مسيلمة الثائرين
في اليابان مَثَل يقول: "حتى السارق يحتاج إلى عشر سنوات، لكي يتعلم التجارة"، وللتذكير فقط، مسيلمة الثائرين "يملك" ليبيا منذ 42 عاماً.
تعديلات القذافي على مقولة وزير الدعاية النازية غوبلز: اكذب.. اكذب، ولكن ليس حتى يصدقون، بل حتى أصدق.
"أنقِذ السارق من حبل المشنقة، فسوف يجز رقبتك لاحقاً" مثَل فرنسي.
استكمالاً لمقالي السابق حول سفاح ليبيا معمر القذافي، الذي نُشر بعنوان: "إمبراطور الاستثمار في الإرهاب"، وانطلاقاً من سهولة العثور على ألقاب جديدة ومتجددة له، سواء من تلك التي يُحبها ولا تنطبق عليه، أو تلك التي يكرهها وهي مفصلة على مقاسه بصورة طبيعية، أمنح القذافي لقب "مسيلمة الثائرين"، أو "مسيلمة الأموال المنهوبة"، وفي النهاية يمكن أن يفوز بجدارة باللقب الشامل، وهو "مسيلمة كل شيء"، وإذا كان هناك "مسيلمات" في هذا العالم، فهو بلا شك يحتل المراكز العشرة الأولى على الأقل، أي أن مسيلمة الثاني هو في الواقع مسيلمة الحادي عشر، وكلنا تابعناه في خطاباته الترفيهية البائسة، عندما قال وهو في خضم صدمته من ثورة شعبه: "يقولون هناك مظاهرات في ليبيا، ولا توجد مظاهرات، ويقولون هناك قتلى، ولا يوجد قتلى، ويقولون إننا استخدمنا الأسلحة ضد الليبيين، ولم نستخدم أي أسلحة"، وليس مستبعداً أو مستغرباً، أنه فكَر في الإعلان عن أن المظاهرات والاحتجاجات التي عمت ليبيا، ليست سوى فعاليات شعبية على هامش مهرجان شم النسيم! وسيجد ما يكفي من المرتزقة؛ ليقسموا بالله، بأنهم تناولوا "الفسيخ" في حدائق وساحات مدينة مصراتة الصامدة، وأنهم بعد ذلك دخنوا الشيشة في قلب مدينة البريقة المناضلة، وأنهم تركوا أبنائهم يسبحون على شواطئ راس لانوف الحرة، وأن بناتهم قضين أوقاتهن يطاردن الفراشات على أبواب أجدابيا الأبية!
ماذا يقول مسيلمة المعاصر أيضاً: "أنا ما عندي فلوس، أنا عايش على اللجان الشعبية، أنا بلا وظيفة، أنا غلبان"! ولو استمر في الكلام، لقال: لقد شكلت جمعية مع زملائي الثوريين؛ لمواجهة شظف العيش، يقبضها واحد منا كل شهر، وهذا صحيح، ولكن مع فارق بسيط، هو أن هذه الجمعية ليست شهرية بل أبدية، وأموالها ليست ملك أفراد بل ملك أمة بأكملها، وأعضائها ليسوا بالملايين بل بالعشرات فقط، غالبيتهم من أسرة مسيلمة، وبقيتهم من الأسرة الثورية، وهذه الجمعية هي أول "جماهيرية" خاصة! ولو لم يكن مسيلمة يملك البلاد بأكملها، لسجلها في غرفة التجارة، كشركة ذات مسؤولية محدودة، بمجلس إدارة مكون من أعضائها فقط!
لم تكن إشارة الرئيس السوري بشار الأسد في "مجلس الشعب" في سياق مهاجمته للفضائيات، إلى مبدأ "اكذب.. اكذب حتى يصدقون" موفقة، وبالمناسبة هذه الإشارة منتحلة من المقولة الشهيرة لوزير الدعاية النازية غوبلز، لكنها تنطبق على مسيلمة الثائرين، مع ضرورة تغيير "حتى يصدقون" بـ "حتى أُصدق"، ومع ذلك تبرز هنا مشكلة حقيقية هي أن القذافي نفسه لا يصدق ما يقوله؛ لأنه أول العارفين بحقيقة الكذب ونوعيته، مع الإشارة إلى أنه كان آخر العارفين بالثورة الصادقة ضده، ولذلك فقد كذب.. كذب حتى فشل في العثور عمن يصدقه، ونهب.. نهب حتى عجز عن حصر الأموال المنهوبة، قبل أن أتناول الحديث عن "الثورات" بين أبنائه من أجل اقتناص أكبر كمية من ثروات الشعب الليبي، أحسب أنه من المهم إعادة التذكير بالأموال التي نهبها القذافي، طبقاً للمصادر الرصينة، والتي تصل في حدها الأدنى إلى أكثر من 200 مليار دولار أميركي (لا زيمبابوي)، موزعة على الشكل التالي: 130 مليار له ولأبنائه وزوجته المفضلة، و70 مليار لزملائه "الثوريين"! ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذه التقديرات تعود إلى تسعينات القرن الماضي، وبدد مسيلمة أكثر من 350 مليار دولار هي عبارة عن استثمارات في الإرهاب بكل أنواعه وأشكاله، بما في ذلك الاغتيالات، والانقلابات، وتدريب قطاع الطرق، ودعم المرتزقة من أولئك الذين يأكلون لحوم البشر، وتسليح قبائل يرتدي أفرادها ريش الطيور وأوراق الأشجار، لا الأقمشة.
يقول الأديب الكوبي خوسيه مارتي: "الرجل الأناني هو لص"، ويقول معه الأديب والشاعر الأيرلندي أوسكار وايلد: "إنه دائماً متأخر تجاه المبادئ؛ لأن مبادئه متناغمة مع النهب وسرقة الوقت"، وعندما يقول مسيلمة: "إنني لا أملك فلوس"، فهو لا يكذب فقط، بل يغطي أيضاً على ثورات حقيقية، قام بها أفراد أسرته الصغيرة المؤلفة من تسعة أشخاص، ضد بعضهم البعض، لماذا؟ للحصول على المزيد من الأموال المنهوبة، والحقيقة أن هذا سلوك أحدثته عصابات المافيا، ودرجت على أتباعه في كل جريمة ارتكبتها، من عمليات السرقة وتجارة المخدرات والقتل والخطف وتبييض الأموال وفرض "الإتوات".
وقد خاض أبناء وبنت القذافي، ضد بعضهم البعض ثورات "الكوكاكولا" والاتصالات والنفط والتوكيلات والفنادق والمنتجعات السياحية، إلى درجة حملوا السلاح ضد بعضهم البعض، وعلى مبدأ قطاع الطرق وصلوا في ثوراتهم هذه إلى نصب الكمائن لبعضهم، وفي إحدى المرات حاول المعتصم قتل أخيه غير الشقيق محمد من أجل صفقة تجارية أرضاه والده على أثرها، بتخصيص ميزانية بمليارات الدولارات؛ ليشكل كتائب خاصة له، وكذلك الأمر مع المضطرب عقلياً وسلوكياً الساعدي، وكان القذافي قد خصص لكل واحد من أبنائه بالتساوي خمسة مليارات دولار، ومع ذلك فقد كان كل واحد منهم يصبوا إلى أموال شقيقه المنهوبة أصلاً، وإذا كان هؤلاء لا يتورعون في ارتكاب جرائم ضد بعضهم البعض، ويسعون لسرقة المال المسروق، فهل هناك قوة في هذا العالم يمكن أن توقفهم عن سرقة مقدرات الشعب الليبي؟! هناك قوة واحدة فقط يمكن أن تحد من جشعهم وجرائهم وسرقاتهم، هي الأخلاق، ولكن من يملكها منهم؟
في إحدى وثائق "ويكيليكس" التي نشرتها جريدة "الفايننشال تايمز" البريطانية الرصينة، قال كاتبها الأميركي: "إن سيطرة عائلة القذافي على اقتصاد ليبيا متجذرة، إلى حد أن أفرادها يحاربون بعضهم بعضاً في تنافسهم لاغتنام هذه الفرص المربحة"، وتتابع: "القذافي أقام إمبراطورية مالية ضخمة هي مصدر خلافات جدية بين أبنائه"، وفي وثيقة أخرى جاء: "أن أولاد العقيد التسعة وزوجته يسيطرون على أغلبية قطاعات الاقتصاد الليبي، وبشكل خاص النفط الذي يشكل الثروة الحقيقية للبلاد، وليس من الصدف استيلاء سيف الإسلام القذافي على حصة من الثروة النفطية الليبية عبر الشركة الوطنية العامة التي تدير هذا القطاع الحيوي"، وطبقاً لجريدة "الجارديان" البريطانية الرصينة فإن: "هناك فجوة بالغة من مليارات الدولارات تظهر سنويًا بين عائدات النفط والغاز الليبي وبين الإنفاق الحكومي"، ولا شك في أن هذا الخلل المريع والواضح بين حجم العائدات النفطية، وحجم الإنفاق العام، هو المصدر الرئيسي لثروة مسيلمة وعائلته و"الثوار"، ولا يوجد من يستطيع تحديد الأموال المنهوبة، وتلك التي أُنفقت في ليبيا، وذلك لاستحالة فصل ثروة مسيلمة واستثمارات الحكومة، التي هي في الواقع استثمارات عائلية.
بلغ حجم الأموال التي جنتها ليبيا من عائدات النفط، منذ العام 1969 قرابة الـ 3000 مليار دولار أميركي، واستناداً إلى المحامي الليبي الهادي شلوف، عضو محكمة الجنايات الدولية بلاهاي، فإن نصف هذه الأموال ذهب إلى خزينة القذافي وأبنائه، أي ما يتم تداوله من حجم الأموال المنهوبة، يصل إلى الثلث فقط، ماذا فعل مسيلمة أيضاً؟ أنشأ حساباً أطلق عليه اسم: "الحساب المجنب"، أي الحساب الذي توضع فيه عائدات النفط والغاز جانباً، وماذا أيضاً؟ لا يُنفَق دولار واحد، من دون موافقة خازن المال المنهوب..
في اليابان مَثَل يقول: "حتى السارق يحتاج إلى عشر سنوات، لكي يتعلم التجارة"، وللتذكير فقط، مسيلمة الثائرين "يملك" ليبيا منذ 42 عاماً.
محمد كركوتي
- التصنيف: