التحذير من الاستهزاء بالدين
إذا تبصرت مواقع رشدك، وعواقب غيك، وانتبهت لعيوبك وأبصرتها، وحرست قلبك وطهرته، وحصنت عقلك ونفسك بالعلم والحكمة، ومعرفة دخائل النفس وحظوظها العاجلة الخفية؛ فستذوق حينها بلسان قلبك حلاوة ثمار الإيمان
الحمد لله؛ أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أصول الإسلام تعظيمَ رب العالمين وإجلاله وهيبته وخشيته، ومن لوازم ذلك تعظيم شعائره، وذلك شرط التقوى؛ قال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج: 30].
وما من عضوٍ بعد القلب أشد خطرًا من هذا اللسان، وما من جارحة أحق بطول حبس منه، وإنه لعجيبة من عجائب خلق الله تعالى، ونعمة جليلة من أكبر آلائه، فبه يكون البيانُ الذي نبَّه رب العزة لجلال شأنه بقوله: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4].
فبه لسانًا وبنانًا يُعرب عن مكنون ضميره، ورغائب نفسه، وبه يطلب حاجته، وبه يعبد ربه ويدعوه، ويلهج بذكره وشكره، فهو من أعظم وسائل رضا الله عن عبده لمن أحسن استعماله في طاعته.
وبالمقابل فهو هاوية لا قرار لها إلا في دركات الجحيم لمن أطلق عنانه بالكفر والشرك، ومساقط غضب الجبار جل جلاله؛ روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يُلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يُلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم»، وتأمل: ((لا يلقي لها بالًا))؛ إنه اللسان، ذلك البناء العجيب للحسنات، والهادم لها.
من هنا يتبين للمؤمن خطر هذه الجارحة التي تسمى اللسان، وفي زماننا – زمان الكتابة – أصبح القلم أحد اللسانين، فاحفظ لسانَيكَ لعلك تنجو، ولا يكن لسانك كحسام السيف، ما مس قطع.
وإن كان بغي السنان معطب، فإن مبدأه اللسان، وكم في المقابر من قتيل لسانه! ومن سلَّ سيفَ بغيِ لسانه قُتل به، وعقل المرء مدفون بلسانه، فاللسان غطاء العقل، فمتى نطق انكشف الغطاء، ولكل عمل جارحة، غدًا من الله طالب وسائل، فهل أعددت جوابًا صوابًا؟!
ولا بد للمؤمن أن يعرف حدود ربه حتى لا يتجاوزها عن جهل أو جهالة، ولقد أولَى أهل العلم مناهي الشرع في الألفاظ عناية تامة؛ لأن اللسان مؤاخَذ بنطقه ومسؤول عن كلامه؛ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
ومما يحزن قلب المؤمن ما يراه من تساهل بعض الناس في شأن الاستهزاء بالدين وشعائره، مع أن ذلك من موجبات الردة عن الإسلام عياذًا بالله تعالى؛ قال في شأن المستهزئين بالدين: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]، وتدبَّر كيف أثبت لهم إيمانًا ثم كفروا بكلمة؟ قال ابن عمر: ((كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة لتنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، ما يلتفت إليه رسول الله، ويقرأ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]؛ الآية))؛ قال الإمام المجدد: "وفيه أن من الأعذار ما لا يُقبل من صاحبه".
وقال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله: "من كان ديدنه قول: المطاوعة كذا وكذا، فهذا يُخشى عليه أن يكون مرتدًّا، فلا ينقم عليهم إلا أنهم أهل طاعة".
وقال العثيمين رحمه الله: "الذين يسخرون من الملتزمين بدين الله فيهم نوع نفاق؛ فالله قال عن المنافقين: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 79].
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: "من قال لآخر: يا لحية، وقصده السخرية فهو كفر، وإن قصد التعريف فليس بكفر، لكن لا ينبغي أن يدعوه بذلك".
وقال ابن جبرين رحمه الله: "وقع كثير من الشباب في ردة جماعية، وقد دخل عليهم الشيطان من بابين: ترك الصلاة، والاستهزاء بالدين".
فاحفظ لسانك إن رُمْتَ النجاة، واعلم أن من أعظم أسباب حفظ اللسان: دوام ذكر الله تعالى، فالذكر يملأ فراغ القلب بتعظيم العظيم، ويشغل اللسان بالأمر العظيم، حينها يرى صاحبه نفاسةَ عمره فيحفظه؛ {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]، والذكر هو اتصال البال بالله تعالى بأي وجه كان، بالقلب: تذكرًا وتفكرًا واعتبارًا، وباللسان: بالقرآن والأذكار وقول الخير، وبالأفعال الشرعية.
وللذكر مراتب وتفاضل في أنواعه، وأفضلها القرآن، وأحواله وأشرفها السجود، وأزمنته وأطيبها السَّحَر، وأمكنته وأجلُّها عرفة، والدين كله ذكر، وضد الذكر الغفلة.
فعلى المؤمنين بعامة - وطلبة العلم خاصة - الاعتناءُ بحراسة اللسان من فخ إبليس في المجالس؛ الغيبة؛ فهي من كبائر الذنوب، مع ذلك فحال كثير من الصالحين معها كالمستحلِّين لها بالحال لا بالاعتقاد، خذلانًا وخيبة.
فالنفس تستروح لتنقص الناس لتستريح من لومها على تقصيرها، وهذا الإسقاط الخفي إن لم يتداركه الناصح لنفسه في نفسه، فإنه يستفحل به حتى يأكل حسناته بكَيلِ مظالم العباد، وقد قيل: القلوب كالقدور في الصدور، تغلي بما فيها، ومغارفها ألسنتها، فانتظر الرجل حتى يتكلم، فإن لسانه يغترف لك ما في قلبه من بين حلوٍ وحامض، وعذب وأُجاج.
لقد توسع بعضهم في التساهل في الغيبة بما لم تُبِحْهُ الشريعة، فالأصل الثابت هو حرمة العرض المسلم، فلا يُباح خرق هذا الأصل إلا على برهان من الشريعة، وليس كل من زعم أنه يحذر من بدعة محقًّا في تحذيره، ولا مستنًّا في أسلوبه وطريقته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ»؛ (متفق عليه).
وكذلك حمالة حطب السيئات؛ النميمة، وبعضهم ينم ولا يشعر ظانًّا أن النميمة لا تكون مذمومة إلا إن كانت بقصد سيئ، وما علم أن النميمة هي نقل الكلام على وجه الإفساد بأي وجه كان، فكم من ناقل كلمة على وجه المرح والتفكُّه أفسد مودة القلوب، وأحيا ميت العداوات، كيف إن صحبها مكر ودناءة وسوء طوِيَّة، ومن حمل إليك حطب نميمته في الناس، فاعلم أنه سيسلخك قريبًا في قدورهم.
ومن جعل قلبه وعاءً لاستقبال النمائم، وساعدها بأجنحة سوء ظنونه بالناس؛ فليبشر بخراب مدينة سروره، واضمحلال هناءة عيشه، فالعَضهُ نفاخة فتن.
ففتِّش صحيفتك ونقِّها اليوم قبل نشرها غدًا، ونقِّ سريرتك الليلة قبل ابتلاء السرائر غدًا؛ وتذكر قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة نمَّام»، ولما مر بقبرين قال: «إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير: أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة...»؛ (متفق عليهما).
ومن بوائق الألسن: التنابز بالألقاب بغيًا وعدوانًا، ويكأن زماننا هو زمان هذا النوع من البغي، والله المستعان، ولما قال رجل لصاحبه: إني لأرحمك مما يقول الناس فيك؟ قال: أفتسمعني أقول فيهم شيئًا؟ قال: لا، قال: إياهم فارحم.
فاعتقل قلمك ولسانك في محبس حكمتك وعقلك وورعك، ولا تطلقهما إلا بخير، وفكر واعتبر بمآل خطواتك قبل الإقدام، وصوِّب قراراتك قبل انطلاق السهام.
وإن أردت الإحساس بحلاوة الإيمان، وتذوُّق لذة العبادة، والانتعاش ببرد اليقين، واستشعار نور الصدر ودفئه وانفساحه، فانشغل بما يفيدك في المعاد، وبما هو من مهماتك الأولية وما خُلقت من أجل تحقيقه.
وتدبر حال أهل الجنة: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]، لما طهروها في الدنيا، بيَّضها لهم يوم لقياه ورؤيته، وأذلوها له بالسجود في الدنيا فأعزَّهم في دار كرامته، فابحث – وفقك الله - عن نعيمك المرتقب، وسعادتك اللذيذة في سجدة خاشعة طويلة، تغسل فيها همومك، وتبخر من صدرك غمومك: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
ومتى تعلق المؤمن بكليته بربه، وفوَّض إليه كل أمره، وقطع عن قلبه كل حبال الرجاء بالخلق، ويأس منهم، ووثق بربه؛ فهو حريٌّ حينها بكرامة الله له ولطفه به، فسلِّم أمرك للسلام.
فإذا تبصرت مواقع رشدك، وعواقب غيك، وانتبهت لعيوبك وأبصرتها، وحرست قلبك وطهرته، وحصنت عقلك ونفسك بالعلم والحكمة، ومعرفة دخائل النفس وحظوظها العاجلة الخفية؛ فستذوق حينها بلسان قلبك حلاوة ثمار الإيمان، وستبتهج بحياتك في رياض القرآن، وستذوق نعيمًا في الدنيا، وهو في حقيقته رقيقة من نعيم الجنان، والله الموفق، وهو المستعان، وعليه المعول والتكلان.
أخي في الله، اتقِ الله تعالى حق التقوى، واعلم أن الله تعالى لما بثَّ الخلائق، اختار لك هذا الزمان وهذا المكان؛ ليكونا محل الابتلاء الإلهي لك، فكن خيرَ ذاكرٍ صابر، حامد شاكر، تائب مستغفر، واعلم أن للمؤمن بحرًا لا تكدره مصائب الزمان، إنه بحر الرضا بالله تعالى، فاغمس كل همٍّ لك في بحر الرضا بالله، حينها تنطفئ نيران المصيبة ببرد السلام، واعلم أن قدرك إن لم تذهب إليه، جاء إليك؛ فكن لله، وبالله، ومع الله، وإلى الله؛ فهو الغاية وما سواه هباء؛ قال سبحانه: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]، {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8]، فمهما سلكت من دروب الحياة؛ خيرًا أو شرًّا، سرورًا أو حزنًا، صحة أو سقمًا، فإليه وحده المنتهى.
واحمد الله تعالى، واشكره كثيرًا على أن فضَّلك على غيرك تفضيلًا بالعلم به، والفرح به، والأنس به، في وقت ترى فيه من يفر من الله حال شدته وكربته، فلا يفزع للصلاة والدعاء، بل لسفر أو لهو أو مسكر؛ {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].
ولا تقل: ليس معي أحد، إذا كان معك الأحد الفرد الصمد، ومن لذائذ النفوس الاكتفاء برب البرايا والنفوس، وأنفع طعام للقلب هو الاكتفاء بالله تعالى.
وإذا استشعر القلب ربه صغُر على إثر ذلك كل شيء، وإذا انصدع صدر المؤمن خوفًا من ذنوبه، وأظلم باله فرقًا من سوء منقلبه، تذكَّر سَعة رحمة أرحم الراحمين، فراقت حياته، وتَنَهْنَهَتْ أنفاسه، وانبلجت أسارير سعادته؛ قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ليغفرن الله يوم القيامة مغفرةً لم تخطر على قلب بشر".
وتدبر قول الخليل عليه السلام لأبيه صانع الأصنام: {يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45]، ففيه سعة رحمة الله تعالى، فمن عُذِّب غدًا من (الرحمن) الذي هو أرحم الراحمين، فهو غير حقيق بأية رحمة؛ قال أبو هريرة رضي الله عنه: "لتدخلن الجنة إلا من أبى وشرد على الله شِراد البعير".
وصلوا وسلموا على رسول الله...
______________________________________________________
الكاتب: إبراهيم الدميجي
- التصنيف: