الإعراض عن الله عين الخسران

منذ 2023-06-14

قال - تعالى -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ..}، أي: لا تكونوا كأناسٍ تركوا العمل بطاعة الله ورسوله؛ فعاقَبَهم ربُّهم بأن أنساهم أنفسهم، فلم يعملوا لها خيرًا، وأصبحوا بذلك فاسقين عن أمر الله تعالى، خارجين عن طاعته..

قال - تعالى -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].

 

أي: لا تكونوا كأناسٍ تركوا العمل بطاعة الله وطاعة رسوله؛ فعاقَبَهم ربُّهم بأن أنساهم أنفسهم، فلم يعملوا لها خيرًا، وأصبحوا بذلك فاسقين عن أمر الله تعالى، خارجين عن طاعته[1].

 

المراد بالنسيان الترك، فلا ينافي كون الترك عمدًا، والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدًا؛ ومنه قوله - تعالى -: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 126]؛ فالمراد في هذه الآية: الترك قصدًا.

 

وكقوله - تعالى -: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51].

 

وقوله - تعالى -: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14].

 

وقوله - تعالى -: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19].

 

وقوله - تعالى -: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [الجاثية: 34][2].

 

ولم يبيِّن هنا مَن هم الذين حذَّر من أن يكونوا مثلهم في هذا النسيان، وما هو النسيان والإنساء المذكوران هنا، وقد نص القرآن على أن الذين نَسُوا اللهَ هم المنافقون، في قوله - تعالى - في سورة التوبة: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، وهذا عين الوصف الذي وُصِفوا به في سورة الحشر.

 

وقوله - تعالى -: {فَنَسِيَهُمْ}؛ أي: أنساهم أنفسهم؛ لأن الله - تعالى - لا ينسى، {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].

 

وقد جاء أيضًا وصف كلٍّ من اليهود والنصارى والمشركين بالنسيان في الجملة؛ ففي اليهود يقول - تعالى -: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13].

 

وفي النصارى يقول - تعالى -: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14].

 

وفي المشركين يقول - تعالى -: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51].

 

فيكون التحذير منصبًّا أصالة على المنافقين، وشاملاً معهم كل تلك الطوائف؛ لاشتراكهم جميعًا في أصل النسيان[3].

 

هم الكفار، تركوا عبادة الله وامتثالَ ما أمر، واجتناب ما نهى، وهذا تنبيهٌ على فرط غفلتهم، واتباع شهواتهم؛ {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}؛ حيث لم يَسْعَوا إليها في الخلاص من العذاب، وهذا من المجازاة على الذنب بالذنب، عوقبوا على نسيان جهة الله - تعالى - بأن أنساهم أنفسهم، قال سفيان: المعنى: حظ أنفسهم[4].

 

سمى عقوبتهم باسم ذنبهم بوجهٍ ما، وهذا أيضًا هو الجزاء على الذنب بالذنب فكسبوا هم نسيان جهة الله، فعاقبهم الله - تعالى - بأن جعلهم يَنْسُون أنفسهم، قال سفيان: المعنى: حظ أنفسهم، ويعطي لفظ هذه الآية: أن مَن عَرَف نفسه ولم يَنْسَها، عَرَف ربه تعالى، وقد قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "اعرف نفسك، تعرف ربَّك"، وروي عنه أنه قال أيضًا: مَن لم يعرف نفسه، لم يعرف ربه[5].

 

بعد أن أمر المؤمنين بتقوى الله، وإعداد العدة للآخرة، أعقبه بهذا النهي؛ تحذيرًا عن الإعراض عن الدين، والتغافل عن التقوى، وذلك يفضي الى الفسوق، وجيء في النهي بنهيهم عن حالةِ قوم تحقَّقتْ فيهم هذه الصلة؛ ليكونَ النهي عن إضاعة التقوى مصورًا في صورة محسوسة، هي صورة قومٍ تحقَّقتْ فيهم تلك الصلة، وهم الذين أعرضوا عن التقوى.

 

وهذا الإعراض مراتبُ؛ قد تنتهي إلى الكفر الذي تلبس به اليهود، وإلى النفاق الذي تلبس به فريق ممن أظهروا الإسلام في أول سِنِي الهجرة، وظاهر الموصول أنه لطائفة معهودة؛ فيحتمل أن يراد بـ: {الَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} المنافقون؛ لأنهم كانوا مشركين، ولم يهتدوا للتوحيد بهَدْي الإسلام؛ فعبَّر عن النفاق بنسيان الله؛ لأنه جهلٌ بصفات الله من التوحيد والكمال، وعبر عنهم بالفاسقين قولُه - تعالى -: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]؛ فتكون هذه الآية ناظرة إلى تلك.

 

ويحتمل أن يكون المراد بهم اليهود؛ لأنهم أضاعوا دينهم، ولم يقبلوا رسالة عيسى - عليه السلام - وكفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فالمعنى: نسوا دين الله وميثاقه الذي واثقهم به، قال - تعالى -: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة: 40 - 41].

 

وقد أطلق نسيانَهم على الترك والإعراض عن عمدٍ؛ أي: فنسوا دلائل توحيد الله، ودلائل صفاته، ودلائل صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفهم كتابه؛ فالكلام بتقدير حذف مضافٍ أو مضافين.

 

ومعنى {أَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} : أن الله لم يخلق في مداركِهم التفطُّنَ لفهم الهَدْي الإسلامي، فيعملوا بما ينجيهم من عذاب الآخرة، ولما فيه صلاحهم في الدنيا؛ إذ خذلهم بذبذبة آرائهم، فأصبح اليهود في قبضة المسلمين يُخرِجُونهم من ديارهم، وأصبح المنافقون ملموزين بين اليهود بالغدر ونقض العهد، وبين المسلمين بالاحتقار واللعن.

 

وأشعر فاءُ التسبُّب بأن إنساءَ الله إيَّاهم أنفسَهم مسبَّبٌ على نسيانهم دينَ الله؛ أي: لما أعرضوا عن الهُدَى بكسبهم وإرادتهم، عاقبهم الله بأن خلق فيهم نسيان أنفسهم.

 

وإظهار اسم الجلالة في قوله - تعالى -: {كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّ} هَ ﴾ دون أن يقال: نَسُوه؛ لاستفظاع هذا النسيان، فعلق باسم الله الذي خلقهم وأرشدهم.

 

والقصر المستفاد من ضمير الفصل في قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قصرٌ ادعائي للمبالغة في وصفهم بشدة الفسق، حتى كأن فسق غيرهم ليس بفسق في جانب فسقهم.

 

واسم الإشارة للتشهير بهم بهذا الوصف.

 

والفسق: الخروج من المكان الموضوع للشيء، فهو صفة ذم غالبًا؛ لأنه مفارقة للمكان اللائق بالشيء، ومنه قيل: فَسَقتِ الرُّطَبَة، إذا خرجتْ من قشرها، فالفاسقون هم الآتون بفواحش السيئات ومساوئ الأعمال، وأعظمها الإشراك.

 

وجملة:  {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} مستأنفة استئنافًا بيانيًّا لبيان الإبهام الذي أفاده قوله: {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} ، كأن السامع سأل: ماذا كان إثر إنساء الله إياهم أنفسهم؟ فأُجِيب بأنهم بلغوا بسبب ذلك منتهى الفسق في الأعمال السيئة، حتى حقَّ عليهم أن يقال: إنه لا فسق بعد فسقهم[6].

 

{نَسُوا اللَّهَ}؛ أي: تركوه { {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} أن يعملوا لها خيرًا؛ قاله المقاتلان.

 

وقيل: نسوا حق الله، فأنساهم حق أنفسهم؛ قاله سفيان.

 

وقيل:  {نَسُوا اللَّهَ} بترك ذكره وتعظيمه؛ {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} بالعذاب أن يذكر بعضهم بعضًا؛ حكاه ابن عيسى.

 

وقيل: قال سهل بن عبدالله: {نَسُوا اللَّهَ} عند الذنوب؛ {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} عند التوبة.

 

وقيل:  {أنْسَاهُمْ أنفسَهُمْ}؛ أي: أراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم؛ كقوله - تعالى -: {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم: 43]، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2].

 

ونسب - تعالى - الفعل إلى نفسه في {أنسَاهُمْ}؛ إذ كان ذلك بسبب أمره ونهيه، كقولك: أحمدتُ الرجل، إذا وجدته محمودًا.

 

وقيل: {نَسُوا اللَّهَ} في الرخاء؛ {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} في الشدائد[7].

 

أخرج ابن أبي شيبة، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابن مردويه، عن جرير قال: "كنتُ جالسًا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاه قومٌ مُجتَابِي النِّمَار، متقلدي السيوف، عليهم أُزُر ولا شيء غيرها، عامَّتُهم من مُضَر، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بهم من الجهد والعري والجوع، تغيَّر وجهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام فدخل بيته، ثم راح إلى المسجد، فصلى الظهر ثم صَعِد منبره، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:  «أما بعد ذلكم، فإن الله أنزل في كتابه:» {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 - 20]، تصدقوا قبل ألاَّ تصدقوا، تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة، تصدَّق امرؤ من ديناره، تصدَّق امرؤ من درهمه، تصدَّق امرؤ من بُرِّه، من شعيرِه، من تَمْره، لا يَحقِرنَّ شيئًا من الصدقة ولو بشق تمرة»، فقام رجل من الأنصار بصُرَّة في كفِّه فناولها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على منبره فعُرِف السرورُ في وجهه، فقال: «مَن سنَّ في الإِسلام سنة حسنة فعمل بها، كان له أجرُها ومثلُ أجرِ مَن عمل بها، لا ينقص من أجورهم شيئًا، ومَن سن سنة سيئة فعمل بها، كان عليه وِزْرها ومثل وِزْر مَن عمل بها، لا ينقص من أوزارهم شيئًا»، فقام الناس فتفرَّقوا فمن ذي دينار، ومن ذي درهم، ومن ذي طعام، ومن ذي ومن ذي، فاجتمع فقسمه بينهم".

 

وأخرج عبدُ بن حُمَيد، وابن المنذر، عن نعيم بن محمد الرحبي، قال: "كان من خطبة أبي بكر الصديق: واعلموا أنكم تَغْدُون وتَرُوحُون في أجلٍ قد غُيِّبَ عنكم علمُه، فإن استطعتم أن ينقضي الأجل وأنتم على حذرٍ، فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بإذن الله، وإن قومًا جعلوا أجلَهم لغيرِهم، فنهاكم الله أن تكونوا أمثالهم، فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]، أين مَن كنتم تعرفون من إخوانكم؟ قد انتهتْ عنهم أعمالهم ووَرَدُوا على ما قدَّموا، أين الجبَّارون الأوَّلون الذين بَنَوا المدائن وحصَّنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآكامِ، هذا كتاب الله لا تفنَى عجائبه، ولا يُطفأ نوره، استضيئوا منه اليوم ليومِ الظُّلْمة، واستنصحوا كتابَه وتبيانَه؛ فإن الله قد أثنى على قوم، فقال: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، لا خيرَ في قولٍ لا يُبتغَى به وجه الله، ولا خيرَ في مالٍ لا يُنفَق في سبيل الله، ولا خيرَ فيمَن يغلب غضبُه حلمَه، ولا خيرَ في رجلٍ يخاف في الله لومة لائم".

 

وقد تكلم الغزَّالي على القلب، فقال - في أول شرح عجائب القلب من "الإحياء" -: إن المُطِيع بالحقيقة لله هو القلب، وهو العالِم بالله، وهو الساعي إلى الله، والمتقرِّب إليه، المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباعٌ، والقلب هو المقبول عند الله إذا سَلِمَ من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقًا في غير الله، وهو المطالب والمخاطب، وهو المعاتب والمعاقب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، ويَخِيب ويشقى إذا دنَّسَه ودسَّاه.

 

ثم قال: وهو الذي إذا عَرَفه الإنسان فقد عَرَف نفسه، وإذا عَرَف نفسه فقد عَرَف ربه، وإذا جَهِله فقد جَهِل نفسه، وإذا جَهِل نفسه جَهِل ربه، ومَن جَهِل قلبه، فهو لغيره أجهل، وأكثر الناس جاهلون بقلوبهم وأنفسهم وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يَحُول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته، ومعرفة صفاته، وكيفية تقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن، وأنه كيف يهوي مرة إلى أسفل السافلين، وينخفض إلى أفق الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقرَّبين، ومَن لم يَعرِف قلبه ليراقبه ويراعيه، ويترصد لما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه؛ فهو ممن قال الله - تعالى - فيهم: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} .

 

وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسَه، وأنه ينبغي له أن يتفقَّدها، فإن رأى زللاً، تدارَكَه بالإقلاع عنه والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره؛ فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.

 

والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قومًا نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم يَنْجَحُوا، ولم يَحْصُلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فُرُطًا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنًا، لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره؛ لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم، وأوضعوا في معاصيه، فهل يستوي مَن حافظ على تقوى الله ونظر لما قدَّم لغدِه، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - ومَن غَفَل عن ذكر الله، ونَسِي حقوقه، فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة، فالأولون هم الفائزون، والآخرون هم الخاسرون[8].

 


[1] أيسر التفاسير؛ لأبي بكر الجزائري: 4/237.

[2] أضواء البيان: 4/104.

[3] أضواء البيان: 8/55.

[4] البحر المحيط:10/264.

[5] المحرر الوجيز: 6/338.

[6] التحرير والتنوير: 28/102.

[7] اللباب في علوم الكتاب: 15/217.

[8] تفسير السعدي: 1/853.

خالد سعد النجار

كاتب وباحث مصري متميز

  • 1
  • 0
  • 819

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً