مُلَخَّص أحكام النجاسات
اعلم - رحمك الله - أنه يتعلق بأحكام النجاسات بعض المسائل:
مُلَخَّص أحكام النجاسات[1]
رامي حنفي - شبكة الألوكة
اعلم - رحمك الله - أنه يتعلق بأحكام النجاسات بعض المسائل:
المسألة الأولى: وجوبُ إزالة النَّجاسة:
يجب إزالة النجاسة، وذلك لقوله تعالى: {﴿ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾} [المدثر: 4]، ولقوله -صلى الله عليه وسلم-: {((أكْثَرُ عذابِ القبْر مِن البَوْل)} [2]، وغير ذلك مِن الأحاديثِ التي تَدلُّ على وجوبِ إزالة النجاسة.
المسألة الثانية: أنواع النجاسات:
والمقصود في هذه المسألة ذِكْر ما تكلَّم فيه العلماء عن النجاسة، سواء ما اتَّفقوا على نجاسته، أو ما اختلفوا على نجاسته، مع بيان الراجِح مِن كَوْنِهِ طاهرًا أم نجسًا:
النوع الأول مِن أنواع النجاسات: المَيتة: وهي كل ما ماتَ دونَ تَذْكية (يعني دونَ أن يُذكَرَ اسمُ الله عند ذبحها).
ويُلاحَظ أنه يُلحَق بحُكم الميتة ما يأتي: إذا قطِعَ منَ البهيمة شيءٌ قبلَ ذَبْحِها فهو ميتة، وعلى هذا: فما يُقْطَع مِن سَنمَةِ الجمل، أو أَلْيَةِ الضأن، أو ما يَفْعَله بعضُ مَن يتولَّوْن الذبحَ في المذابح العامَّة مِن قطْع أُذن، أو بتْر قدَم ونحو ذلك - يدخُل في حُكْم الميتة، فلا يَحِلُّ أكْلُه، وهو نَجِس.
الحيوان غير مأكول اللحم: حُكْمُه حُكْمُ الميتة، حتى لو ذُكِّيَ بالذَّبْح؛ إذ أنه مِن شروط صِحَّة التذكية: حِلُّ المُذكَّى (يعني أن يكون المذبوح حلالٌ أكله).
ولكنْ يُستثنَى مِن ذلك أمور:
1 - ميتة السَّمك، وميتة الجراد:
ميتة السَّمك طاهرة؛ لأنها حلال، لقولُه -صلى الله عليه وسلم- عن البحر: (( «هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه» )) [3]، وعلى هذا فيُباح ميتةُ البحر على أيِّ حالةٍ وُجِد؛ سواء كانَ طافيًا أو غيرَ طافٍ، وسواء كان بفِعْل آدمي، أو قذَف به البحرُ، أو نحو ذلك، وكذلك ميتة الجراد طاهرة، فعَن ابنِ أبي أوْفَى رضي الله عنه أنه قال: " «غزَوْنا مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- سبع غزوات أو سِتًّا نأكُل معه الجراد» [4]"، قال الحافظُ رحمه الله: "وقدْ أجْمَعَ العلماءُ على جوازِ أكْلِه بغيرِ تذكية[5].
2 - عَظْم الميتة وشَعرها وقَرْنها وظُفُرها، ونحو ذلك: طاهرٌ؛ إذ لا دليلَ على نجاسته، وهذا ما رجَّحه شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[6]، وأما جِلْد الميتة: فإنَّه نَجِس، لكنَّه يَطهُر بالدِباغ، والدِباغ: هو عملية صناعية تحدُث للجلد لمعالجته وتليينه بما يُزيلُ نَتَنَه وفساده ونجاسته.
ولكن... هل يُطهِّر الدِّباغُ جميع الجلود؟
ذَهَب بعضُ أهلِ العِلم إلى أنَّ الدباغ يطهِّر كلَّ الجلود، حتى جلد الكلب والخِنزير، ويرَى آخرون أنَّ الدباغ لا يطهِّر إلا جِلدُ مَيْتة مأكولِ اللحْم فقط، والقول الأول هو الراجح - يعني أن الدباغ يطهر جميع الجلود - والله أعلم.
3 - قال ابنُ تيمية رحمه الله: "والأظهَر أنَّ إنفحَةَ الميتة ولَبَنَها طاهر؛ وذلك لأنَّ الصحابة لَمَّا فتحوا بلادَ العراق أكَلوا جُبْنَ المجوس، وكان هذا ظاهِرًا شائعًا بينهم[7]"، و((الإنفحَة)): شيءٌ أصْفَر يخرُج مِن بطن الحيوان، يُعصَر في صوفةٍ مُبْتلَّة في اللَّبَن فيَغلظ[8].
4 - النفوس التي لا تَسيلُ لها دمٌ إذا ماتت أو جُرِحَتْ، كالذُّباب، والجَراد، والعقرب: فهذه لا تَنْجُس بموتها، وقد استدلَّ العلماءُ على ذلك بقوْل رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: (( «إذا وقَعَ الذُّبابُ في شرابِ أحدِكم فلْيغْمِسْه كُلَّه، ثم ليطرحْه، فإنَّ في أحدِ جَناحَيْه داءً، وفي الآخَرِ دواء» )) [9]، فلم يأمرْ بإراقةِ الشراب، ومعلومٌ أنَّه لو كان يُنجِّسه لأَمَر بإراقته، والله أعلم.
النوع الثاني مِن أنواع النجاسات: لحم الخِنزير:
قال تعالى: {﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾} [الأنعام: 145]، والضمير في قوله: {﴿ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾} يَرجِع إلى أقربِ مذكور، وهو ((لحْم الخِنْزير)).
ثالثًا: بول الآدمِي نجس وكذلك غائِطُه:
قال صِدِّيق حسَن خان: (بل نجاستُهما مِن بابِ الضرورة الدِّينيَّة، كما لا يَخفَى عَلى مَن له اشتغالٌ بالأدلَّة الشرعيَّة).
حُكْم بول الصبي:
1 - بوْل الصبي نجس، ويجب غسله (هذا إذا كانَ يأكل الطعام) (يعني إذا صار يشتهي الطعام؛ بحيثُ إذا مُنِع منه: بَكَى)، أما إذا كانَ الغلامُ لم يأكُلِ الطعام بعد، والمرادُ: (لم يَحْصُلْ له الاغتذاءُ بغير اللَّبن على سبيلِ الاستقلالِ): فإنه يُخفَّف في تطهيرِ بوْله بالرَشِّ فقط وليس بالغَسل.
2 - وأمَّا بول البِنت فيَجِبُ فيه الغَسْل (سواء كانت تأكل الطعام أو لم تأكله بعد).
رابعًا: بَوْل وغائط الحيوان:
الحيوان إمَّا مأكولُ اللَّحْم، وإمَّا غيرُ مأكول اللحم: أمَّا مأكولُ اللَّحْم، فالراجح طهارةُ بولِه ورَوْثه - والروث هو الغائط -، وأمَّا غيرُ مأكول اللَّحْم، فقد ذهَبَ بعضُ أهلِ العِلم إلى نجاسة بوله ورَوْثه، وذَهَب آخرونَ إلى القول بطهارةِ بوْل ورَوْث غير مأكولِ اللَّحْمِ عدَا رَوْث الحِمار فقط وهذا القول هو الراجح (يعني أن بول وغائط جميع الحيوانات طاهر عدا غائط الحمار فقط، لأنه الوحيد الذي ورد الدليل بنجاسته).
خامسًا: لُعاب الكلب: اعلم أنّ لعاب الكلب نَجِسٌ، وأمَّا عن كيفيةِ تطهيره، فسيأتي في المسألة التالية مِن هذا الفصل.
سادسًا: حُكْم الدم:
يختلف دَمُ الحَيْض عن غيرِه مِن الدماء، أمَّا دَمُ الحَيْض: فنَجِسٌ، وأمَّا غيرُه من الدماء: فالراجح أنَّه طاهرٌ، سواء كانَ هذا الدمُ مسفوحًا -وهو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذبحها- أو كانَ غيرَ مسفوح، فإنّ الأصلُ في الأشياءِ: الطهارة، ولم يأتِ دليلٌ صريح على نجاسةِ الدم، وأمَّا قوله تعالى: {﴿ قُلْ لاَ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ } [الأنعام: 145]، فالضميرُ في قوله: {﴿ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ﴾ } يعود إلى أقربِ مذْكور، وهو لَحْم الخِنزير.
سابعًا: المَذي:
المَذي: ماءٌ رقيقٌ لَزِج، يخرُج عندَ الشَّهْوة، بلا قذف، ولا دَفْق، ولا يَعقُبه فتور، وربَّما لا يحسُّ بخروجه أصلاً، وسواء في ذلك الرَّجل والمرأة، واعلم أنّ المذي نجس، وفيه الوضوء.
واعلم أيضاً أنَّه يَلزَم تطهيرُه بالماءِ على النحوِ التالي:
أ - أمَّا الطهارة منه: فيكون ذلك بأن يَغْسِل ذَكَره وأُنثَيْيِه (الخِصيتين).
ب - وأمَّا ما يُصيبُ الثوب منه: فيَكفيه أن يَرُشَّ عليه كفًّاً من ماءٍ.
ثامنًا: المني:
المَنِيُّ: ماءٌ أبيضُ غليظٌ، يخرُج من الإنسان بشهوة، ويخرُج بتدفُّق، ويَعقُبه فُتور، وله رائحةٌ تُشبه رائحةَ البيض الفاسِد، ومَنِيُّ المرأة رقيقٌ أصفر، واعلم انه يَكفي في إزالة المنيِّ: غَسْلُهُ إنْ كان رطبًا، وفرْكُهُ إن كان يابسًا، وسواء في ذلك الرَّجُل والمرأة.
وأمَّا عن حُكمِه: فهو طاهِر على أصحِّ الأقوال، لأن المني هو أصلُ الإنسان، والإنسان طاهِر، فكذلك المنيُّ، وقدْ ثبْت الحُكم بطهارة المنيِّ عن عمرَ وأنس وأبي هريرة - رضي الله عنهم.
ويُلاحَظ أنَّه لو بَقِيَ أثرُ المنيِّ بعدَ غَسْله، أو فَرْكه، فإنَّ ذلك لا يُؤثِّر في صحَّةِ الصلاة.
تاسعًا: الوَدْيُ: الوَدْيُ: ماءٌ أبيضُ ثخينٌ، يخرُج بعدَ البول، وهو نجِس، وفيه الوضوء ويغسل ذكره؛ فعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنهما أنه قال: "المَنِيُّ والوَدْي والمَذْي؛ أمَّا المنيُّ: ففيه الغُسل، وأمَّا المَذْي والوَدْي: ففيهما الوضوءُ، ويَغْسِل ذَكَرَه"[10].
عاشرًا: الخمر:
وقد اختلَف العلماءُ في حُكم نجاسةِ الخمر، فبعضُهم يرَى نجاستَها، وبعضُهم يرَى طهارتها، والراجح أنها طاهرة، لأنّ الأصلُ في الأشياء: الطهارةُ، حتى يأتيَ دليلٌ يدلُّ على نجاستها، وأمَّا القول بنجاستها لكونها مُحرَّمةً، فلا ينهض كدليل؛ لأنَّه ليس كلُّ مُحرَّم نجسًا، وأمَّا ما استدلَّ به القائلون بالنجاسةِ مِن قوله تعالى: {﴿ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ﴾} [المائدة: 90]، فليس فيه دليلٌ على النجاسة؛ لأنَّ المقصودَ بقوله تعالى: ﴿ رِجْسٌ ﴾ هنا هو الرجس (المَعْنوي)، وليس الرجس (الحِسِّي)، ومما يدلُّ على ذلك: أنَّ الأنصابَ والمَيْسرَ والأزلام المذكورة في الآية لا تُوصَف بالرِّجْس الحسِّي، وحيث إنَّ الخمرَ قد عُطِفَتْ عليها في الحُكم، فإنَّها تأخُذُ نفْسَ الحُكم بأنَّ النجاسةَ معنويَّة وليستْ حِسِّيَّة.
وعلى هذا: فإنّ إناءُ الخَمْر إذا أُريق ما به مِن الخمْر، وغُسِل بأيِّ شيء يُزيل الخمرَ، حتى ذهب أثَرُ الخمر - جازَ الانتفاعُ به، لكن إذا كانتْ هناك زجاجات خاصَّة تُعرَف بأنها زجاجاتُ خمور، فالأَوْلى ترْكُها حتى لو غُسِلت، لا لكونها نَجِسَة، ولكن دَفْعًا للتُّهمة وسوءِ الظن بمَن يستعملها.
ملحوظة:
القَيْء والقَلْس - (وهو ماء أصْفَر يخرُج مِن الفم عندَ امتلاء البطْن) - والمُخاط والبصاق، لا دليلَ على نجاستها، والصحيحُ أنَّها طاهرة، كما أنَّها لا تنقُض الوضوء.
المسألة الثالثة: في تطهير النجاسات:
1 - تطهير دم الحيض:
جاءتِ امرأةٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إحْدَانا يُصيب ثوبَها مِن دمِ الحيضة؛ كيف تَصْنَع؟ فقال: «((تَحُتُّه - يعني تدلك مكان الدم حتى يزول -، ثم تَقْرُصُه بالماء، ثم تَنْضَحُه - يعني تغسله -، ثم تُصلِّي فيه))» [11].
ملحوظة: بقاء أثَر النجاسة بعدَ إزالة عيْنه لا يَضرُّ، خصوصًا إذا تعسَّرَتْ إزالتُه؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: «((يَكْفِيك الماءُ ولا يَضرُّك أثَرُه))» [12].
2 - تطهير الإناء من ولوغ الكلب فيه:
قال رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: (( «طُهُورُ إناءِ أحدِكم إذا وَلَغ فيه الكلْبُ: أن يَغْسِلَه سبعَ مرَّات، أُولاهنَّ بالتُّراب» )) [13]، فدَلَّ هذا الحديثُ على نجاسةِ لُعابِ الكلْب، وأنه يُنجِّس الإناءَ إذا ولَغ فيه، ومعنى ((الولوغ)): أن يُدخِل لسانَه في الإناء ويُحرِّكه، سواء شرِب، أو لم يَشْرَبْ، وحتى يتم تطهيرِ الإناء من ولوغِ الكلْب - بعدَ إراقة الماء الذي ولَغ فيه - فإنه يُغسَل سبعَ مرَّات على أن يُجعَل في أوَّل غَسْلة: تُراب.
تنبيه: الحديثُ السابق قد ورَد في ولوغُ الكلْب فقط، فلا يدلُّ هذا الحديثُ على نجاسةِ بقية أجزائه على الصحيح، وعلى هذا فليس في الكلب شيءٌ نجس إلا اللعاب، قال ابن تيمية رحمه الله: "والأظْهَر أنَّ شَعر الكلْبِ طاهِر؛ لأنَّه لم يثبُتْ فيه دليلٌ شرعي[14]".
3 - تطهير النَّعْل إذا أصابتْه نجاسَة:
اعلم أنّ النَّعْل أو الخُفَّ الذي أصابته نجاسة: يَكفي في تطهيره أن يُدلَّك بالأرْضِ، حتى يذهبَ أثَرُ هذه النجاسَة.
4 - تطهيرُ ذَيْل المرأةِ إذا أصابتْه نجاسة:
الواجِب على المرأةِ أن تُطيلَ ثوبَها؛ حتى لا تتكشَّفَ ولا يظهَرَ منها شيء، ولكنْ قد يَعْلَقُ بذيل ثوبها نجاسةٌ إنْ هي مَرَّت عليها، فماذا تفعل؟
الجواب: يَكْفِيها أن تمشي في المكانِ الطاهِر، حتى تُطهِّرَ الأرضُ ثوبَها.
5- تطهير الأرض:
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه أنه قال: "قام أعرابيٌّ فبالَ في المسجِد، فقام إليه الناسُ ليَقعوا به، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: (( «دَعُوه، وأرِيقوا على بوله سَجْلاً مِن ماء - أو ذَنُوبًا مِن ماء - فإنَّما بُعِثْتُم مُيسِّرين، ولم تُبْعَثوا مُعسِّرين» )) [15]، ففي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ الأرضَ إذا أصابتْها نجاسةٌ: أنَّها تُطهَّر بصبِّ الماء عليها، وقد وردتْ آثارٌ بأنَّ الأرْض تُطهَّر أيضًا بالجفاف؛ فعن أبي قِلاَبَة أنه قال: إذا جَفَّتِ الأرض فقد زَكَتْ - يعني: طَهُرَتْ[16]، وثبَت هذا أيضًا عن ابنِ الحَنفيَّة والحسنِ البصري[17]، هذا إذا كانتِ النَّجاسةُ مائعةً - أي سائِلة - أمَّا إذا كانت النجاسة جامِدة: فلا تَطهُر إلا بزوالِها، أو بتحولها إلى شيءٍ آخَر كما سيأتي بيانُ ذلك.
6 - تطهير الأطعِمة الجامدة إذا وقَعَتْ فيها نجاسة: سُئِل رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن فأرةٍ سقطَتْ في سمْن، فقال: ((ألْقُوها وما حَوْلها - أي: ألقوا الفأرة والسمن الذي أحاط بها - فاطرحوه، وكُلُوا سَمْنَكم - أي: كلوا السمن الذي تبقى بعد طرح الفأرة وما حولها من السمن))[18].
وقد فرَّق جمهورُ العلماء بيْن السَّمْن إذا كان جامدًا، إذا كان سائلاً، فرَأَوْا أنَّه إنْ كان جامدًا: أُلْقِيت النجاسةُ وما حولَها، والباقي يكون على أصْلِ الطهارة، وأمَّا إنْ كان سائلاً: فذَهَب البعضُ إلى الحُكم بنجاستِه كلِّه، وذهَب آخرون إلى أنَّه لا يَنجُس إلا بالتغيُّر (يعني بتغير طعمه أو ريحه أو لونه بسبب النجاسة)، وهذا هو مذهبُ ابن عبَّاس وابن مسعود وغيرهما، وهذا هو الراجِح، وهو مذهبُ الزُّهري والبخاري، ورجَّحه ابن تيمية، والله أعلم.
• وأمَّا إذا وقعَتِ الفأرةُ في السمن، وخرَجَتْ حيَّة ولم تَمُتْ، فالسَّمْن طاهِر، سواء كان جامِدًا أو مائعًا.
تنبيهات:
1 - الآنية المصقولة كالمِرْآة والسكِّين والزُّجاج ونحوها (إذا أصابتها نجاسة): فإنه يَكْفِي في طهارتِها المسحُ الذي يُزيل أثَرَ النَّجاسَة.
2 - إذا ماتَ حيوانٌ في بِئر ونحو ذلك: فإنْ كان الماءُ لم يتغيَّرْ بسبب النجاسة فهو طاهر، وأمَّا إنْ تغيَّر الماء فإنَّه يتم نزح الحيوان الميت مِن الماء حتى يَطيب[19].
المسألة الرابعة: هل يجب أن تُزالَ النجاسةُ بالماء، أم يَجُوز إزالتها بأيِّ شيء آخَرَ يُزيل النجاسة؟
ذهَب الجمهورُ إلى وجوب إزالَة النجاسَة بالماءِ، وذهَب أبو حنيفَة وأبو يُوسفَ إلى جوازِالتطهيرِ بكلِّ سائل طاهِر، وهذا القول هو الراجح، وعلى هذا، فيَجُوز إزالةُ النجاسة بالصابونِ والخَلِّ وغيرِ ذلك مِن المُزيلات الحديثة.
قال الشيخ عادل العزّازي: (وأمَّا الطهارةُ مِن الحدَث: فإنَّه يتعين فيه الماء، أو التراب عندَ فقْدِ الماء، أو عندَ عدم القُدْرة على استعمالِه).
المسألة الخامسة: حُكْم النجاسة إذا تحولت إلى شيءٍ آخَر:
قال ابنُ حزْم رحمه الله: "وإذا أُحْرِقت العَذْرة - وهو الغائط -، أو المَيْتة، أو تغيَّرت فصارتْ رَمادًا أو تُرابًا، فكلُّ ذلك طاهِر"[20]، وقال ابن تيمية رحمه الله: "الأظهَرُ طَهارةُ النجاسة بالاستحالَة - (أي: بالتحول إلى شيءٍ آخر) -، وهو مذهبُ أبي حنيفة، وأحدُ القولَيْن في مذهبِ أحمدَ ومالكٍ"[21].
ملاحظات مُتعلِّقة ببابِ النجاسات:
1 - إذا أكلَتِ الهِرَّةُ شيئاً نجساً (كالميتة)، ثُمَّ شَرِبتْ مِن ماءٍ يسير بعدَ فترة من الوقت: فالماء طاهِر، وإنْ شرِبتْ مباشرةً بعدَ أكْلها للنجاسة: ففيه وجهانِ في تنجيسِ الماء، والأصحُّ في ذلك أنه لا يُحْكَم بتنجيسه إلا بالتغيُّر (يعني إلا بعد تغير طعمه أو ريحه أو لونه بسبب النجاسة).
2 - إذا أصابَ الثَّوبَ أو البَدنَ نجاسةٌ: فالمقصود إزالةُ النجاسة مِن المكان الذي أصابتْه، ولا يُقصَد بذلك غسْلُ الثوب كلِّه كما يظنُّه بعضُ الناس.
3 - ماذا يفعل الإنسان إذا أصابه ماءٌ (على جسده أو على ثوبه)؟
قال الشيخ عادل العزّازي: (لا يَسأل عن طهارةِ الماء إذا أصابَه، بل يَحمِله على الأصْل، وهو الطهارة).
4 - فأرة المِسْك (وهو الذي يُؤخَذ مِن الغزال): طاهِرة عندَ جماهير العلماء، وليس ذلك مِن قبيل ما يُقْطَع من البهيمةِ وهي حيَّة، بل هو بمنـزلة البَيْض والولد واللَّبن والصُّوف، والله أعلم.
5 - إذا صَلَّى وعلى ثوبه نجاسة - جاهلاً بها أو ناسيًا -، فلا إعادةَ عليه، وإن تذكَّر النجاسة أثناءَ الصلاة أو علِم بها: وجَب إزالتُها؛ وذلك لِمَا ثبت عن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه أنه قال: بينما رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُصلِّي بأصحابِه، إذ خَلَع نعليه فوضعهما عن يسارِه، فلمَّا رأى ذلك القومُ: ألْقَوا نِعالهم، فلمَّا قَضَى رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- صلاتَه قال: ((ما حمَلَكم على إلْقائِكم نِعالَكم؟))، قالوا: رأيناك ألقيتَ نَعْلَيْكَ فألْقَيْنا نِعالَنا، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ جِبريلَ أتاني فأخْبَرني أنَّ فيها قَذَرًا)) الحديث[22].
6 - لا يَجُوز التداوي بالنجاساتِ، ولا بشيءٍ حرَّمه الله عزَّ وجلَّ، وذلك لِمَا ثبَت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ الله تعالى لم يَجْعَلْ شِفاءَ أُمَّتي فيما حَرَّمَ عَلَيْهم))[23].
7 - هلْ يَجُوز استعمالُ النجاسة في غير استخدام الإنسان: كإطعامِ المَيْتة للصُّقور، وإلْباسِ الثوب النَّجِس للدابَّة، ودَهْنِ السُّفن بالدُّهْن المتنجِّس، وإطعام شحوم الميتة للكلاب، ونحو هذا؟
الصحيح: جوازُ ذلك.
8 - إذا استيقظ الإنسانُ مِن نومه، فلا يَنبغي له أن يَضَعَ يدَه في الإناء حتى يَغسلَها ثلاثَ مرَّات، فربما مست يده فرجه بدون حائل وهو نائم دونَ أن يشعر.
9 - لا يَجِبُ عليه أن يغسِلَ ما أصاب رِجْلَه مِن طِين الشوارع، إلا إنْ كان على يقينٍ أن بها نجاسَة؛ كأنْ تكونَ المياه التي في هذا الطين مِن مَصْرَفٍ صحِّي، كالبالوعة ونحوها.
10 - وكذلك يُعفَى عن الأثَرُ المتبقِّي بعدَ الاستجمار (والاستجمار هو استخدام الحجارة في قلع النجاسة)؛ لأنَّ الحجر يُزيل عينَ النجاسة، ولا يَقْلَع الأثرَ تمامًا، وقاعدة الشَّرْع مَبنِيَّة على رفْع الحرَج.
11 - غسْل الملابسِ في الغسَّالات وتجميعها في مكانٍ واحد، - حتى وإنْ كان بعضُها مُتَنجِّسًا - لا يضرُّ الباقي؛ لأنَّ الماءَ يتكاثَر على هذِه النجاساتِ، فيَذْهَب أثرُها بحيثُ لا يظْهَر لها طعمٌ ولا لون ولا رِيح، والراجِح أنَّ الثِّيابَ كلَّها تطهُر بهذا الغَسْل.
أحكام الآنية:
الآنية: جمْع إناء، وهو الوِعاء.
حُكم الآنية: الأصْلُ في الآنية أنها حلال، ولا فرْقَ بين الأواني الصَّغيرة أو الكبيرة، كما لا فَرْق بيْن الأواني الثمينة والمصنوعة مِن الجواهِر والزُّمرُّد، والألماس، وبين الأواني الرَّخِيصة، فيُباح اتخاذها واستعمالها؛ لعمومِ قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29]، فيُباح تملُّكها والاتِّجار فيها بالبيع والشِّراء، والانتفاعُ بها (كاستخدامِهافي الطعامِ والشراب، ونحو ذلك)، وإنَّما تُكرَه الأواني الثَّمينة؛ لِمَا فيها من الخُيلاء والإسراف، ولكن يُستثنى ممَّا سبق ما يَتعلَّق بآنية الذَّهَب والفِضَّة، وما يتعلَّق بآنية المشركين، فقد قال رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تَلْبَسوا الحريرَ ولا الدِّيباج، ولا تَشْرَبوا في آنيةِ الذَّهب والفِضَّة، ولا تَأكلوا في صِحافِهما؛ فإنَّهما لهم في الدنيا ولكُم في الآخِرة))[24].
فَدَلَّ هذا الحديثُ على تحريمِ الأكْل والشُّرْب في آنيةِ الذهب والفِضَّة للرِّجال والنِّساء على السواء، وأمَّا التحلِّي بهما: فإنَّ الذهب يَحرُم على الرِّجال، وإنَّما يُباح لهم خاتمُ الفِضَّة، وأما النِّساء فيُباح لهنَّ التحلِّي بهما.
وقد اختلَف العلماءُ في حُكْم استعمالِ الذهب والفِضَّة في غير الأكْل والشرب؛ فالجمهور على تحريمِ ذلك، وذهَب الشوكانيُّ في "نيل الأوطار" إلى جوازِه؛ لعدمِ نهوض الدليلِ على هذا التحريم، ولأنَّه اقتصَر في الحديثِ السابق على ذِكْر الطعام والشراب فقط، وهذا هو الراجِح.
وعلى هذا فيَجُوز الوضوءُ والاغتسالُ وجميعُ الاستعمالات من إناءِ الذَهب أو الفِضَّة عدَا الأكْل والشُّرْب.
ملاحظات:
1 - مِمَّا ورَد في الوعيدِ لمن أكَل أو شَرِبَ في آنيةِ الذَّهب والفِضّة: ما ثبَت أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إنَّ الَّذي يَشْرَبُ في آنيةِ الفِضَّة إنَّما يُجَرْجِر في بَطْنِه نارَ جَهنَّم))[25] - وفي لفظٍ لمسلِم -: ((مَن شَرِب في إناءِ ذهبٍ أو فِضَّة))[26]، وهذا يدلُّ على أنّ الأكْل والشُّرْب فيهما مِن كبائرِ الذنوب.
2 - لا يُلْحَق هذا الحُكمُ بنفائسِ الأحجار، كالياقوت والجواهر؛ لأنَّ الأصْلَ: الإباحة، ولا دليلَ على تحريمِ استعمالها، ولو في الأكْل والشُّرْب.
3 - يَجُوز لِحام الإناءِ بالفِضَّة إذا انكَسَر، ولا يَمنع ذلك مِن استعمال الإناء.
4 - اعلم أنَّ الآنيةَ المباحَة إذا كانتْ على صورةِ حيوان مثلاً، فإنَّها تَحرُم، ويكون التحريمُ لا لذاتِ الآنية، ولكنْ لصورة الحيوان.
5 - إذا لم يَجِدْ إناءً يَشْرَب أو يأكُل فيه إلا إناءَ ذهبٍ أو فِضَّة: جاز له ذلك للضرورة[27].
آنية الكفار: يَجُوز الأكْلُ والشُّرْب في آنية الكفَّار؛ وذلك لِمَا ثبَت "أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- أكَل مِن الشاة التي أهدتْها له يهوديةٌ مِن خَيْبر[28]" (وقد كانت الشاة موضوعة في إناء من آنية اليهود)، ولِمَا ثبَت أنه -صلى الله عليه وسلم- تَوضَّأَ مِن مَزَادة مشرِكة[29]، و(المزادة): هي القِرْبة التي يُوضَع فيها الماء، ولكن الأَوْلى عدمُ استعمال آنيتهم إلا بعدَ غَسْلها، إذا عَلِم أنَّهم يَطْبخون فيها الخِنزير ويَشْربون فيها الخمْر.
[1] مُختَصَرَة من كتاب (تمام المِنّة في فِقه الكتاب وصحيح السُنّة) لفضيلة الشيخ عادل العزّازي أثابه الله لمن أراد الرجوع للأدلة والترجيح، وأما الكلام الذي تحته خط أثناء الشرح من توضيحٍ أو تعليقٍ أو إضافةٍ أو غير ذلك فهو من كلامي (أبو أحمد المصري).
[2] صحيح: رواه ابن ماجه (348)، وأحمد (2/ 389)، والحاكم (1/ 183)، وابن أبي شيبة( (1/ 115)، وصحَّحه الحاكمُ على شَرْط الشيخين، ووافَقه الذهبي.
[3] صحيح: رواه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (1/ 50)، وابن ماجه (386).
[4] رواه البخاري (5495)، ومسلم (1952)، وأبو داود (3812)، والترمذي (1822).
[5] فتح الباري (9/ 621).
[6] انظر مجموع الفتاوى (21/ 100).
[7] مجموع الفتاوى (21/ 103).
[8] لسان العرَب: (28/ 624).
[9] رواه البخاري (3320)، (5782)، وأبو داود (3844)، وابن ماجه (3505).
[10] صحيح: رواه ابن أبي شيبة (1/ 89)، والبيهقي (1/ 169).
[11] البخاري (227)، ومسلم (291)، والترمذي (138)، والنسائي (1/ 52)، وابن ماجه (629) من حديث أسماءَ بنتِ أبي بكْرٍ رضي الله عنها.
[12] صحيح: رواه أبو داود (365)، وأحمد (2/ 364).
[13] مسلم (279)، وأبو داود (71)، والترمذي (91)، والنسائي (1/ 177)، ورواه البخاري (172)، وابن ماجه (364) نحوه.
[14] مختصر الفتاوى المصرية (ص20).
[15] البخاري (220)، (6128)، وأبو داود (380)، والترمذي (147)، والنسائي (3/ 14).
[16] رواه ابن أبي شيبة (1/ 59).
[17] المصدر السابق.
[18] البخاري (235)، وأبو داود (3841)، والترمذي (1798)، والنسائي (7/ 178).
[19] انظر مجموع الفتاوى (21/ 38).
[20] المُحلَّى (1/ 166).
[21] الفتاوى المصرية (ص19).
[22] صحيح: رواه أبو داود (650)، وأحمد (3/ 92).
[23] صحيح: رواه الحاكم (4/ 218)، والبيهقي (10/ 5) بإسناد صحيح موقوفًا على ابن مسعود، وله حُكْم الرَّفْع، وله شاهدٌ مرفوع من حديثِ أمِّ سلمة؛ رواه أحمد في "الأشربة" (159)، والبيهقي (10/5)، ورجاله رجالُ الصحيح، عدَا حسَّانَ بن مخارق، لم يُوثِّقْه غيرُ ابن حبَّان.
[24] البخاري (5426)، ومسلم (2067)، وأبو داود (3723)، والترمذي (1878)، وابن ماجه (3414)، وأحمد (5/ 385، 390، 396).
[25] البخاري (5634)، ومسلم (2065)، وابن ماجه (3413).
[26] مسلم (2067).
[27] انظر مختصر الفتاوى المصرية (ص: 30).
[28] البخاري (3169، 4249).
[29] البخاري (344)، ومسلم (682).
- التصنيف:
- المصدر: