أنزلوا الناس منازلهم
أيها الإخوة الكرام: إن الإسلام عدل كله، وإنصاف كله، ورحمة كلة، وحكمة كله، الإسلام يرقب القيم والأخلاق والفضائل أينما كانت ويدل عليها..
أيها الإخوة الكرام: أخرج أبو داود عليه رحمة الله بسنده عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها: أنه مر بها سائل فأعطته كسرة من خبز فأخذها ومضى لحاله..
ثم إنه مر بها رجل عليه ثياب جميلة وهيئة حسنة فأقعدته فأكل ثم قام لحاله..
فتعجب الناس من صنيعها رضى الله عنها!!
وقالوا: لم ميزت الرجل الثاني عن الرجل الأول؟
فقالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن ننزل الناس منازلهم..
أيها الإخوة الكرام: إن الإسلام عدل كله، وإنصاف كله، ورحمة كلة، وحكمة كله، الإسلام يرقب القيم والأخلاق والفضائل أينما كانت ويدل عليها..
ومن بين الأخلاق العالية، والقيم الرفيعة، التي أخذ الإسلام بأيدينا وقلوبنا إليها ( إعطاء كل ذي حق حقه) وإن شئتم فقولوا ( إنزال الناس منازلهم)
وسوف ينتظم حديثنا اليوم: عن قيمة واحدة من القيم الرفيعة، وعن خلق واحد من الأخلاق العالية وهى ( توقير الكبير)
والأصل في هذا الموضوع: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم
( ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا)
كبار السن: هم آباؤنا، هم أمهاتنا، أجدادنا، أعمامنا، أخوالنا....
هؤلاء لهم منا كل احترام وتوقير وإعزاز وإكرام..
قال الله تعالى {﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا۟ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ ﴿ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ﴾}
توقير الكبير أيها المؤمنون : عمل من الأعمال الصالحة التي يكتب للإنسان ثوابها ويرى الإنسان أمارته في الدنيا قبل الآخرة..
أيها الإخوة الكرام:
إن الله لا يظلم الناس شيئا..
إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا..
إن الجزاء عند الله تعالى من جنس العمل، وإن شئتم فقولوا ( كما تدين تدان)
قال النبي عليه الصلاة والسلام ( ما أكرم شاب شيخا لسنه، إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)
كبير السن: عاش في الدنيا زمانا لم نعشه أنا ولا أنت، وعرف عن الحياة أحوالا لم نعرفها بعد، ومرت عليه في الدنيا أزمات وأحداث، وله في الدنيا تجارب وخبرات ما أحوجنا لأن نسمع له فيها، ما أحوجنا لأن نعمل بنصحه، ونأخذ برأيه فالعاقل من أضاف إلى عقله عقول الآخرين...
يذكر أصحاب السنن في مناقب عمر بن الخطاب رضى الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال فيه : لقَدْ كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ مِن بَنِي إسْرائِيلَ رِجالٌ يُكَلَّمُونَ مِن غيرِ أنْ يَكونُوا أنْبِياءَ، فإنْ يَكُنْ مِن أُمَّتي منهمْ أحَدٌ فَعُمَرُ.
قلت: والمقصود بقوله ( يُكَلَّمُونَ) أي محدثون وملهمون، وكانوا كثيرا من بني إسرائيل من ( يُكَلَّمُونَ) قال النبي عليه الصلاة والسلام فإنْ يَكُنْ مِن أُمَّتي منهمْ أحَدٌ فَعُمَرُ.
عمر الملهم رضى الله عنه: الذي أجري الله الحكمة على لسانه ورزقه الفراسة، وأعطاه الله تعالى من الذكاء النصيب الأوفر، ورزقه التوفيق والسداد..
عرف عن عمر الذي هذه مناقبه وصفاته أنه كان يسمع لكبار السن ويقبل عنهم نصائحهم، وينقشها في قلبه نقشا...
مر عمر رضي الله عنه يوما بطريق ومعه بعض أصحابه فاستوقفته ( عجوز من عجائز القوم) فقالت يا أمير المؤمنين:
فوقف لها عمر رضي الله عنها فقالت: كنا ندعوك في الصغر عميرا..
فلما بلغت أشدك كنا ندعوك عمر...
أما اليوم فندعوك بأمير المؤمنين..
فاتق الله في الرعية يا عمر، واعلم يا عمر أن من أيقن الموت خاف الفوت ومن أيقن الحساب خاف العذاب..
وجعلت العجوز تكلم عمر حتى أطالت عليه، وحتى مل بعض أصحابه من طول القيام..
والعجيب أن عمر لم يمل فلم يزل يسمع لها وكأن كلماتها تنزل على قلبه بردا وسلاما...
فمال عليه بعض أصحابه وعتب عليه وقال ( أتسمع لهذه العجوز كل هذا الوقت) ؟!
فقال عمر رضى الله عنه: والله لو حبستني طول النهار ما انصرفت عنها إلا للصلاة المكتوبة..
إن هذه المرأة سمع لها الله تعالى من فوق سبع سموات أفلا يسمع لها عمر؟!
هذه العجوز هى التي سمع الله لها من فوق سبع سموات وأنزل في شأنها قوله {﴿ قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِى تُجَٰدِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَآ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌۢ بَصِيرٌ ﴾ }
هذا الموقف: وأمثاله كثير في السنة النبوية وفي سيرة المسلمين.. ماذا يستفاد منه؟
هذا الموقف يستفاد منه أن نوقر الكبير، ونعرف له حقه، هذا الموقف يستفاد منه أن نحسن إلى الكبار وأن نسمع لهم، وأن نشاورهم، وأن نكرمهم ونخدمهم ونقضي لهم ما استطعنا من حوائجهم سواء كانوا من الأقارب أو من الغرباء، سواء كانوا من المسلمين أو من غير المسلمين...
أسوتنا وقدوتنا في ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم
تعامل مع كبار السن ببساطة وصدق وإخلاص تعامل معهم بأخلاق عالية، مما زاد من محبته في قلوب الناس، بل إنها أخذت قلوب غير المسلمين إلى الإسلام أخذا رفيقا..
عدي بن حاتم الطائي أحد أشهر رجالات العرب، وكان سيدا في قومه مطاعا فيهم، وكان يضرب بأبيه المثل في الكرم وحسن الخلق، ولو كان مسلما لترحم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
لما سمع عدي بن حاتم برسول الله وسمع بالإسلام كره الإسلام وكره رسول رسول الله صلى الله عليه وسلّم..
فما كان منه إلا أن ترك قومه وفر إلى الشام ولحق هناك بقوم من النصارى في بلاد الشام..
يقول عدي بن حاتم: فكان كرهي للشام ولأهل الشام أشد من كرهي للإسلام ولمحمد.. صلى الله وسلم على نبينا محمد.
قال: فقلت في نفسي لو أتيت محمدا فإن كان ملكا من ملوك الدنيا عرفته، وإن كان كاذبا لم يخف علي كذبه، وإن كان صادقا اتبعته..
يقول عدي بن حاتم: فقدمت المدينة فدخلت عليه المسجد فلما وقفت بين يديه قلت أنا عدي بن حاتم..
يقول فقام رسول الله فانطلق بي إلى بيته فبينما نحن كذلك إذ لقيته عجوز من عجائزهم فاستوقفته فوقف لها فجعلت تتكلم وهو يسمع حتى طال وقوفه دون أن يمل منها، ودون أن يقاطعها، ودون أن ينصرف عنها حتى فرغت العجوز من جميع حاجتها ومضت لحال سبيلها...
قال عدي بن حاتم: فقلت في نفسي محمد هذا ليس بملك من ملوك الدنيا إنما هو رسول أرسله الله تعالى..
( أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله) صلى الله عليه وسلّم ...
السؤال الآن: ما الذي استمال قلب عدي بن حاتم إلى الإسلام؟
إنها رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إنها حسن المعاملة، إنها التوقير والاحترام والرحمة بالكبار وحسن الخلق مع العجائز والضعفاء...
«دخل رسول الله حجرة عائشة يوما فإذا بالدار عجوز، فقال لها رسول الله من أنت؟ قالت: أنا جثامة المزنية.. فأقبل عليها رسول الله فقال بل أنت حنانة المزنية.. فأكرمها رسول الله، وقضى لها حاجتها ثم سألها: كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ فقالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. ثم إن العجوز انصرفت فقالت عائشة رضى الله عنها، تقبل على هذه العجوز كل هذا الإقبال؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم هذه العجوز يا عائشة كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان.» .
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يبارك في الأحياء من آبائنا وأمهاتنا وأحبابنا، وأن يتغمد الأموات بواسع رحمته إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير..
الخطبة الثانية
بقى لنا في ختام الحديث ان نقول:
إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد علمنا فن التعامل المؤدب المهذب مع الكبار من آبائنا وأمهاتنا وأقاربنا ومعارفنا من المسلمين ومن غير المسلمين بتوقيرهم واحترامهم والسمع والطاعة لهم وبقضاء حوائجهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.. بقى لنا أن نقول:
إن رسول الله في مقابل ما رغبنا رهبنا، وفي مقابل ما أمرنا حذرنا..
حذرنا من الجرأة على الكبار، حذرنا من سوء المعاملة لهم، رهبنا من التطاول عليهم ومن السخرية بهم وعد الاستخفاف برجل كبير أو بامرأة عجوز خصلة من خصال النفاق، وقد يعجل الله العقوبة له فيسلط الله عليه من يهزأ به ومن يسخر منه.. ذلك أن الجزاء من جنس العمل..
هذا في الدنيا أما في الآخرة فسوف يلقي كل عبد بما جنت يداه..
لمَّا رجَعت إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مُهاجرةُ الحبشة قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا تحدِّثوني بأعاجيبِ ما رأيتُمْ بأرضِ الحبشَةِ قالَ فِتيةٌ منهم بلَى يا رسولَ اللَّهِ بينا نحنُ جلوسٌ إذ مرَّت بنا عجوزٌ من عجائزِ رَهابينِهِم تحملُ علَى رأسِها قُلَّةً من ماءٍ فمرَّت بفتًى منهم فجعلَ إحدى يدَيهِ بينَ كتفيها ثمَّ دفعَها فخرَّت علَى رُكْبتَيها فانكسَرت قُلَّتُها فلمَّا ارتفَعتِ التفتَتَ إليهِ فقالَت سوفَ تعلَمُ يا غُدَرُ إذا وضعَ اللَّهُ الكرسيَّ وجمعَ الأوَّلينَ والآخِرينَ وتَكَلَّمتِ الأيدي والأرجلُ بما كانوا يَكْسِبونَ فسوفَ تعلَمُ كيفَ أمري وأمرُكَ عندَهُ غدًا..
قالَ جابر بن عبد الله راوي هذا الأثر فقال: رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ صدَقَتْ صدَقَتْ كيفَ يقدِّسُ اللَّهُ أمَّةً لا يؤخَذُ لضَعيفِهِم من شديدِهِم..
فحذار من ظلم الناس، حذار من التطاول على الضعفاء، فإن لهم دعوات مسموعة مرفوعة مقبولة.. يقول الله تعالى لها وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين..
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرا فالظلم ترجع عقباه إلى الندم، تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم..
- التصنيف: