الترابط الأسري في العيد
العيد فرصة لوصل كل ما هو مقطوع من الأرحام
رمضان والعيد فرصة لوصل كل ما هو مقطوع من الأرحام:
عادات رائعة انفرَد بها العالم العربي والإسلامي في مختلف بقاع العالم، رُسِمت منها لوحة خلاَّبة لهذا الأب الذي يعود من صلاة العيد ليجد الأبناء يُهلِّلون طربًا لعودته، ويُباركون له قدومَ العيد، ويَحتضنه هذا الصغير الذي تتلعْثَم الحروف بين شَفتيه؛ ليسأله خُفية في أُذنيه عن "عِيديَّته"، فيضحكُ الأبُ في بَهجة، ويقبِّل رأْسه في حنان، فيَنطلق الصغار نحو المطبخ، والذي تَنبعث منه روائحُ شهيَّة؛ حيث صَنَعت الأم كلَّ أنواع الحلوى التي باتوا في انتظارها، وقد تزيَّنَت بكل أنواع الفرحة والسرور؛ ليتسابق الجميع لطلب نَصيبه من تلك الحلوى، ولتتطوَّع الابنة الكبرى في توزيعها، لكن تنطلق نحو جَدَّيْها أوَّلاً، واللذان تَصَدَّرا مجلس العائلة؛ ليلتفَّ حولهما الأبناء والأحفاد في تجمُّع مُبهج، ينشر معاني التآلف والمحبَّة والوئام، لتختتم هذه اللوحة بما تُضفيه على القلوب من قِيَم صِلة الرَّحم العظيمة، ومعاني الترابط الأُسري في العيد.
الاجتماع في بيت العائلة:
يتسابَق الجميع في العيد على صِلة الرَّحم، وتحقيق معاني الترابط الأُسري؛ حيث تبدأ ابتسام - الأردن - حديثَها قائلة: "في العيد أشعر بسعادة بالغة؛ حيث نجتمع جميعًا في بيت أبي وأمي، ويوجد جميع إخوتي وأخواتي، وأزواجنا وزوجات إخوتي، وذلك في اليوم الثاني من العيد، ويكون اجتماعًا رائعًا بين الإخوة والأصهار، وتتكاتف الأخوات وزوجات الإخوة؛ لتحضير مائدة الغداء، وما يَتبعها من حلوى شهيَّة، ونَسعد جميعًا بوجود كلِّ الأطفال من الأحفاد بين أحضان أبي وأمي وهم يلعبون سويًّا".
توحيد ملابس العيد:
وتتَّفق معها أناهيد - سورية مُقيمة في الولايات المتحدة -: "في العيد لا نستطيع السفر إلى سوريا لزيارة كلِّ الأقارب والأصدقاء؛ لذلك نجتمع أنا وأختي وأخي خلال أيام العيد الثلاثة، نخرج خلالها للمُتَنَزهات مع أطفالنا وأزواجنا وزوجة أخي، بل وكان من الطريف اقتراحُ زوجة أخي في العيد أن يشتري زوجي وأخي وزوج أختي ملابس موحَّدة، وكذلك نوحِّد ملابس الأطفال من الصِّبيان، وفساتين البنات، وبهذا الاقتراح صار لنا ترابُط أُسَري متميز في بلاد الغُربة، حتى إنَّ الفكرة أعْجَبت البعض في الجاليات الأخرى، وقاموا بتنفيذها".
لقاء عائلي بالفيديو كونفرنس:
أما ماجد - البحرين، فيعترض على فكرة المعايدة عبر الهاتف قائلاً: " تزوَّج أخي الأكبر وسافر لإحدى الدول الأوروبيَّة، وصارت مُعايدته لنا في العيد عبْر الهاتف؛ مما سبَّب لي ضيقًا شديدًا، خاصة وأننا تعوَّدنا على وجوده معنا؛ لذلك كانتْ فكرتي أنا وأختي الصُّغرى - عندما تجتمع الأسرة، وتأتي أخواتي المتزوِّجات - أن ينضمَّ أخونا معنا عبْر ما يُشبه الفيديو كونفرنس؛ مما جعَلنا نشعر كأنه معنا تمامًا، وسَعِد أبي وأمي بالفكرة كثيرًا، لكن للأسف هناك بعض الأبناء والأقارب ممن هم في نفس البلد، لكنهم اعتادوا على فكرة المعايدة عبر الهاتف، بل والأسوأ عبْر رسائل الجوَّال؛ مما تسبَّب في مقتل رُوح الترابط الأُسري وصِلة الرَّحم، كما عهدناها قديمًا".
أما الشيماء - اليمن، فلها فكرة أخرى؛ حيث تقول: "خلال أيام العيد يعتاد الجميع على الزيارات العائلية والودِّ والمحبَّة، لكنني في الحقيقة أتعمَّد غير ذلك؛ حيث أتوجَّه إلى الأقارب اللذين باتَت هناك مشاكل بينهم وبين أبي أو أمي، وأتواصَل معهم، بل وأزورهم، وخلال زياراتي لا أقترب من الحديث في مواطن المشكلات بينهم، بل وأوضِّح لهم أننا في العيد، وأُريد أن أُدخِلَ عليهم وعلى نفسي السرور والبَهجة بالابتعاد عن الحديث في المشكلات، وفي البداية أثارَ هذا حفيظة أبي وأمي ونَهَراني بشدَّة، لكنهم الآن يشجِّعونني على ذلك، فحَرِيٌّ بالمسلم أن يكون قلبُه سليمًا، وكذلك ظنُّه بمن حوله من أهله وأصحابه وأرحامه، والغالب أنَّ انشغال الناس عن بعضها قد أبعَدَ الودَّ وقلَّل التواصُل والشعور بالتآلف، ولو وضع كلُّ واحدٍ منَّا في اعتباره أن يَسبق هو بالوصْل والبَشاشة لأهله، ومَن حوْله من قرابته، لعَمَّ الجميعَ الشعورُ بالفرحة".
للوالدين احتفال خاص:
وتتَّفق معها منيرة - السعودية قائلة: "أحرِص في العيد على الخروج مع أطفالي للسوق؛ لينتقي كلٌّ منهم أربع هدايا لأجْدَادهم من أبيهم وأمِّهم، وهذا يُسعدهم ويُسعد والدينا أنا وزوجي كثيرًا، فالوالدان هما زِينة الدنيا وبَهجتها لِمَن رُزِق حُسْن صحبتهما، ووُفِّق لخدمتهما بالحبِّ والرعاية، والقُرب منهما والأُنس بدعائهما، كما أزرع في أطفالي ليلة العيد - وقبل الذهاب للأجداد - لَمَسات الحنان التي يجب أن تَظهر على هدايانا، خاصة لوالدينا؛ لأنني أعلم أننا نعتدُّ كثيرًا بهدايانا لأصحابنا، ونُكثر من تزيينها وتعديلها، ثم لا أحلى ولا أغلى من قُبلة حنان تُطْبع على جَبينهما؛ تقديرًا وامتنانًا واعترافًا بالفضل، وتزيد غَبطة الوالدين بكلمات رقيقة تَنطق بالحبِّ والدعاء لهما بطول العُمر وحُسن العمل".
ترابط الأطفال في تزيين البيت:
وكان للأطفال رأْيهم الخاص؛ حيث تقول بسمة - مصر: "أنتظر قدومَ العيد كلَّ عام؛ لأن عائلتنا الجميلة تجتمع قُبيل العيد بعدة أيام، وننزل جميعًا - نحن وأبناء خالاتنا وأخوالنا، وبعض من أبناء أعمامنا الموجودين في القاهرة - لشراء زينة العيد، وتتولَّى خالتي الصغرى غير المتزوِّجة اصطحابنا للسوق؛ لاختيار ما يعجبنا من الزينة، ثم نعود للمنزل لتزيينه؛ حتى يُصبح رائعًا، حيث يتولَّى البعض نفْخَ البالونات، والبعض الآخر تعليق الأنوار الملوَّنة، والآخرون عليهم لصقُ أوراق زينة الحائط.
وخلال الأيام السابقة للعيد نُساعد أمي وخالاتي في إعداد كعْك العيد، والذي لا يحلو أكله إلا بلَمِّ شمْل العائلة في صُنعه، بل يكون من الأرْوع غضب جَدَّتي الحنونة عندما نصمِّم - نحن الأطفال - على المشاركة في صُنعه، ونتسبَّب في إفساد بعض الكعك كضريبة منَّا؛ لكي نتعلَّم.
وفي أوَّل أيام العيد أسعد كثيرًا عندما نَعُدُّ بعض أطباق الحلوى، ونُغلِّفها ونكتب عليها اسم عائلتنا الكبيرة، ثم نوزِّعها على بعض الجيران".
وتتَّفق معها أزهار- سوريا: "أحبُّ مشاركة أمي في صُنع كعك العيد، خاصة وأنها تقوم بعمل بعض أنواع البسكويت اللذيذة، وتقوم بتشكيله على حروف أسمائنا أنا وبنات عماتي وأعمامي".
العيد فرصة لصلة الرحم:
توجَّهنا إلى الأستاذ الدكتور عصام عطية أستاذ التطوير التربوي المساعد بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والذي يتحدَّث عن صِلة الرحم قائلاً: "صلة الرحم من الأمور التي حثَّ عليها الإسلام؛ فالوصيَّة بذَوِي القُربى ورَدَت مقرونة بالأمر بعبادة الله وبالإحسان إلى الوالدين، ومنها قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36].
وقد جعَلها الرسول الكريم من أسباب سَعة الرِّزق وطول العُمر في قوله - عليه الصلاة والسلام -: «مَن سرَّه أن يُبسط له في رِزقه، أو يُنسأ له في أثَره، فليَصِلْ رَحِمَه».
وجعَل الإسلام الصدقة على الفقير البعيد صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتين: صدقة وصِلة، وورَد في الحديث القدسي عن ربِّ العزة - جل وعلا -: «أنا الرحمن، خَلَقت الرحم، وشَقَقت لها اسمًا من اسمي، فمَن وصَلها وصلْتُه، ومَن قطَعها قطَعته»، أو كما قال.
وورَد التحذير من قطيعة الرحم في قوله تعالى في سورة محمد: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].
وكثيرة هي الآيات والأحاديث التي تتناول هذه المسألة، وكيفيَّة الصِّلة، وهل الصِّلة بالمكافأة، أو بصِلة الرحم التي انقطَعت، وهكذا مما لا يتَّسع المجال لتفصيله.
التغيُّرات الأُسرية وقلة الترابُط:
ومفهوم الأسرة قد ورَد عليه تطوُّر كبير في العصر الحديث عمَّا كان عليه في السابق، فقد كانت الأسرة في السابق من النوع الذي يطلق عليه: "الأسرة الممتدة"؛ حيث يوجد أكثر من جيل في مكان واحدٍ، ونتيجة للظروف المجتمعيَّة الحديثة، ظهَرت "الأسرة النووية" التي يكتفي فيها فرع من الأسرة بالإقامة بعيدًا عن باقي الأسرة، وقلَّت المناسبات التي تَجْمَع أفراد الأسرة كلها في مكان واحدٍ كالأفراح وغيرها، ولعلَّ العيد السعيد من هذه المناسبات التي يحرص فيها كثيرٌ من الناس على الالتقاء بأُسَرهم والالتفاف حول مائدة واحدةٍ تُمثِّل التلاقي والحب، والتآلف والترابُط بين أفراد الأسرة الواحدة، يجتمع الجميع في مكانٍ واحد، بعد أن كانتْ تَجمعهم الاتصالات الهاتفيَّة واللقاءات عبر الشبكة العنكبوتيَّة، ورغم ما تُؤدِّيه هذه الوسائل في التلاقي والتقارب، ورغم أنها رُبَّما تكون وسيلة مفيدة للأُسَر التي يَصعُب تجمُّع أفرادها لظروف السفر وغيرها، لكنها لا تؤدي ما يؤدِّيه ما يكون في العيد من حِرْصٍ على التلاقي والتجمُّع.
ومن هنا، فليَحْرِص كلُّ فرد في الأسرة على تحقيق هذا التجمُّع والالتقاء، والحرص على زيارة الأقارب وصِلة الأرحام، فإن تعذَّر عليه ذلك بشخصه، فليَكُن باستخدام وسائل الاتصال الحديثة التي تُقرِّب المسافات بين الأفراد والدول على حدٍّ سواء.
وعلى الآباء في العيد التأكيد على المعاني النبيلة للأسرة المسلمة كما أرادها الإسلام، بالحرص على توثيق عُرى المحبَّة بين الزوجين، ونَبْذ كلِّ الخلافات الموجودة، وكذلك بالإحسان إلى الأبناء وبَثِّ رُوح المودَّة والمحبَّة، والعطف والشفقة والرحمة في العلاقة معهم، وانتهاز فرصة العيد في الاقتراب من أولادهم، والاستماع إليهم، والفرح بفضْل الله على العباد؛ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].
ويتَّفق معه د. ماهر الحولي أستاذ الشريعة بالجامعة الإسلامية، والذي يتحدَّث عن صلة الرحم في أيام العيد قائلاً: "صلة الرحم من الواجبات التي حثَّ عليها الشرع الحنيف؛ حيث قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «ومَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليَصِل رحمه»، فصلة الرحم من أسباب رضا الله تعالى، وتجلِب البركة وسَعة الرزق؛ حيث قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: «مَن سرَّه أن يُبسط له في رِزقه، أو يُنسأ له في أثَره، فليَصِلْ رَحِمَه»، وعلى العكس، فمَن سعى في قطيعة الرحم، قطَعه الله وتوعَّده بالعذاب؛ حيث قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 - 23]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «الرحم متعلقة بالعرش، تقول: مَن وصَلني وصَله الله، ومَن قطَعني قطَعه الله».
وهنا تأتي الأعياد والمناسبات الإسلامية؛ لتُحيي هذه السُّنة التي هجَرها أغلب الناس طوال العام، تَشغلهم الدنيا فلا يفيقون إلاَّ وقد فاتَهم التواصُل مع أرحامهم، ونسوا بِرَّهم في زحمة الحياة، فالواجب على المسلم أن يتحرَّى هذه السُّنة، خاصة في هذه الأوقات في رمضان والأعياد وغيرها من المناسبات الإسلاميَّة.
______________________________________________________
الكاتب: تسنيم الريدي
- التصنيف: