شفاعة المؤمنين يوم القيامة
الْحَمْدُ لِلَّهِ، مَالِكِ الْمُلْكِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَينْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، والصلاةُ والسلامُ على نَبِيِّنَا محمدٍ، الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّهُ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا.
روى الشيخانِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -وذلك في حديث الشفاعة- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وهو يتحدَّث عن المؤمنين الذين نجَّاهم الله من النار-: «وَإِذَا رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ نَجَوْا فِي إِخْوَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا، إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا، وَيَصُومُونَ مَعَنَا، وَيَعْمَلُونَ مَعَنَا، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: اذْهَبُوا، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا، ثُمَّ يَعُودُونَ، فَيَقُولُ: اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ، فَيُخْرِجُونَ مَنْ عَرَفُوا»؛ (البخاري حديث: 7439/ مسلم حديث:183).
معاني الكلمات:
(مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)؛ أيْ: وَزْنُ نَمْلةٍ صغيرةٍ.
الشرح:
قَوْلُهُ: «رَبَّنَا إِخْوَانُنَا، كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا» يدلُ على أن هؤلاء الذين وقعت مناشدة المؤمنين لربهم فيهم كانوا مؤمنين، موحِّدين؛ ولكن ارتكبوا بعض المآثم، التي أوجبت لهم دخول النار. وفي هذا رَدٌّ على طائفتين ضالتين: الخوارج، والمعتزلة، في قولهم: إن مَن دخل النار لا يخرج منها، وإن صاحب الكبيرة في النار؛ (شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، عبدالله الغنيمان، جـ2، صـ127).
قَوْلُهُ: «فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ»، قَالَ الإمامُ ابنُ بَطَّال -رحمه الله-: في هذا إثباتُ شفاعةِ المؤمنين بعضهم لبعض؛ (شرح صحيح البخاري لابن بطال، جـ 10، صـ 468).
قَوْلُهُ: «وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» دَليلٌ عَلى أنَّ الْوَجْهَ لَا يَتَغَيَّرُ بِالنَّارِ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا تَأْكُلُ أَعْضَاءَ السُّجُودِ؛ (حاشية السندي على سنن ابن ماجه، جـ 30، صـ 60).
قَوْلُهُ: «فَيَأْتُونَهُمْ وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ، وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ»: قَالَ عبدالله الغنيمان: أمَّا كون المؤمنين يذهبون ِإلى النار، وكيف يستطيعون الوصول إليها؟ وكيف يعرفون من في قلبه مثقال دينار، أو نصف دينار، أو مثقال ذرة من إيمان؟ هذه كلها من أمور الآخرة التي لا تُقاس بما تعارَفَ عليه الناسُ في الدنيا، ولا يستطيع عقل البشر الحكم عليها، وإنما تُعرَف حقائقها يوم القيامة، فهناك يأتي تأويلها، وإنما يجبُ علينا تصديقها، والتيقُّن منها.
وليس بمستغرب في قدرة الله تعالى أن يجعل النار غير مؤذية لهؤلاء المؤمنين الذاهبين إلى إخوانهم في النار؛ كالملائكة الذين فيها؛ (شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، عبدالله الغنيمان، جـ2، صـ128).
القصاص يوم القيامة:
روى أحمد عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِاللَّهِ، يَقُولُ: بَلَغَنِي حَدِيثٌ عَنْ رَجُلٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَيْتُ بَعِيرًا، ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَيْهِ رَحْلِي، فَسِرْتُ إِلَيْهِ شَهْرًا، حَتَّى قَدِمْتُ عَلَيْهِ الشَّامَ، فَإِذَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ، فَقُلْتُ لِلْبَوَّابِ: قُلْ لَهُ: جَابِرٌ عَلَى الْبَابِ، فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَخَرَجَ يَطَأُ ثَوْبَهُ فَاعْتَنَقَنِي، وَاعْتَنَقْتُهُ، فَقُلْتُ: حَدِيثًا بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِصَاصِ، فَخَشِيتُ أَنْ تَمُوتَ، أَوْ أَمُوتَ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا»، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا بُهْمًا؟ قَالَ: «لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ، وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ، حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةُ» قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: «بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ»؛ (حديث حسن) (مسند أحمد، جـ425، صـ:431، حديث: 16042).
الشرح:
قَوْلُهُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ أيْ: يَجْمَعُ اللهُ تعالى النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ: «عُرَاةً»؛ أيْ: بلا ثيابٍ.
قَوْلُهُ: «غُرْلًا»؛ أيْ: غير مختونين.
قَوْلُهُ: «بُهْمًا» البُهْمُ فِي الأَصْل الَّذِي يخالط لَونه لون سَواد؛ (عمدة القاري للعيني، جـ 2، صـ 74).
قَوْلُهُ: «أَنَا الدَّيَّانُ»؛ أيْ: لا مَالِك إلا أنا، ولا مُجازي إلا أنا؛ (إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري للقسطلاني، جـ 10، صـ429).
قَوْلُهُ: «حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ» يُفعلُ به مِثَل ما فَعَلَه.
ميزان أعمال العباد يوم القيامة:
قال سُبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
روى الحاكمُ عَنْ سَلْمَانَ الفَارِسِي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُوضَعُ الْمِيزَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَوْ وُزِنَ فِيهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لَوَسِعَتْ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبِّ، لِمَنْ يَزِنُ هَذَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لِمَنْ شِئْتُ مِنْ خَلْقِي، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ، وَيُوضَعُ الصِّرَاطُ مِثْلَ حَدِّ الْمُوسَى فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ: مَنْ تُجِيزُ عَلَى هَذَا؟ فَيَقُولُ: مَنْ شِئْتَ مِنْ خَلْقِي، فَيَقُولُ: سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ»؛ (حديث صحيح) (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني، جـ2، صـ619 حديث:941).
الشرح:
الحكمة في وزن الأعمال:
سؤال مُهِمٌّ: أليس الله تعالى يعلمُ مقاديرَ أعمال العباد، فما الحكمة في وزنها؟
الجواب: وَزْنُ أعمال العباد فيه حِكَمٌ كثيرةٌ، منها:
(1) إظهار العدل، وأن الله عز وجل لا يظلم عباده.
(2) امتحان العباد بالإيمان بذلك في الدنيا، وإقامة الحُجَّة عليهم يوم القيامة.
(3) تعريف العباد ما لهم من خير وشر، وحسنة وسيئة.
وفائدة تعريف العباد بمقادير أعمالهم أن العباد لو دخلوا الجنة قبل وزن أعمالهم ربما ظن المطيع أنه نال الدرجات في الجنة عن استحقاق، وظنَّ العاصي أن عذابه أكبر من ذنوبه، فتُوزَن أعمالُهم ليقفوا على مقادير أجْرِها، فيعلم الصالح أن ما ناله من الدرجات بفضل الله، لا بمجرَّد عمله، ويتيقَّن العاصي أن ما ناله مِن العذاب هو نتيجة المعاصي التي ارتكبها.
(4) إظهار علامة السعادة والشقاوة، ونظيره أنه تعالى أثبت أعمال العباد في اللوح المحفوظ، ثم في صحائف الحفظة الموكَّلين ببني آدم من غير جواز النسيان عليه سبحانه وتعالى؛ (تفسير الخازن، جـ 2، صـ 182).
وقت وزن الأعمال: وزنُ أعمال العباد يكون بعد الانتهاء مِن محاسبتهم، وهو تكملة له.
قَالَ الإمامُ الْقُرْطُبِيُّ (رحمه الله): قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِذَا انْقَضَى الْحِسَابُ كَانَ بَعْدَهُ وَزْنُ الْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ لِلْجَزَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُحَاسَبَةِ، فَإِنَّ الْمُحَاسَبَةَ لِتَقْرِيرِ الْأَعْمَالِ، وَالْوَزْنَ لِإِظْهَارِ مَقَادِيرِهَا لِيَكُونَ الْجَزَاءُ بحسبها؛ شرح العقيدة الطحاوية، لابن أبي العِزِّ الحنفي، جـ 1، صـ 417).
صفة ميزان الأعمال: دَلَّتِ السُّنَّةُ عَلى أَنَّ مِيزَانَ الْأَعْمَالِ لَهُ كِفَّتَانِ حِسِّيَّتَانِ مُشَاهَدَتَانِ؛ (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العزِّ الحنفي، جـ 1، صـ 417).
أسألُ اللهَ تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يجعلَ هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعَ بهذا العمل طلابَ العِلْمِ الكِرام، وأرجو كُل قارئ كريم أن يدعوَ اللهَ سُبحانه لي بالإخلاصِ والتوفيقِ، والثباتِ على الحقِّ، وحُسْنِ الخاتمة، فإن دعوةَ المسلمِ لأخيه المسلمِ بظَهْرِ الغَيْبِ مُسْتجَابةٌ، وأختِمُ بقولِ الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نبيِّنا مُحَمَّدٍ، وَآلهِ، وَأَصْحَابِهِ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
- التصنيف: