شهوة النساء 1
ما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرياسات، والولع بالألعاب والملاهي
إن الناظر إلى واقعنا الحاضر يرى أنواعًا من التعلق بالشهوات والافتتان بها، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرياسات، والولع بالألعاب والملاهي. وسوف نتحدث عن جملة من تلك الشهوات التي استحكمت بأفئدة كثير من الناس وعقولهم.
ومن المناسب أن نتحدث ابتداءً عن الموقف الصحيح تجاه الشهوات إجمالًا قبل الحديث عن بعض أفرادها تفصيلًا.
إن المسلك العدل إزاء الشهوات وسط: بين أهل الفجور ، وأصحاب الرهبانية؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ وأهل الرهبانية حرّموا ما أحل الله من الطيبات. ودين الله يراعي أحوال الناس، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات؛ لذا فهو يبيحها ويعترف بها، لكنه يضبطها ويهذبها.
يقول ابن القيم مقررًا ذلك: [لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حيًا فإن هواه لازم له كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة إلى مواطن الأمن والسلامة؛ مثاله أن الله لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبورًا فاستحالت صبًا][ روضة المحبين، ص11].
واتباع الشهوات والانكباب عليها يؤول إلى استيلائها على القلب، فيصير القلب عبدًا وأسيرًا لتلك الشهوات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [إن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب...].
وإذا كان الإفراط والانهماك في الشهوات مذمومًا شرعًا، كما قال عز وجل:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا[59]}[سورة مريم] . فكذلك اتباع الشهوات مذموم عقلًا؛ فإن العاقل البصير ينظر في عواقب الأمور، فلا يُؤْثِرُ العاجلة الفانية على الآخرة الباقية، بل ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم، وشهوة تُورث ندمًا، وكفى بهذا القدر مدحًا للعقل وذمًا للهوى.
وليعلم العبد أن الصبر عن الشهوات وما فيها من الإغراء والبريق والافتتان أيسر من الصبر على عواقب الشهوات وآلامها وحسراتها، كما بينه ابن القيم بقوله: [الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألمًا وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتًا إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضًا توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالًا بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدرًا وجاهًا قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقًا لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب همًا وغمًا وحزنًا وخوفًا لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علمًا ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمت عدوًا وتحزن وليًا، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيبًا يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق][الفوائد، ص131].
من أنواع الشهوات:
1- شهوة النساء:
وأما عن شهوة النساء، أو بالأحرى شهوة الجنس عمومًا فإن المتأمل في أحوال المسلمين فضلًا عمن دونهم يرى سُعارًا تجاه هذه الشهوات، وولوغًا في مستنقعاتها الآسنة، فما أكثر المسلمين العاكفين على متابعة الأطباق الفضائية وشبكة الإنترنت، وقد سمّروا أعينهم في سبيل ملاحقة برامج الفحش، وما أكثر الذين يشدّون رحالهم إلى بلاد الكفر والفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة.
لقد تكالب شياطين الإنس والجن مع النفوس الأمّارة بالسوء على إفساد عفاف المسلمين وأخلاقهم، قال سبحانه: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا[27]}[سورة النساء].
ومن أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة لا حد له ولا انقضاء، والمولع بشهوة الجنس بدون ضابط، أو رادع؛ لا يقف ولا يرعوي، يقول الشيخ علي الطنطاوي: [لو أوتيتَ مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل، وكل نوع من أنواع الجمال، هل تظن أنك تكتفي؟ لا، أقولها بالصوت العالي: لا.. أكتبها بالقلم العريض..ولكن واحدة بالحلال تكفيك. لا تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تلفّتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائمًا ظاهرًا مرئيًا][فتاوى علي الطنطاوي، ص146].
وفي الأدب الكبير، لابن المقفع: [اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء. ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفًا بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأنًا غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه].
إن أشد الفتن وأعظمها: الفتنة بالنساء، فعَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» (رواه البخاري ومسلم) . قال الإمام طاووس عند قوله:{...وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا[28]}[سورة النساء] : [إذا نظر إلى النساء لم يصبر]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [لم يكن كفر من مضى إلا من قِبل النساء، وهو كائن كفر من بقي من قِبل النساء]. وهاك أخي القارئ حكايتين واقعيتين تكشفان أن من أسباب الكفر بالله: عشق النساء.
فأما الحكاية الأولى: فقد ساقها أبو الفرج ابن الجوزي بقوله: [بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له: صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يُعرف بالصلاح، أنه صعد يومًا إلى المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني على ما أريد وإلا قتلتك. فقالت: لا؛ إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكُلْ من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب، فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها، فدخلت بيتًا وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفّته في ثوب، فجاء أبوها، فقصّت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة، فظهر حديثه، فرُمي في مزبلة][ ذم الهوى، ص 409].
أما الحكاية الثانية: فذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي:
[وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم قبحه الله، ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيرًا في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غمًا شديدًا، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله إلا قوله:{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ[2]ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[3]}[سورة الحجر]. وقد صار لي فيهم مال وولد][ البداية والنهاية، 11/64].
إن الولوغ في الفواحش وارتكابها له وسائل متعددة وأسباب كثيرة، وأدناها: سماع الأغاني؛ فإن الغناء رقية الزنا، وداعية الفاحشة.
وقال يزيد بن الوليد: [يا بني أمية! إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا][ انظر: إغاثة اللهفان، 1/369]. وقال ابن القيم: [ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان]؛ [أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدّف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من صوت لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حرّ أصبح به عبدًا للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدّل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من معافى تعرّض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا][ إغاثة اللهفان، 1/370، 371].
ومن أشد الوسائل فتكًا: النظر المحرم: فكم من نظرة إلى صورة جميلة في السوق، أو في شاشة، أو مجلة؛ أعقبت فواحش وآلامًا وحسرات. يقول ابن الجوزي: [اعلم-وفقك الله- أن البصر صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها، فيجول فيها الفكر، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. ولما كان إطلاق البصر سببًا لوقوع الهوى في القلب، أمرك الشارع بغضّ البصر عما يُخاف عواقبه. قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ...[30]وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ...[31]}[سورة النور] . ثم أشار إلى مُسبب هذا السبب، ونبّه على ما يؤول إليه هذا الشر بقوله:{...وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ...[30]... وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ...[31]}[سورة النور].][ ذم الهوى، ص106].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين