من حقوق المسلمين: الدعاء بظهر الغيب
من محاسن هذا الدين العظيم- دين الإسلام- أن رابطة الإيمان بين أتباعه لا تتأثر بتطاول الزمان وتغير المكان ، فأتباعه ينتفع بعضهم ببعض
من محاسن هذا الدين العظيم- دين الإسلام- أن رابطة الإيمان بين أتباعه لا تتأثر بتطاول الزمان وتغير المكان ، فأتباعه ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض بِظَهْر الغَيب، أي في غيبة المدعو له أو دون علمه، وقد دلت نصوص القران والسنة على أن الدعاء بِظَهْر الغَيب من هدي الأنبياء والمرسلين ومن جملة حق المسلم على أخيه، وينتفع به الداعى والمدعو له على السواء.
وفي السطور التالية تذكير لنفسي وإخواني ببعض هذه النصوص.
- لما ذكر الله تعالى السابقين من المهاجرين والأنصار، أثنى على من جاء بعدهم من التابعين- ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة- بدعائهم للمؤمنين الغائبين عنهم حال الدعاء، قال سبحانه: ( {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان} ) [الحشر: 10].
قال ابن أبي ليلى: الناس ثلاثة منازل: المهاجرون، والذين تبوءوا الدار والإيمان ( أي الأنصار)، والذين جاءوا من بعدهم. فاجتهد ألا تَخْرُجَ من هذه المنازل.
وقال بعضهم: كُنْ شَمْسًا ، فإن لم تستطع فكن قمرا، فإن لم تستطع فَكُنْ كوكبا مضيئا، فإن لم تستطع فَكُنْ كوكبا صغيرا، ومن جهة النور لا تنقطع.
ومعنى هذا: كن مهاجريا. فإن قلت: لا أجد، فكن أنصاريا. فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم، فإن لم تستطع فأحبهم واستغفر لهم كما أمرك الله ([1]).
- أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنبه وأن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، ومن المعلوم أنهم حينئذ غير حاضرين لأنهم يظهرون جيلاً فجيلاً، قال تعالى: { {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} } [محمد: 19]
قال الإمام القرطبي (ت: 671هـ):
قوله تعالى:" واستغفر لذنبك" يعني استغفر الله أن يقع منك ذنب. أو استغفر الله ليعصمك من الذنوب. وقيل: لما ذكر له حال الكافرين والمؤمنين أمره بالثبات على الإيمان، أي اثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص والحذر عما تحتاج معه إلى استغفار.
وقيل: الخطاب له والمراد به الأمة، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين([2]).
- قوله تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه السلام : ( {ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب} ) [إبراهيم: 41].
وقوله تعالى: إخبارا عن نوح عليه السلام : ( {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} ) [نوح: 28] .
قال الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ) : دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات، وذلك يعم الأحياء منهم والأموات؛ ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء، اقتداء بنوح، عليه السلام، وبما جاء في الآثار، والأدعية المشهورة المشروعة([3]).
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه مَلَكٌ مُوكَّلٌ، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل» .
قال النووي تعليقا على هذا الحديث: (بظهر الغيب): أي في غيبة المدعو له وفي سره، لأنه أبلغ في الإخلاص، ولو دعا لجماعة من المسلمين حصلت هذه الفضيلة ولو دعا لجملة المسلمين، فالظاهر حصولها أيضاً، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة، لأنها تُستجاب ويحصل له مثلها([4]).
- قوله صلى الله عليه وسلم: ««ما من دعوة أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب»» . [أخرجه الترمذي] . وفي رواية أبي داود: «إن أسرع الدعاء إجابة: دعوة غائب لغائب»
ويعلل أبو العباس القرطبي (ت 656 هـ) سِرَّ اهتمام الشريعة بهذا الأمر فيقول:
المسلم هنا: هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده، الذي يحب للناس ما يحب لنفسه؛ لأنَّ هذا هو الذي يحمله حاله وشفقته على أخيه المسلم أن يدعو له بظهر الغيب، أي: في حال غيبته عنه، وإنما خص حالة الغيبة بالذكر لبعدها عن الرياء، والأغراض المفسدة أو المنقصة؛ فإنه في حال الغيبة يتمحض الإخلاص، ويصح قصد وجه الله تعالى بذلك، فيوافقه الملَك في الدعاء، ويبشره على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن له مثل ما دعا به لأخيه.
والأخوّة هنا: هي الأخوة الدينية، وقد تكون معها صداقة ومعرفة، وقد لا يكون، وقد يتعين، وقد لا يتعين، فإنَّ الإنسان إذا دعا لإخوانه المسلمين حيث كانوا، وصدق الله في دعائه، وأخلص فيه، قال الملَك له ذلك القول، بل قد يكون ثوابه أعظم؛ لأنَّه دعا بالخير، وقَصَدَه للإسلام ولكل المسلمين([5]).
- ومن آثار السلف :
ما ذكره ابن الجوزي أن هَرِم بْنَ حَيَّان زار التابعي الجليل أُوَيْس القَرَنِيُّ، فقال له هَرِم: يا أُوَيْس واصلْنا بالزيارة. فقال أويس: قد وصلتك بما هو انفع لك من الزيارة واللقاء: الدعاء بظهر الغيب، لأن الزيارة واللقاء قد يعرض فيهما التزين والرياء([6]).
ويذكر ابن الجوزي أيضا أن أبا حمدون كان له صحيفة فيها ثلاثمائة نفس من أصحابه، وكان يدعو لهم كل ليلة ويسميهم، فنام عنهم ليلة ولم يدع لهم، فقيل له في النوم: يا أبا حمدون، لم تسرج مصابيحك، قال: فقعد ودعا لهم([7]).
وأخيرا: فلنحرص على الدعاء بظهر الغيب كيننال فضائله، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم نَجِّ المستضعفين من المؤمنين، اللهم هَوِّن عليهم ما هم فيه، اللهم أمدهم بمددك، اللهم احفظهم في أهليهم وأموالهم وبناتهم ونسائهم، اللهم أنزل عليهم الثبات والطمأنينة والسكينة، اللهم آمين ، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
([1]) تفسير القرطبي (18/ 33).
([2]) تفسير القرطبي (16/ 242).
([3])تفسير ابن كثير (8/ 237(.
([4])شرح النووي على مسلم (17/ 49)
([5]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (7/ 61).
([6]) صفة الصفوة (2/ 31(.
([7]) صفة الصفوة (1/ 493(.
- التصنيف: