكاره ، وسن قوانين لمعاقبة المنددين به، فضلا عن حمايته، ولكن سنة التدافع بين الحق والباطل ماضية لا يستطيع حماة الباطل توقيفها.
ولذلك تتوالى صيحات الإنذار من هناك وهناك من انحراف القيم كلما راج بين أوساط الناس من مختلف الفئات والطبقات؛ لأن الفطرة السليمة للإنسان عموما والمسلم خصوصا لا تتقبل الباطل.
وللانحراف في القيم في مختلف احتياجات الإنسان أشكال متنوعة ومتلونة، يزين الشيطان باطلها، حتى يكون المرء في حيرةٍ من أمره، ليصلَ إلى درجةٍ لا يتجاوزها إلا المسلم الذي يزن الأمور بالقسطاس المستقيم، من دلائل الشرع، ومقتضَيات الفطرة السليمة، تلك الفطرة التي ترفض الشر والباطل وطرقهما.
وفي عصرنا الحديث نجد عديدًا من ألوان انحراف القيم التي يظهر فيها الباطل والشر مزركشا ويبدو في ظاهره لوحة فنية تسر الناظرين، إلا أنها تحمل في طياتها شرًا ما بعده شر، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
أولًا: الدعوة بصورة علنية مزخرفة بنقوش الحرية الشخصية واحترام الثقافات لما يسمونه حاليًا بالمثلية الجنسية، التي هي انتحار للطهر، واغتيال للجمال والحسن والإحسان، وقضاء على الاستقامة، وباب مفتوح إلى الجريمة والفساد، وغاية للرذيلة، ولذلك تتنافى كل التنافي مع فطرة الإنسان السليمة.
ثانيًا: الترويج لهذا الانحراف القيمي بتقديم العروض الفنية الموشحة برسومات ذات دلالة على هذا الاتجاه الجنسي الشاذ عن الأصل السليم.
ثالثًا: تجاوز الدعوة لهذا الانحراف إلى شرعنته وتقنينه، ثم منع إدانته، ثم تعدى الشيطان وأعوانه ذلك في خطواتهم إلى عدم القبول إلا بتأييد هذا الانحراف، بعد أن سلبوه الأسماء الشرعية والأوصاف الاجتماعية التي تظهر بشاعته بألفاظها قبل معانيها.
وتتضح خطورة هذه الخطوات الثلاث على الفرد والمجتمع وكيانات الدول في أمرين:
الأمر الأول: أننا إذا نظرنا إلى ذلك الشاب الذي وصل إلى مرحلة الفتوة والنضج، وقد اختطف بصره وفكره بمصطلحات انطبعت في عقله منذ الصغر حول مرحلة المراهقة، لدرجة بات فيها ينتظر بلوغه تلك السن التي يكون فيها مراهقا؛ ليعلن ثورته على ماضيه بكل تفاصيله، وعلى قيمه الدينية والاجتماعية والوطنية، ورفضه لتوصيات من يكونون مسؤولين عنه حتى ولو كانوا أبويه، فيكون في مرحلة المراهقة ذاك الاسم اللامع الفاتن للشباب، ليتم من خلاله هدم الطموحات، وتقزيم الأمنيات والرغبات لتكون على حجم التفاهة التي تظل صغيرة مهما كبر حجمها؛ ليكون في الأخيرة أداة هدم لأسرته ووطنه ومجتمعه ودينه.
الأمر الثاني: استغلال مفهوم الحرية الشخصية للحد من صلاحيات ولي الأمر على أبنائه وتابعيه، فنجد بعض الأمهات والآباء يخجلون أو يخشون من مصارحة أبنائهم فيما يتعلق بالتعبير عن رفضهم للسلوكيات التي تبدو لدى الأهل مخطئة تماما، كأن تصاحب الفتاة الشاب وتخرج معه، أو أن ترتدي الفتاة ملابس غير محتشمة ولا تحقق من غرض اللباس شيئا، بل هي العري مزخرفا، فاللباس في الأصل وجد للستر، فإذا خرجت البنت في مظهر لا يحقق ذلك الشرط، ورآها الأهل ووقفوا واجمين نحوها حيارى في موقفهم، هل يعبرون لها عن رفضهم لهذا اللباس المتنافي مع عادات وتقاليد الآباء والأجداد، والمعارض لتعاليم الدين؟! أم يتقون إغضابها الذي قد يقودها إلى ارتكاب تصرفات أشد خطرا؟! وبالتالي يكون الشيطان قد تسلل بثوب الناصح الحكيم للأهل، بأنَّ ارتداء البنت ذلك اللباس الذي ينافي القيم الدينية والوطنية والاجتماعية، والذوق السليم لأهل الفطر السليمة ـ أمر هين مقارنة بما قد تقع فيه البنت إن قام أحد بالاعتداء على حريتها الشخصية كما يسميها دعاة الباطل، تلك الحرية التي ظهرت لنا مزينة من الخارج لكنها ملوثة أشد التلوث من الأعماق.
لذلك.. فللنهوض بمستقبل أبنائنا، والاهتمام بهم جميل الاهتمام ـ ينبغي أن نكون حذرين من كل المغريات التي تحوم حولنا، تلك المغريات التي تصور الحرام حلالا، والرذيلة حرية، والطهر تعقيدا، وتلبس الباطل لباس الحق.
فحريٌّ بنا أولياء أمور، وحكومات ومؤسسات، كل في موقعه أن يتقلد كل واحد منا دوره ويؤدي الذي عليه بشكل يرضي الله ربنا، وأن يتم وضع خطة وتصور شامل وكامل يأخذ بيد شبابنا وبناتنا إلى بر الأمان، إلى البَرِّ الذي يجعلهم يرون من خلاله الأمور على حقيقتها.
وفي اقتدائنا بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام نجد الأسوة الحسنة التي تنير الطريق، فهذا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يتعرض إلى موجة من الإغراءات التي حاول أصحابها قلب الهدف من البعثة النبوية من كونها رسالة سماوية سامية، إلى جعلها رسالة دنيوية هدفها الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا، فنجد كبار دعاة الباطل وقتها يعرضون عليه أن يتقلد الحكم، ويصبح السيد الكريم عليهم وفيهم، وأن تتفتح له خزائن الأرض مالا، ويصبح سلطانا من السلاطين العظماء، لكنَّ النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم نظر إلى تلك الإغراءات بنظر التقوى الذي يستصغر كل شيء يخالف الدين والحق، فيجد من عظائم الأمور المغرية أمرا تافها لا يستحق أن يذكر.
وختاما، لا بد أن يقف كل شخص منا من منصبه ومكانه وسلطته عند مسؤوليته، فليبنِ كل واحد منا لبنة في جدار صد الباطل بمختلف صوره وألوانه، وليكن كل منا الدرع الحصين الذي لا يتسلل منه إلى قلب كل منا مهما حاول المحاولون من إيقاع المرء في شباكهم الماكرة، وفي ذلك حماية لديننا الحنيف من أن تقضي عليها نزوات من لا دين له، وحماية لقيمنا النبيلة من أن تنحرف بها رغبات من لا قيم لهم، ولمجتمعنا المتماسك بنظامه الأسري المستمد من ديننا الحنيف من أن ينهار بعبث من لا مجتمع ولا أسرة لديهم، ولأمن وطننا الغالي من أن تتسلل الجريمة إليه من خلال هذه الثغرات.
حفظ الله ديننا ودولتنا وولاة أمرنا وشعبنا وقيمنا، ووقانا والمسلمين من جميع الشرور والآفات، والإنسانية من شتى صنوف الانحرافات.
_________________________________________________
الكاتب: د.عبدالله بن معيوف الجعيد
- التصنيف:
- المصدر: