مأساة المثقف الفلسطيني بين مجتمعه
حينما يطْمَح المُثَقَّفُ أن ينفعَ مُجتَمَعه، ويبذلَ الكثيرَ مِنْ أجْلِ ذلك، ولا يجد مِنَ المجتَمَع إلاَّ الصَّدَّ والردَّ، والنَّقْضَ والنَّقْدَ، بِقَصْدٍ وبدون قصْدٍ، فإنَّه سيُصْدَمُ بصدمةٍ في ناصيته ...
حينما يطْمَح المُثَقَّفُ أن ينفعَ مُجتَمَعه، ويبذلَ الكثيرَ مِنْ أجْلِ ذلك، ولا يجد مِنَ المجتَمَع إلاَّ الصَّدَّ والردَّ، والنَّقْضَ والنَّقْدَ، بِقَصْدٍ وبدون قصْدٍ، فإنَّه سيُصْدَمُ بصدمةٍ في ناصيته قد تُؤثِّر في مستوى اندِماجِه النفسي والسلوكي مع هذا المجتمع!
ذلك هو المُثَقَّف الفِلَسْطيني المُلْتَزِم الذي يرنو إلى خدمةِ مُجْتَمَعِه، والدِّفاع عن هُويَّة أمَّته وحضارتها، ومُعارضة الباطل ومُراغَمَته، وتجديد معالِم الدين لدى أبناء شَعْبه، مِمَّن انطمست لديهم كثير من معالم الدين وارتباطها بحضارتهم وثقافتهم الإسلامية...
يعيش المثقَّفُ الفلسطيني هذه الأيام في حالة اغتراب شديد، تَصِل إلى حدِّ (التراجيديَّا) واجترار الأحزان؛ لأنَّه يرى أنَّ ما يغترفه مِن بَحْر العلم، وكُنوز المعرفة، وعالَم الثقافة، محاولاً أن ينفعَ به مُجتمَعَه ويبلغه رسالته، فلا يُقابَل إلا بحالةِ إِعْراضٍ كُبْرَى عن حضور مجالسه، واهتمام نادر من أبناء الشعب الفلسطيني للنهل من المصادر الثقافيَّة، ويتأسَّى حينما يرى أنَّ غالب اهتمامات كثير من الشعب الفلسطيني في المُتع الدنيوية واللذة وجني الأموال والاستهلاك والتفكير بالسياحة والسفر!!
ويستحثُّه الألم كذلك وهو يرى أنَّ كل ما يَبْذُلُه مِن جهدٍ لا يساوي عشر مِعْشار ما تبذله فتاة (مغنية وراقصة)، تأتي لبعض الأماكن الثقافيَّة؛ فتُغَنِّي وتطرب وترقص؛ مِنْ أجل عيون الآلاف المحتشدة أمامها؛ لأنَّها قد شاركتْ في برنامج (ستار أكاديمي)! فهي إذًا تستحِقُّ أنْ تفتحَ لها بوابات الجامعات، وتشارك مِنْ أَجْل ترفيه الشباب والفتيات، ولربما يوصد الباب أمام كثيرٍ مِن المثقَّفين الذين يرغبون في أن يقدِّموا لمجتمعهم الفلسطيني باقَةً من الأفكار الرائعة، وطاقة ثقافية تَهْديهم سواء السبيل!
وليس بِمُستغرب عندما يشاهد ذلك المُثَقَّف الفِلَسْطيني حالةَ الانحدار الأخلاقي، وانتشار الفساد والسوء والمجون في الشارع والمدرسة والجامعة، وليس بإمكانه أن يُقدِّم نفعًا لأمَّته إلا في جهد محدودٍ، فهو وإن شَعر بِوَخْزِ الضمير على ما يراه مِن معصية لله تعالى تَجْرِي فوق أرض الرباط دون نكير، فسيكون ذلك مَدْعاةً لبعض المُثَقَّفين لأن يلتحفوا بلحاف ثخين، ويبتعدوا عن مجتمع الناس وحركة حياتهم، قابعين في صومعتهم الفكريَّة وأحلامهم الورديَّة!
ولعلَّ بعضهم ينشد قائلاً:
ولَمَّا رأَيتُ الجهلَ في النَّاسِ فاشِيًا *** تَجَاهَلْتُ، حتى ظُنَّ أَنِّيَ جَاهِلُ
وهو ما يؤدي ببعضهم لأن يصل إلى درجة الإحباط، واليأس من حالة الإصلاح الثقافي للمجتمع، مع أنَّه حري بالمثقَّفِ ألاَّ تعتريه هذه الحالة؛ لأنَّه مُصلِحٌ ولابدَّ للمصلح من طريق المعاناة!
وإن كان المُثَقَّفُ الفلسطيني ملتزماً يُريدُ أن يقدمَ لأمته نفعًا، وكان شخصًا مُستقلاً في تفكيره، فإنَّه سيُبْتَلَى أول ما يُبْتَلَى بالكثير مِنْ ضيِّقِي الأُفق من المنْتَسِبين للأحزاب والجماعات الفلسطينيَّة كذلك!
لأنَّهم يَرَوْن في الشخص المثقَّف المُلْتَزِم المستقل حالةَ شُذُوذ عمَّا ألِفُوه في مُجْتَمَعِهم المحزَّب المُسيَّس، ولربما يختلف عن الطراز العام مِن عُمُوم الشعب الفِلَسْطيني المتحَزِّب لفئة، أو المؤيد المطلَق لِجِهَةٍ ما دونما تحزب، فهو متَحَيِّز لا مُتَحَزِّب!
وحين تتحدَّث للمثقَّف عن سبب فتوره في سبل الإصلاح الثقافي فإنَّه سيقول لك والحزن باد على وجهه: ها نحن نشعر أنَّ مُجتمَعُنا الفِلَسطيني قد قلَّتْ لديه الجوانب الإيمانيَّة، وضعف اهتمامُه الثقافي بتاريخ قضيّته وثقافتها، وتأصَّلتْ فيه النوازع الحزبيَّة، فكانتْ أحكامُ كثير منهم (سطحيَّة)، وفي الوقت نفسه (فوقيَّة)؛ بمعنى أنَّهم لا يمكنهم أن يُغَيِّروا مِنْ رأيِهم!
بل قد يُخبرك المثقَّفُ الفِلَسْطيني المستَقِل أنَّه قد عانى كذلك من بعض إخوانِه (الإسلاميين)، فهو عندما يريد أن يتقدَّم بأفكارٍ يطمح لتقديمها ونشرها، فسيرى التواءً عجيباً في التجاوب والتفاعل معه مِمَّن يكونون في سدَّة تلك المناصب، فتارة يعتذرون له، وأخرى يتهرَّبون من إجابته، أو يذكرون له أعذاراً أوهى من بيت العنكبوت؛ فيَحُولُون بينه وبين الجماهير؛ وذلك لأنَّ طريقتَه وتفكيرَه يختلف عنهم وعن مستوى تَفْكيرهم وطريقتهم وتصوراتهم!
وفي الوقت نفسِه، فهو يُعاني مِن بعض جهات السُّلطة، التي لا تُعطيه قَدْره، ولربما تَمْتَحِنُه بين فَيْنةٍ وأخرى، وتضْغَطُ عليه بأسلوبٍ أو بآخرَ؛ لكي يضعفَ أو ينثنيَ عن ممارسةِ نشاطه الثقافي في بلاده، أو تكسبه لصالحها، مع أنَّه ليس له في الأحداث السياسيَّة ناقَةٌ ولا جَمَلٌ، ولكن ما دام أنَّه مُثَقَّفٌ ومُتَدَيِّنٌ، فسيبقى تحت دائرة المجْهَر!
• المُثَقَّفُ وطُمُوحَاتِهِ: هل سَتَصطَدِمُ بِالوُاقِعِ؟
إِلامَ يهدفُ المثَقَّف الفِلَسْطيني إلاَّ أنْ يُشاركَ في بناء الأمَّة الفِلَسْطينيَّة، ويُقَدِّم أعلى ما لديه مِن إمكانات فكريَّة؛ لِخِدْمة المجتمع الفِلَسْطيني الذي لطالَما تحدَّت المثقَّفُ مع نفسه في بدء طلبه للمعرفة والثقافة، أنَّه سيكون من بناة النهضة والوعي في فكر الأمَّة الفلسطينيَّة بمنهجٍ ثقافي أصيلٍ مُعاصِرٍ، ويكون متَجَرِّدًا حقًّا مِنْ كُلِّ علائقَ دونيَّةٍ، إلاَّ بالارتباط بربِّه أولاً، وعلاقتِه الحسنةِ مع مجتَمَعِه الفِلَسْطيني ثانياً، وهدفُه أن يقدِّمَ لمجتمعه شيئًا مِمَّا علَّمه الله، ويبتعد عن النظام الرتيب، والتقليد البليد، في وسائل التعلُّم والتعليم، بل يُبدع ويُجَدِّد ويَجْتَهِد في كلِّ وسيلةٍ لإيصال رسالته وفكرته.
لو جلستَ مع أيِّ مُثقَّفٍ فِلَسْطيني ينْتَمي لدينه وأمته بحق، لَوَجَدْتَه حزينًا وهو حسير على ما آلتْ إليه الأحوالُ في بلاده، فهو يرى أنَّ اهتمامَ الشارع الفِلَسْطيني بمُشاهدة مُباريات الفريقَيْن الإسبانِيَّيْن (ريال مدريد) و(برشلونة) أكثر مما يهتم بِحُضُوره للصلاة، بل إنه سيَتْرُكها؛ لأنَّ الأولويات عندهم تؤكِّد ضرورة تقديم الأهم (مشاهدة كرة القدم) على المهم (صلاة الجماعة)، فإن كان هذا تعامُل جمهرة واسعة من الطيف الشبابي الفِلَسْطيني، فيَسْتَحِيلُ أن يثنوا ركبهم عند القراءة والمطالَعة ومُشاهدة البرامج الفكريَّة والعلميَّة، أو أن يحضروا دُروسًا علميَّة، ومحاضرات ثقافية في بعض الندوات والمؤتمرات - على قلتها كذلك!
نَتَحَسَّر معشَرَ المثقَّفينَ عندما نرى في شهر رمضان المبارك عددًا هائلاً من الأمسيات الرمضانية، والتي يُحْيِيها الفنانُ والمغني والموسيقار! أمَّا أن نجدَ أُمْسِيَةً رمضانية إيمانية يجتمع فيها عدَدٌ من مثقَّفِي الشعب الفِلَسْطيني الملتزم بدينه، غير المتَفَلِّتِ أخلاقيًّا - فلن يكون، وإن أردتَ إيجادَه فلن تستطيعَ أن يكونَ ذلك إلا بشقِّ الأنفس، بل قد يُظَنُّ بك ظَنُّ السوء، وتخرج بعد ذلك بخُفَّيْ حنَيْن!
كم يتألَّم المثقف الملتزم المُفكِّر بحال شعبه الفلسطيني عندما يرى أنَّ ثلَّة من شباب فلسطين يكون هدف الواحد منهم التسجيل في معاهد تعلم (الموسيقى)، وتراه يتخايل بمشيته الطاووسيَّة في السوق والشارع، وقد حمل القيثارة على كتفه أو بيده؛ لكي يتَّجه إلى تلك المعاهد فيخرج لنا بعد سنة أو أقل أو أكثر موسيقاراً كبيراً، وكأنَّ الشيء الذي ينقص من تقدمنا الفلسطيني هو تشجيع افتتاح هذه المعاهد الموسيقيَّة، مع أنَّ هنالك ما هو أولى منها من قبيل تشجيع فتح المؤسسات العلميَّة، والملتقيات الثقافيَّة، ومراكز الأبحاث والدراسات، وربط الشباب والفتيات أكثر فأكثر بمراكز تعليم وتدبر القرآن الكريم، فهي التي ستخرج لنا جيلاً واعياً حضارياً يعيش واقعه ولا يعزف على الألحان فيعيش الأوهام والأحلام!!
وأمَّا شأن النِّسْوة والفتيات: فقد بِتْنَ يَقُمْنَ الليل بِمُشاهدة المسلسلات التركية وغيرها، وتراهنَّ يرتبن لذلك موعداً، ويهيئن الجو المناسب، فَيُحضِرنَ (القهوة) و (الشيوكلاتة) وشيئًا من (الموالح)؛ لكي يستمتعْنَ بقضاء ليلٍ جميل مع ذلك المسلسل التركي أو الرومانسي اللطيف، ويكون التطبيق الفعلي بين بعض نسوة وفتيات فلسطين في الجامعات والأسواق، من خلال اللباس والموضة والأزياء، أو تعارف الجنس اللطيف (الفتيات) على الجنس الخشن (الشباب).
ولا غرو أن نجدَ المُحْتَلَّ الصِّهْيَوْنِيَّ يَتَنَدَّرُ بِمِثْل هذه التجمُّعات الشبابيَّة والنسويَّة في الجامعات، ويقولون - كما قال لي أحدُ المُحَقِّقينَ اليهود معي في سجن (الجلمة) -: إنَّ جامعاتكم انقلَبَتْ من أن تكونَ جامعات الفكر والمعرفة إلى أماكن للمُلتقيات والغَزَل بين الشباب والفتيات!
وصَدَق وهو كَذُوب!
ويَهُولُكَ ما تراه من تلك المؤسسات النسويَّة والمراكز الثقافيَّة المخصَّصة للمرأة، التي تستقي دعمها من جهات غربيَّة لا يمكن أن نظنَّ بها خيراً، فتزرع في عقول الفتيات مفاهيم خاطئة، مجانبة للحقيقة، مجافية للصواب والدين والتقاليد والأعراف الاجتماعية الصحيحة، وتخرج بعض الفتيات في بلادنا مفتونة بأولئك المتحررات، ويرددن ما ردده أسلافهنَّ من قبلهنَّ: بضرورة تحرير المرأة، ويسردن عدداً من البنود التي تحملها تلك المدارس النسويَّة التغريبيَّة، ويكون عندنا بصمات منهنَّ يَسِرنَ على طريقة (هدى شعراوي) و(نوال سعداوي) و(صفيَّة زغلول) وغيرهنَّ من دعاة التغريب في مصر!
وأغرب ما تُشاهده في بلادنا وخصوصاً لدى (عرب الداخل) : انتشار فكر التطبيع والتساوق الثقافي مع المحتل الصهيوني، وكأنَّ شيئاُ لم يكن! وكأنَّ المحتل ما دخل بلادنا واحتلَّها! لا بل هو مُرحَّب به لانخداع بعضهم بأساطير يهود وأنَّ لهم الحق في التعايش معنا! ولربما ترى مجموعة من الشبَّان والفتيات الفلسطينيات، والفتية والفتيات اليهوديات، في مطعم أو متنزَّه وهم في حالة مرح ومسامرة وضحك ومواكلة! وما الإشكال في ذلك في عرفهم ما دام أنَّ الفلسطيني جار لذلك اليهودي، وقد نسوا أنَّه محتل لبلادهم!
تلك هي حالة موجودة في شعبنا الفلسطيني، فلماذا نكذب أيها السادةُ ونُحاوِلُ أن نُمَنِّي أنفسنا بمجتمع مُختَلِفٍ عمَّا رسَمَتُهُ لكم، وقول الحق لا شكَّ أنَّه مُرّ، ووصف الداء من الطبيب للمريض شديدٌ عليه، ولكنَّ المشكلة لا بُدَّ أن تُذكَر لكي نعرف حقيقةَ حالِنا، وبَدْء العلاج يكونُ من ذِكْر الداء، وهذه هي الحقيقةُ!
إنَّني حينما أتحدَّث عن هذا الواقع المزري، أعلم أنَّ هنالك من يشاركني الهمَّ والحنو على مجتمعه، وأنَّ هنالك كثير من الشباب والفتيات مِمَّن ثبتوا على قيمهم ودينهم وثقافتهم الأصيلة، وابتعدوا عن أي مصدر ثقافي يضر بهم، وكان لهم قدم صدق في التعلم والمعرفة، وقصب سبق في العمل والعطاء، ولكن كم هم من بين سائر شعبنا الذي صار يغلب عليه الفتور والتراخي، والكمون والركون والسكون، والانشغال بالملهيات عن مصادر الثقافة، بل الترحيب بالنتوءات الفكريَّة، وتضييع الأوقات فيما لا فائدة فيه؟!!
• المثقف الفلسطيني: غربة في الواقع وألم في الداخل:
أحس أني بأرض ليس يسكنها *** غيري وأني سجين بين أسوار
من كان مثلي غريبا سوف يفهمني *** من يقبض الجمر يروي مثل أخباري!
إنَّ ملاحظة المُثقَّف الفلسطيني لمثل تلك المآسي الواقعيَّة في بلاده التي تتنكَّب طريق الثقافة، تجعله يشعر بأنَّه شخص غريب عن ذلك المجتمع، فتفكيره بعيد عن تفكيرهم، واهتماماته مختلفة عن اهتماماتهم.
إنَّه يجب علينا قبل الولوج للحديثِ عن سُبُلِ التصحيح الثقافي أن نُدرِكَ أنَّنا نعيش حالةً مُزريةً من التآكُل الثقافي، والضعف العلمي، والهشاشة الفكريَّة.
إنَّ مِما يُرثى له أن قضيَّةُ تعليم الناس وتحسين مستوى تفكيرهم ودَعْوتهم للمنتديات الثقافية قد باتت من الأمور الثانوية أو الهامشية لمجتمعنا، بل ليس لها مجالٌ ونصيبٌ للتفكير به حتَّى على مستوى الأكاديميين في الجامعات، يُقابِلُها كذلك تدنِّي اهتمامات الكثيرين من شباب وفتيات الأمَّة الفِلَسْطينية؛ حيث باتَتْ تَنْجَرِف وتنْحَدِر إلى متابعة الأفلام والمسلسلات والموضة والأزياء والمباريات.
قديماً قال المُفَكِّر الجزائري مالك بن نبي - رحمه الله -: "إنَّ الكُتُب والأفكار التي تؤثِّر في التاريخ؛ إنها العواصِفُ التي تُغَيِّر وجه العالم"، وإن أردت أن ترى مجتمع ( الرأي قبل شجاعة الشجعان) فما عليك إلاَّ أن تذهب للمكتبات ومعارض الكتاب وترى كم هي الفئة القليلة في بلادنا التي تهوى وتحب القراءة والمطالعة، وما عليك إلاَّ أن تدخل بعض مكتباتنا في مُجْتَمَعنا الفلسطيني وستُصْعَقُ حينما ترى أنَّها من أقل الأماكن التجارية مبيعًا واستهلاكًا لعموم المُشْتَرين – هم يقولون: بسبب الأوضاع الماديَّة!!-، بعكس الأماكن التي تبيع الأثاث والسيارات ولو بالتقسيط المريح، ولو كان على مدى خمس سنوات، أمَّا أن يشتريَ الشابُّ أو الفتاةُ كتابًا أو ينتفع بمجلة، أو يغدو ويروح لحضور درس علم أو مجالسة عالم أو مفكر، فهذا أمرٌ دونه خَرْطُ القَتَاد!
لئن كان المُثَقَّف يعيش حالة اغتراب في بعض دول الإسلام، فإنَّه يعيش في حالة اغتراب قصوى في فِلَسْطين، فقلَّةٌ قليلة من أهل هذه البلاد يهتمون بالشؤون الثقافية والعلميَّة والمعرفية، ولربما إن تحدَّثَ بَعْضُ المثَقَّفِين أو المتخَصِّصينَ مِنْ طلَبَةِ العلم في بعض الجوانب المُهمَّة علميًّا ومعرفيًّا، لَقَالَ بعضُ الناس - وقد يكونون مِن قِياداتٍ وطنيةٍ أو إسلامية - (لا تَتَفَلْسَف)؛ (هنالك ما هو أَوْلَى)؛ (لا تخدروا الأمة بأَوْهامِكم)، (لا تغرقونا بالجزئيات)؛ (البلاد مُتَدَهْوِرة، وأنتم تتحدثون في مسائل لا تهمُّ)، طبعاً - لا تهم بحسب رأيهم!
وكأنَّ أولئك القومَ حينما يتحدثون ذلك الحديث، حَرَّرُوا بلادَنا مِن جرائم المحتلِّ، أو صَنَعُوا لنا دولةً تخافُها أُمَمُ الشَّرق والغرب، ولربما أسْقَطُوا خلافاتهم وأخطاءَهم على الآخرين مِن أبناء شَعْبِهم!
وبعيداً عن حسناتها فإنَّ مِن أكبر مشكلات تنظيماتنا الفِلَسْطينيَّة: أنَّ هذه الأحزابُ السياسية قد انشغلَ بعضُها ببعض بكلام سياسي تافه؛ لا يرجع لأمَّتنا الفلسطينية مجدها وعزها تجاه عدوها الذي يتربص بها بين فينة وأخرى! وأنَّها أُغْرِقَتْ بشكلٍ كبير في العمل السياسيِّ والنِّضالي، كما أنَّها ركَّزتْ في طريقَتِها الحركية على التَّلْقِين الحزبي لأتباعها، وبناء هياكلها التنظيميَّة والإدارية، دون أن يصنعوا جيلاً وكوادِرَ قادرةً على أن تنفع مجتمعها، ويكون لها دور فريد في إنقاذ الشعب من مصائب تلمُّ بهم، وأزمات تحيط بهم، وأن تجتمعَ تلك القيادات المُثقَّفة بمُثَقَّفِي الشرق والغرب، ويكونَ لها اسمُها وثِقَلُها في المحافل الدوليَّة وفي المؤتمرات العالمية كشخصيات علميَّة وثقافية ناضِجة في حالتها المفاهيميَّة المفيدة لِشَعْبِها ووطنها وأمتها الإسلامية كذلك.
• خطوات على طريق النجاح الثقافي:
إنْ كُنَّا قد تحدثنا عن وصْفِ حالتنا الفِلَسْطينيَّة البائسة في التردِّي الثقافي، والهزل العلمي، فلابدَّ من طليعة ثقافيَّة تضع نصب أعينها عدَّة جوانب؛ لكي نستعيدَ البناء الثقافي لأمتنا الفِلَسْطينية المؤمنة من جديد بشكل رائد ومتَقَدِّم، وهذا دور المثقف حيث ينتهز الفرصة في وقت الأزمة ويكون كما قال طرفة بن العبد:
فإن قِيل مَن فتى خِلتُ أنني *** عُنيتُ فلم أكسل ولم أتبلدِ
وليس هنالك مِن حلٍّ تجاه تلك الأورام والأمراض المتداخلة مع شعبنا الفلسطيني إلاَّ ببناء مجتمع متماسِكٍ مِنْ قِبَلِ المُثَقَّفِ الفِلَسْطيني المؤمن بربه، والمنسجم مَع واقِعِه، وتحمل الأذى والاضطهاد والصبر على أذى الناس لقاء ما يريد بذله مِن مفاهيم وأدوات؛ لِزَرْع حقول معرفيَّة في مجتمعه، ونشر ثقافة المحبة والتواصل بين المجتمع، ومُحاولة الضغط على مؤسسات السُّلْطة لإتاحة مساحة مِن الحرية، تَقْضِي بالإذن بفَتْحِ نوادٍ ثقافيةٍ ومراكز علميَّة؛ لكي يكون هنالك مجالٌ للتدارس والتلاقح الثقافي والمعرفي، فكما هو معروف: العقولُ ينقح بعضها بعضًا، وعلى المثقف الفِلَسْطيني أن يحاولَ التفكير الجاد في سبُل تذليل الصعوبات التي تُواجِه أمَّته.
وعليه أن يحاولَ طَرْقَ مِثْل هذه الموضوعات في عدَدٍ مِنَ المدارس والجامعات، وشجع على الازدياد من المطالعة، وحث المجتمع على القراءة، وأن يوجد بين كافة أطياف المجتَمَع الفِلَسْطيني وعيٌ تامٌّ يقضي بأن خنق الإبداع الثقافي الملتزم سيخلق لدينا جيلاً هزيلاً هشًّا في المجتمع بدون مروءة ولا كرامة ولا عزة، ولربما خَلَقَ لدَيْنَا تجمُّعات تمارس العُنف؛ لأنَّها لم يؤذن لها أن تمارسَ النشاط الملحوظ أمام أعين الناس وعلى الملأ وتحت ظل الشمس وفوق الطاولة، فيتكون عندنا أناسٌ كارهون لمن يحول بينهم وبين ممارسة حقِّهم الفكري والثقافي، ويتحول إلى شخصٍ مُنْدَفَع تقودُه العاطفة لا المعرفة، والاندفاع لا الدراسة، والتطرُّف لا الاعتدال، وحينها لن نجني من الشوك العنب!
• إلى المثقف الفلسطيني: دعوة للعمل وحذار من الكسل:
إنَّ المثقف هو قلب الأمَّة النابض الذي يشعر بهموم الأمة، ولا بدَّ أن يكون له موقف ديني وأخلاقي تجاه ما يحدث من أزمات؛ لكي يكسب رضا الله فيرضى عنه الناس ويمنح التخليد في التاريخ.
إنَّ على المثقف الفلسطيني دور كبير بتبصير شعبه بالحقوق والواجبات، وتسليحهم بالعلم والمعرفة؛ فإنَّ أمَّة تعيش على الاهتراء الثقافي، والنسيان أو التناسي لقيمها وهويتها فضلاً عن التنكر لذلك، مصيرها محتوم بالفشل وتكون بذلك قد حجزت لنفسها مقعداً بين الأمم المتخلفة وابتعدت عمّا من شأنه أن يرقى بفكرها وثقافتها.
إنَّ على المثقف مواجهة عواطف الجماهير بروح تجمع بين المعرفة والحكمة والموقف، خصوصاً أنَّ العاطفة تكون سيدة الموقف في كثير من القضايا، فهو في خطاباته لا يشحن العواطف ويحركها فحسب ، بل إنَّه يواجهها بعقلانيَّة وعمل مثمر بنَّاء ، وتسخير للطاقات في خدمة دينها وأمَّتها.
المثقف صاحب فكر وهدف ، باحث عن الحقيقة، شجاع في اكتشاف المجهول، لا يرديه قول قائل، ولا تخذيل مخذل، بل يجهد نفسه للوصول إلى المطلوب، ليحقق طموحاته وأهدافه، ومع ذلك فإنَّه يحذر وينتبه إن أراد رضا الله عنه وعزَّته أمام الخلق أن ينجرف فيكون بوقاً لأحد سواء أكان بوقاً لسلطة أو حزب أو مناطقيَّة، فيكون كما كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله في يومياته ، بتاريخ 18 ديسمبر 1962، ما نصه: ( هناك مجتمعات يعتبر الوعي فيها أرخص من الخبز، والمجتمع المسلم واحد من هذا المجتمعات، والسبب في هذه الوضعية بسيط، خيانة النخبة المثقفة والسياسية، فالخيانة تسكن وعي الزعيم والشيخ والمثقف)....
اللهم لا تجعلنا منهم !!!
- التصنيف: