عامل الناس بما تحب أن يعاملك الله
من أحب أن تُنَفَّس عنه كُرَبُ يوم القيامة، فلينفِّس عن المؤمنين المحتاجين، ولييسر عليهم، ومن أراد عون الله، فليكن في عون عباده...
إن أعظم مرتقب يُنتظَر وأجلَّ أجَلٍ يُرتقب، يومُ القيامة؛ يوم المرجع والمآب؛ حيث الفوز الذي لا خسارة بعده، أو الخسارة التي لا فوز بعدها؛ {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الروم: 14 - 16].
تلك لحظات حاسمة تتوقف معها الأنفس، وتطيش معها العقول، ويطول الانتظار، يموت فيها الموت، ولا نطق إلا بالحياة؛ فإما نعيمٌ سرمديٌّ أبدي، أو عذاب أبدي، أو تمحيص يتْبَعه نعيم.
عباد الله: من أراد التعرف على أمارات مصيره، فلينظر إلى ما أقامه الله فيه، فالله جل جلاله يحب المحسنين، وكتب الإحسان على كل شيء؛ وفي محكم التنزيل: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
وإن من عناية الله بعباده أنْ كَتَبَ إحسانه سبحانه وبحمده على من أحسن لعباده، فعاملهم بالحسنى، وتوعَّد من أساء لهم بسوء العاقبة؛ وتأمل في حديث أسامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما يرحم الله من عباده الرحماء».
وقال عليه الصلاة والسلام: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء»، فاعفُ واصفح عن عباد الله، يصفح الله عنك؛ قال الله جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14].
ولما طلبت أمنا عائشة رضي الله عنها من رسول الله أن يعلمها دعاء تقوله، إن وافقت ليلة القدر؛ فقال لها: «قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو، فاعفُ عنا»، فالله يحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض.
من أحب أن تُنَفَّس عنه كُرَبُ يوم القيامة، فلينفِّس عن المؤمنين المحتاجين، ولييسر عليهم، ومن أراد عون الله، فليكن في عون عباده.
واستمع لهذا الحديث العظيم الذي يرويه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعْسِرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».
قال الإمام النووي رحمه الله: "وهو حديث عظيم جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب"، قال الحسن البصري رحمه الله: "لأن أقضيَ إلى أخي حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف شهرين".
عبدَالله، كُنْ للمعسر ميسرًا، ييسر الله عليك؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، وتأملوا هذا الحديث العظيم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلًا لم يعمل خيرًا قط، وكان يُداين الناس، فيقول لرسوله: خذ ما تيسَّر، واترك ما عسِرَ، وتجاوز؛ لعل الله يتجاوز عنا، فلما هلك، قال الله له: هل عملت خيرًا قط؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلام، وكنت أداين الناس، فإذا بعثته يتقاضى، قلت له: خذ ما تيسر، واترك ما عسر، وتجاوز؛ لعل الله يتجاوز عنا، قال الله تعالى: قد تجاوزت عنك».
فيا من أكرمكم الله بالأموال، تجاوزوا عن المحتاج والضعيف؛ لعل الله أن يتجاوز عنا وعنكم، إلا أنه يجب أن يعلم أن للإنسان المطالبة بحقه، فليتنبه إلى ذلك.
عبدَالله، ارفُقْ بعباد الله، تشملك دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في حديث عائشة رضي الله عنها: «اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا، فشقَّ عليهم، فاشْقُقْ عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا، فرَفَقَ بهم، فارفُقْ به»، وهنا قال: شيئًا؛ أي: ولو شيئًا يسيرًا.
فيا من كان مسؤولًا عن معاملات المسلمين، لا تعسِّر عليهم، ولا تشق عليهم، فيشق الله عليك، كن ميسرًا، ييسر الله لك، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة، ومن أطعم المسكين، أطعمه الله جل وعلا.
قال عليه الصلاة والسلام: «أيما مؤمن أطعم مؤمنًا على جوع، أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنة»، كذا السقاية والكساء مثلها، واسمع بقلبك يا من يسرت لإخوانك هذا الحديثَ، تفقَّد الفقراء والمحتاجين؛ لعل الله جل وعلا أن يشملك برحمة من رحماته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا بن آدم، مرِضتُ فلم تعُدْني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرِض، فلم تعده؟ أما علِمت أنك لو عُدْتَهُ لَوجدتني عنده؟ يا بن آدم استطعمتُك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تُطْعِمْه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدتَ ذلك عندي؟ يا بن آدم استسقيتك، فلم تَسْقِني، قال: يا رب كيف أسقيك، وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقِه، أما إنك لو سقيته، وجدتَ ذلك عندي».
يا مُريدَ النجاة والآخرة، حذارِ أن يُعذَّب أحدٌ بسببك؛ وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يُعذِّب الذين يعذبون الناس في الدنيا»، وتأمل في فرعون لما سام بني إسرائيل سوء العذاب، ماذا كانت النتيجة؟ {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].
يا مريد النجاة يوم القيامة، حذارِ من تتبع عورات الناس، فالله سيتولى تتبع عورتك، واسمع بقلبك هذا الحديثَ لما صعِد حبيبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: «يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه» ما أقساها من عبارة! وما أعظمه من تعبير يستحث السامع كي يسمع! «يا معشر من أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته، يفضحه ولو في جوف رحله».
عبدَالله: انوِ الخير يُعِنْك الله عليه، وإن أضمرت الشر والخيانة، فالله لا يهدي كيد الخائنين؛ «من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذ يريد إتلافها، أتلفه الله»، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام ابن القيم: "إن الله كريم يحب الكريم من عباده، وعالم يحب العلماء، وقادر يحب الشجعان، وجميل يحب الجمال، وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء، وستِّير يحب من يستر على عباده، وعفوٌّ يحب من يعفو عنه، ومن شاق الله، شاق الله به، ومن مكر، مكر الله به، ومن خادع خادعه، ومن عامل خَلْقَه بصفة، عامله الله بتلك الصفة بعينها، في الدنيا والآخرة؛ فالله لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه، فكما تدين تُدان".
فاحرص رعاك الله وسددك، وأجرى الحق على لسانك وأقوالك وأفعالك، وتذكر على الدوام حديث رسول الله: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه، فليفعل».
عبدَالله، إن من ثمرات الإحسان للناس المعجَّلة حبَّ الله لك، فالله يحب المحسنين، ومن عامل عباد الله بالإحسان، عامله الله بالإحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، والإحسان إلى الناس سبب لثنائهم، وهي عاجل بشرى المؤمن في الدنيا، وسبب لوجوب الجنة للعبد؛ فلقد ((مرت جنازة على النبي صلى الله عليه وسلم، فأثنى الناس عليها بالخير؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت، وجبت»، قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال: «وجبت له الجنة؛ أنتم شهداء الله في أرضه»، ومرت جنازة أخرى فتكلم الناس عليها بالسوء؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجبت، وجبت»، قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال: «وجبت له النار؛ أنتم شهداء الله في أرضه».
ماذا سيحفظ عنك من جالسك من ولد ووالد وزوج وإخوان وجيران؟ وماذا سيشهدون عليك حين تسجَّى على سرير الموت؟ من كان مقصرًا، فلا زالت الفرصة مواتية، اعفُ عن إخوانك، وتجاوز عنهم، وابذل الخير لهم، فالله يحب أن تعامل عباده بالحسنى، والله كريم يتبع الخير على من تتبَّع أمره؛ قال الله جل جلاله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].
فتذكَّر أن أحقَّ مَن يُبذَل له الإحسان هم والداك؛ سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أحق الناس بصحابتي؟ قال: «أمك»، ثم قال: « أمك»، ثم قال: «أمك»، ثم قال بعد ذلك: « أبوك».
فإن كان الله قد أكرمك بوجودهم، فأحْسِنْ إليهم، وإن كان قد سبقوا للدار الآخرة، فأحسن إليهم بالدعاء، وصلة من يحبون، والنفقة عليهم، والإحسان إليهم، وكثرة الدعاء، لا يفتر لسانك من الدعاء لوالديك؛ أحياء وأمواتًا؛ فهو سبب للتوفيق لك، وشهادة لك بأنك عبد صالح، ونافذة خير لوالديك.
وكذلك الإحسان للزوجة والأولاد، ومن الناس من يكون إحسانه بالبعيد قبل القريب، وربما ساءت أخلاقه مع القريب، فما هذا بهدْيِ الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم خير الناس، ويقول عليه الصلاة والسلام: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».
_____________________________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
- التصنيف: