مركزية الآخرة
إنَّ تقرير مركزية الآخرة مسألة واضحة في النصوص الشرعية لا من حيث كمية النصوص ولا من حيث تنوع أساليب تقريرها.
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعدُ:
إن مما يستوقف القارئ لكتاب الله -تعالى- ذلك الاستفهام الذي تكرَّر في عدة آيات في سياق معقولية تقديم الآخرة على الدنيا، {وَمَا الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]، {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169]، {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يوسف: 109]، {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60].
فالقرآن يقرر بهذا الاستفهام أن مقتضى العقل السليم تقديم الآخرة على الدنيا؛ مع أن الآخرة هي كلها في عالم الغيب والدنيا هي الواقع المعاش في عالم الشهادة.
وقال السعدي في تفسيره: «أفلا يكون لكم عقول، بها تَزِنُونَ أيَّ الأمور أَوْلَى بالإيثار، وأيّ الدارين أحق للعمل لها؛ فدل ذلك أنه بِحَسب عقل العبد، يُؤْثِر الأخرى على الدنيا، وأنه ما آثَر أحدٌ الدنيا إلا لنقصٍ في عقله، ولهذا نبَّه العقول على الموازنة بين عاقبة مُؤثِّر الدنيا ومُؤثِّر الآخرة، فقال: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ} [القصص: 61]. وهو معنى ذكره ابن كثير في تفسيره: وقوله: (أفلا يعقلون) أي: أفلا يعقل مَن يُقدِّم الدنيا على الآخرة؟
وفي آية أخرى بسياق المعنى ذاته، يقول الرب الجليل -سبحانه-: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص: 60]، وقد علّق عليها الشيخ السعدي بقوله: هذا حضٌّ من الله لعباده على الزهد في الدنيا وعدم الاغترار بها، وعلى الرغبة في الأخرى، وجعلها مقصود العبد ومطلوبه، ويخبرهم أن جميع ما أُوتيه الخلق، من الذهب، والفضة، والحيوانات والأمتعة، والنساء، والبنين، والمآكل، والمشارب، واللذات، كلها متاع الحياة [الدنيا] وزينتها، أي: يتمتع به وقتًا قصيرًا، متاعًا قاصرًا، محشوًّا بالمُنغِّصات، ممزوجًا بالغُصَص. ويزين به زمانًا يسيرًا، للفخر والرياء، ثم يزول ذلك سريعًا، وينقضي جميعًا، ولم يستفد صاحبه منه إلا الحسرة والندم، والخيبة والحرمان. {وَمَا عِندَ اللَّهِ} من النعيم المقيم، والعيش السليم {خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي: أفضل في وصفه وكميته، وهو دائم أبدًا، ومستمرّ سرمدًا.
إنَّ تقرير مركزية الآخرة مسألة واضحة في النصوص الشرعية لا من حيث كمية النصوص ولا من حيث تنوع أساليب تقريرها. وتظهر أهمية هذه القضية في عدة جوانب؛ من أهمها:
تصحيح موازين النظر إلى ما عند الآخرين من نعيم الدنيا:
«أمَا تَرْضَى أنْ تكونَ لهمْ الدنيا ولنَا الآخرةُ»:
هذا من أبرز ما يقرّب هذا المعنى، فلم يُرِد النبيُّ أن يطمئن عمر بن الخطاب بكلمات مرحلية، أو أنَّ الله سيفتح عليهم غدًا أرضًا وبلادًا، ولكنّه أراد أن يربيه على منهج يستطيع معه أن يُصحِّح موازين النظر، وهو عمر الذي قال معاوية عن علاقته بالدنيا «وأمّا عمر فأرادته ولم يُردها». ولم يُرِد عمر -رضي الله عنه- لنفسه شيئًا، وإنما أراد لرسول الله أن يكون له نصيبٌ من زينة الدنيا؛ فهو رسول الله، وقد أثَّر الحصير في جنبه، وقيصر وكسرى يتمرغون في نعم الله. فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم مقولة فيها قاعدة تقطع أيّ نظرة انبهار بأيّ حضارةٍ غالبة: «أمَا تَرْضَى أنْ تكونَ لهمْ الدنيا ولنَا الآخرةُ»[1].
ومن هذا المبدأ فالصحابة -رضوان الله عليهم-، ينظرون إلى الحضارة المادية في البلاد التي فتحوها بنظرة مستقيمة؛ وإنما هي عندهم وسيلة لا تتعدى أبدًا إلى مكانة الغاية.
ولقد حسم القرآن الأمر في النصّ على مركزية الآخرة، ووسيلية الدنيا، وهو ما يَمنع أي انبهار بتقدم حضاري ليس له غاية، أو لا يسير وفق مظلة الشرع؛ إذ يقول تعالى:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26].
الوقاية من الانحراف السلوكي والفكري:
المنبع الرّئيسيّ لكل الانحرافات الفكريّة القديمة والمعاصرةِ هو ضعف الإيمان، وعدم استحضار لقاء الله؛ ومصداقه قوله -تعالى-: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: ٧].
فلو استحضر كل مَن قرَّر أمرًا مخالفًا لمنهج الكتاب والسُّنة أنه مسؤول عن ذلك القول الذي قرَّره بأي حجة؟ لكان رادعًا له ودافعًا لأن يُراجع نفسه مرات ومرات {وَإنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: ٤٤].
التذكير بقِصَر الحياة:
العمر هبة إلهية كبرى.. بيد أن حقيقته نسبية، ككل حقائق الحياة الدنيا. فليس فيه -إذا تفكرتَ- طويل وقصير، وإنما هو قصير كله! فكل ما ابتدأ وسينتهي فهو قصير! أليس كل الناس يموتون بعد سنوات تقل أو تكثر، لكن في الأخير ما هي إلا سنوات! لا مئات السنين، ولا آلافها!
يعطي الشعور بامتداد الحياة:
العمر لا ينقضي بوفاة الإنسان، بل يمتد حتى بعد وفاته! ولذا لا نجد المؤمن يشعر ذلك الشعور اليائس؛ الذي يزلزل نفسية الكفار؛ إذ يشعرون عند ذكر الموت بهول الفناء.
ثم إن الإيمان بالحياة الآخرة يُشْعِر المسلمَ بأن الموت إنما هو مَعْبَر إلى الحياة الحقيقية، فلا يحسّ في وجدانه العميق بأنه ينتهي بالموت؛ فيعيش الحياة بذوق آخر، ملؤه العمل والأمل في أن تكون خيرًا من دنياه؛ فيا لبئس عُمر يعيشه الإنسان وهو يشعر بأن الموت هو المثوى الأخير {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْـمَوْتَ إلَّا الْـمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْـجَحِيمِ} [الدخان: 56].
يُحفِّز المؤمن على استثمار عمره:
العمر في الدنيا لا يُقاس بطُوله وقِصَره، وإنما بعُمْقه وامتداد أثره في الدنيا والآخرة، وقد رأينا كثيرًا من علماء الأمة الإسلامية، ممن لم يعمر من حيث الطول إلا ثلاثًا وخمسين سنة كالإمام الشافعي، ولكن ها أنت تراه -بعد وفاته- يملأ الدنيا بالحياة! فهذا مذهبه الفقهي منتشر وله طلاب وأتباع في ربوع كثيرة.
وكذلك الشأن بالنسبة للإمام النووي -رحمه لله-، الذي لم تزل مصنَّفاته محل عناية المسلمين عبر القرون وفي مختلف البلدان، مع أنه تُوفِّيَ بعد بلوغه الأربعين بقليل.
المحافظة على التوازن النفسي:
قال الله -سبحانه-: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]؛ فانظر إلى هذا الزلزال النفسي، والشعور بالدمار والخراب في الحياة! الذي يملأ صدور الكفار، واليأس القاتل الذي يجثم على أحلامهم؛ بينما يملأ الإيمان حياة المسلم سعة ورحمة مع ما يتيحه له من آفاق أرحب، للنظر في الحياة والمصير.
وفقدان الإيمان يعني فقدان التوازن النفسي حتمًا في التعامل مع العمر، هذا الرصيد الوحيد لدى الإنسان، الذي عليه أن يُوظّفه ليسعد أو يهمله ليشقی!
ويبين هذا المعنى حال كل مُنْكِر للبعث من الكفار والملاحدة؛ وما ذلك إلا لأنهم كما قال الله -تعالى-: {قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13].
يمنح الحياة جمالها:
إن مفهوم الغيب في الإسلام -ومنه اليوم الآخر الذي كله غيب- هو الذي يمنح الحياة معناها وجمالها.. إنه ربيع الإحساس بالحياة! إن الأُنْس الذي يَشْعر به العبد المؤمن في سَيْره إلى الله عبادةٌ، وفي معاشه الأرضي عادةٌ، إنما هو ناتج عن الشعور بوجود غير هذا الوجود المادي المحدود، إنه الشعور العميق بحياة أخرى هي امتداد لحياتنا، أو حياتنا امتداد لها.
ومن هنا فالموت في عقيدة الإسلام ليس (فوبيا)، تدمّر الأعصاب، وتحطّم شخصية الإنسان! وإنما هو لحظة من سكينة الروح تدخل بالسرور والبشرى على أهل الشوق والمحبة. فالحياة الآخرة هي المقابل للحياة الدنيا، والحياة الآخرة وحدها هي الحياة.. {وَإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْـحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
دافع محفّز على الطاعة:
نلحظ في النصوص الشرعية بناء أعمال حسية من أفعال تعبدية ونفقات مالية، على مبدأ الغيب المطلق، أي بناء المعلوم على المجهول؛ فهذا الإنسان الذي لا يفتأ يعبد الله راكعًا وساجدًا، صيفًا وشتاء، ويسبغ الوضوء على المكاره، وينفق من حُرّ ماله، ويَحُجّ ويجاهد، إنما يفعل ذلك رغبةً في جزاء موعود لا يُرَى! قال -سبحانه-: {إلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِـحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْـجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا 60 جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} [مريم: 60، 61].
حداء وتشويق:
الإيمان باليوم الآخر يُوجِد في نفس المؤمن مُتْعَة ترقُّب الوصول؛ فالموت باب الدخول إلى وَعْد الله الكريم، وإنما يخاف عندئذ المُكذِّبون، ولا خوف على مَن آمن بالله، ثم استقام، بل إنه يرجو موعود الله الكريم، وفضله العميم. قال -سبحانه-: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْـمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْـجَنَّةِ ...} [فصلت: 30]. وهي آية تصل في إحساس العبد المؤمن الحياة الدنيا بالحياة الآخرة: {نَحْنُ أَوْلَيَاؤُكُمْ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [فصلت: 31]، وتملأ المؤمن سكينةً وسلامًا؛ فإنما الملائكة بالنسبة للمؤمن المستقيم رُسُل سلام من الله السلام! {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْـمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل: 32].
هذا العبد الصالح والمؤمن الطيب، يسلك سبيل ربه في الحياة، مستجيبًا لنداء الله الجميل، يرجو رحمته ويخاف عذابه، فيحلق في الفضاء بجناحي الخوف والرجاء متوازن السير، لا يضرُّه خوفٌ فيقتله يأسًا، ولا يُطْغِيه رجاء فيملؤه غرورًا، ومعهما حُبّ هذا الرب العظيم الجليل، ومن هنا كانت حياة المؤمن كلها أمنًا وسلامًا في الدنيا وفي الآخرة.
وهذا سببٌ من أسباب تلك الطمأنينة العالية، والراحة الشاملة، التي تهب على القلوب المؤمنة بالله واليوم الآخر.. طمأنينة تطبع القلب بخفقات المحبة والشوق إلى لقاء الله، طيلة العمر الدنيوي، ثم فرحًا بالله وعطائه الكريم، عند الشعور بقرب لقاء الله.. {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْـمُطْمَئِنَّةُ 27 ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً 28 فَادْخُلِي فِي عِبَادِي 29 وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30].
ومن هنا نفهم مقولة «فُزْتُ ورَبِّ الكعبة»، ومثلها «إني أجد ريح الجنة دون أُحُد»؛ وما أعظم قول بلال -رضي الله عنه- عند موته وهو مُسْتَبْشِر: «غدًا أَلْقَى الأحِبَّة؛ محمدًا وصحبه»، فاليوم الآخر موعد يوم منتظر مع الأحبة، ومع قافلة السالكين إلى الله مع الأنبياء والصديقين.
رادع وزاجر عن المعاصي والذنوب:
عندما تتعلق النفس ذلك التعلق المرضي بالشهوات، تتكالب عليها، وتجري وراءها دون النظر إلى زوال هذه الحياة، ولا إلى ما هو آتٍ؛ فإن الموت آنئذ لا يكون لها إلا فزعًا! وتذكره لا يكون إلا هادمًا للذات، ومُنغِّصًا على الشهوات! ويستشعر الحساب ومن بعده العقاب الذي ينتظره، ومن هنا كان وسيلة تربوية للزجر، وأداة للردع عن الانسياق وراء الغفلة، المتسربة إلى النفس الإنسانية. {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٢٣٢].
مانع من الظلم وتوابعه ومحقق للعدل التام:
وللآخرة في ذوق العبد جمال آخر يتجلى في حقيقة الفصل بين الخلائق؛ ألا ترى هذه الملايين من البشر كيف يدوس بعضهم بعضًا في ظلمات من الظلم والطغيان؟.. كيف تمضي الحياة الظالمة مستقرَّة مطمئنة خلال قرون وقرون دون قصاص.. إنه سؤال كبير لمن تفكر؟
والجزاء الأخروي، ذلك الوعد الإلهي العظيم، هو سرّ الأمل في الآخرة؛ ولذلك خاطب النبي -عليه الصلاة والسلام- أصحابه مطالبًا أصحاب المظالم بالتخلص والتحلل منها في الدنيا: «مَن كانَتْ له مَظْلَمَةٌ لأخِيهِ مِن عِرْضِهِ أوْ شيءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قَبْلَ أنْ لا يَكونَ دِينارٌ ولا دِرْهَمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صالِحٌ أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وإنْ لَمْ تَكُنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيِّئاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عليه»[2].
هو سر الإخلاص في الدنيا:
وإن من جمال الإيمان باليوم الآخر تعظيم الثواب على قدر الإخلاص في قلب العبد، وهذا يرجع الفضل فيه إلى عقيدة الجزاء، أساس الإيمان باليوم الآخر. وهذا الذي أَثْمَر صدق الصالحين، وجمال العابدين، وصفاء نفوس المؤمنين، كل ذلك مبعثه اليقين بالجزاء الأخروي. فأكرم بها عقيدة تهب أصحابها مقامات الجمال في الدنيا والآخرة!
ومِن ثَمرات الإيمان باليوم الآخر: تسَامي النفس عن العداوات والانتقام والانتصار لحظوظ النفس، وهذا مقتضى قوله -تعالى-: {وَإنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْـجَمِيلَ} [الحجر: 85]؛ فالمؤمن باليوم الآخر تَهُون عنده العدوات والأحقاد، ولا ينشغل بها لسببين: أنها تقطع عليه الطريق إلى المنازل العالية، وأنه يُرْجِئ أمرها إلى وقت الحساب الذي يقوم على العدل والقسط.
الإيمان باليوم الآخر يختصر على الفرد عبث الحياة ولهوها، ويسقط عنه أغلال التشبث بالدنيا:
اكتشاف حقيقة الحياة الآخرة سهل على المسلم في دنياه؛ بينما الكافر لا يرى ذلك إلا بعد هلاكه، وما أعجب تعبير القرآن عن هذا؛ إذ يقول الله -تبارك وتعالى-: {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِـحَيَاتِي} [الفجر: 24]، فحسرة الكافر ونَدَمه إنما هو لكونه لم يُقدّم لحياته، ويقصد الحياة الآخرة، ولكنه لم يصفها بالآخرة؛ للدلالة على أنها هي وحدها حياته؛ إذ أدرك الآن عيانًا أنَّ ما سبق من حياته الدنيا ليس بحياة، فيندم على تفريطه في حياته الحقيقية التي هي الآخرة وليس الدنيا.
ولا يعني كل ما سلف الدعوة إلى ترك الدنيا أو احتقارها لذاتها، وإنما المقصود رَدُّ الإنسان إلى حالة من التوازن {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـمُفْسِدِينَ} [القصص: ٧٧]، وهو توازن يدفع إلى العمل والأمل، وإلى حُسْن الظن، وتعاقب المسيرة في الدنيا، والتواصي بالصالحات، ويكفي مصداقًا للحثّ على العمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنْ قامَتِ السّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتّى يغرِسَها فلْيغرِسْها»[3].
نسأل الله أن يُبَصِّرنا بما ينفعنا، ويهدينا سُبُل السلام.
[1] أخرجه البخاري (٤٩١٣)، ومسلم (١٤٧٩).
[2] أخرجه البخاري (2449).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الأدب المفرد (٣٧١) وصححه الألباني.
- التصنيف: