ما سبب هزيمة 5 يونيو 1967؟
ما سبب هزيمة 5 يونيو 1967؟.. السؤال حاضر والإجابة ساطعة لكن لا تراها الأعين
رغم مرور 56 عاما على هزيمة 5 يوينو 1967 فإن سؤال "ما سبب هذه الهزيمة؟؟" مازال حاضرا، وتستمر الاجتهادات والتحليلات في محاولة لطرح إجابة قطعية عليه، وكي ندرك حقيقة الإجابة على هذا السؤال لابد أن نسترجع معا أحداث انطلاق الحرب لكن بترتيبها الزمني الدقيق.
بداية الأزمة وتطورها
أغلق جمال عبد الناصر مضيق العقبة أمام الملاحة الاسرائيلية وطلب سحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء وارتفعت سخونة الموقف بين العرب وإسرائيل، وأعلنت مصر حالة الطوارئ العسكرية في 15 مايو 1967، ومنذئذ حذرت المخابرات الحربية المصرية في تقاريرها المتتابعة يوميا من أن إسرائيل ستشن حربا ضد مصر وحددت المحاور والخطوات بل و الخرائط التي سيتم عبرها الهجوم وتوقعت أن يكون توقيت الهجوم في صباح الاثنين 5 يونيو، وقال الفريق محمد صادق مدير المخابرات الحربية حينئذ في ختام تقريره صباح 2 يونيو 1967: "لقد استكملت إسرائيل ما بين 28 مايو وحتى 2 يونيو استعداداتها الحربية وإن الصورة التي قدمناها تنطق بحتمية الهجوم واتجاهاته"([1])
قبل الهزيمة بيوم واحد.. 4 يونيو 1967
في مساء 4 يونيو 1967 رصد رجال المخابرات الحربية في العريش ومناطق مختلفة حولها تحركات واسعة بأعداد كبيرة للمدفعية والدبابات الاسرائيلية فيما اعتبر "فتح قوات " وبما يؤكد أن الهجوم البري لن يتأخر عن فجر 5 يونيو وتجمعت كل هذه المعلومات في مكتب المخابرات الحربية في العريش وتمت التحليلات وإعداد التقرير بها وتم إرساله من مكتب العريش إلى كل من مدير المخابرات الحربية ومكتب المشير عبد الحكيم عامر ووزير الحربية شمس بدران، كما أرسله الفريق صادق إلى مكتب رئيس أركان القوات المسلحة ورئيس هيئة العمليات، ويقول الفريق صادق مدير المخابرات الحربية حينئذ: "لم أترك مسئولا إلا وأرسلت له نسخة من هذا التقرير ثم اتصلت بالجميع تليفونيا، كانت المعلومات واضحة ومؤكدة فعملت على وصولها إلى كل المستويات القيادية"([2]).
وصل هذا التقرير لوجهاته في القاهرة في تمام الساعة 23:30 مساء 4 يونيو، وممن تسلمه المقدم على شفيق صفوت مدير مكتب المشير عامر ولم يعرضه على المشير عامر غير في الساعة 7 صباح [5 يونيو]([3]) ويقول الفريق محمد فوزي في مذكراته: "ولم يعلق المشير أو المقدم على شفيق بأي تعليق على فحوى الإشارة،...وهذه الإشارة وصلت هيئة عمليات القوات المسلحة في الساعة 9:40 صباحا (5 يونيو)"أ.هـ.
يقول الفريق صادق: "ما هو المطلوب من جهاز مخابرات أكثر من ذلك أن يكتشف تحركات العدو قبل أن تنتصف ليلة 4-5 يونيو 1967، وأن يقوم بإخطار نائب القائد الأعلى ووزير الحربية وينذرهم بنوايا العدو؟"أ.هـ.([4])
ليلة 5 يونيو 1967
في الساعة 12 صباحا منتصف ليلة 5 يونيو 1967 تغيرت شيفرة الاتصالات دون إبلاغ القوات في الأردن بقيادة الفريق عبد المنعم رياض، وهذا أدى لعدم قراءة رسالة الفريق عبد المنعم رياض التي وصلت القيادة العامة للقوات المسلحة الساعة 7:15 صباح 5 يونيو تنذر ببدء تحرك القوات الجوية الإسرائيلية تجاه مصر، وبحسب شهادة اللواء أمين هويدي فقد "تم تغييرها بغير الطرق المعتادة وبدون القواعد الواجبة"أ.هـ([5])
في ليلة 5 يونيو أقامت القوات الجوية حفلا راقصا في قاعدة أنشاص الجوية([6])، واستمر فيه الرقص الشرقي لراقصة مشهورة وغناء مطربين ومطربات مشاهير، وسهر فيها الضباط والطيارون حتى الساعة 4 فجر 5 يونيو 1967، وقال جمال عبد الناصر عن هذا الحفل:"الحقيقة من ضمن أسباب الهزيمة أن القيادات العسكرية ما كانتش مصدقة إن اليهود هيهجموا....وعاملين حفلة للطياريين سهرانين فيها لغاية الساعة 4 الصبح"أ.هـ بتصرف يسير([7])، ومن جهة أخرى نجد أنه تم تعيين اللواء طيار محمد حسني مبارك رئيسا للجنة التحقيق في أمر الحفل بعد الهزيمة، ويقول أنه وجد أنه مجرد حفل ترفيهي عادي مما تقوم به الشئون المعنوية في مختلف أفرع القوات المسلحة وشارك فيه فنانات وتم التحقيق معهن ومع العسكريين ممن في القاعدة وخلصت لجنة التحقيق إلى أن هذا الحفل عادي ولا شبهة خيانة فيه([8]).
يوم الهزيمة.. 5 يونيو 1967
في الساعة 7:15 صباح 5 يونيو 1967 هاجمت القوات الإسرائيلية منطقة أم بسيس داخل الأراضي المصرية وتم إيصال المعلومة للواء صلاح محسن -قائد المنطقة العسكرية الشرقية- في الساعة 7:30 صباحا لكنه لم يأبه لها ولم يبلغ أحدا بها.
في الساعة 7:15 صباح 5 يونيو 1967 رصدت محطة رادار عجلون بالأردن([9]) تحرك أسراب ضخمة من الطائرات الاسرائيلية تجاه مصر وأرسل اللواء عبد المنعم رياض إشارة مشفرة باللاسلكي الى وزارة الحربية في القاهرة في التو ولكن لم يقرأ أحد الإشارة لأنه كان تم تغيير الشيفرة عند منتصف الليل دون إبلاغ عبد المنعم رياض بالشيفرة الجديدة، وكرر عبد المنعم رياض إرسال الرسالة مرارا دون جدوى([10]).
-في صباح 5 يونيو صدر قرار بإيقاف تشغيل الدفاع الجوي عن سماء مصر كلها لأن المشير عبد الحكيم عامر سيطير للاجتماع بقادة الجيش على الجبهة، وبينما كانت طائرة المشير في الجو في طريقها للاجتماع المقرر مسبقا بدأ الهجوم الجوي الاسرائيلي، وعن هذا الاجتماع يقول أمين هويدي: "بكل اطمئنان يطير القائد العام بطائرته ومعه نصف القيادة والنصف الآخر في المطار يودعه... وكل قيادات الجبهة موزعة بين مطار الوصول للاستقبال أو في المركز الأمامي للتنسيق"([11])، ونقل هويدي كلمة اللواء عبدالحميد الدغيدي قائد القوات الجوية والدفاع الجوي في سيناء عن هذا الاجتماع: "أنا أنسب الانهيار السريع في الجبهة في الساعات الأولى إلى وجود كل القادة في مطار بير تمادا وهو مكان بعيد عن مراكز القيادة والسيطرة لإدارة العمليات وقد ضرب هذا المطار قبل أي مطار آخر وبتركيز شديد مما يؤكد علم اليهود بمن فيه"([12]).
في الساعة 8:45 صباح 5 يونيو 1967 هاجمت 200 من الطائرات الاسرائيلية([13]) في وقت واحد 11 هدفا داخل مصر تمثل في أهم المطارت العسكرية المصرية ودمرت في نصف الساعة الأولى 203 طائرة وهي واقفة على الأرض، أي أكثر من نصف الطائرات المصرية، كما دمرت مدارج الطائرات لتمنع أي طائرة ناجية من الطيران، وعادت إلى إسرائيل سالمة لتتزود بالوقود والذخائر وتعود لمصر لتكمل إجهازها على كل القدرات الجوية والدفاع الجوي، وبعد ذلك تولت الطائرات الإسرائيلية في الأيام التالية تدمير سلاحي المدفعية والمدرعات حتى تم الاجهاز على أكثر من 80% من الجيش المصري، وصار الطريق من القناة الى القاهرة مفتوحا بلا أي دفاع، مما اضطر جمال عبد الناصر لسحب أغلب وحدات الحرس الجمهوري من القاهرة، ودفعها للتمركز في منطقة قناة السويس للدفاع عن القاهرة خشية أن يعبر اليهود القناة ويتقدموا باتجاه القاهرة.
عند تقييم أداء المخابرات الحربية المصرية قبل وأثناء هزيمة يونيو ثبت أن التقارير والخرائط والتحليلات التي قدمتها قبل الحرب كانت صحيحة وتطابقت مع وقائع حرب يونيو 1967، وقد شارك في هذا التقييم جمال عبد الناصر باجتماع لقادة الجيش في 5 يونيو عام 1968([14]).
و بعد هذا كله أفلا يحق لنا أن نكرر ما قاله اللواء عبد الحميد الدغيدي عندما تساءل: "هل كل هذه الحقائق المذهلة التي لا يصدقها عقل مجرد مصادفات؟؟"([15]).
([1])عبده مباشر، سنوات في قلب الصراع مذكرات الفريق محمد أحمد صادق، ط المكتب المصري الحديث، القاهرة 2019، الطبعة الأولى، ص64.
([2])عبده مباشر، نفس المصدر، ص65 وما بعدها.
([3])بدأت الضربة الجوية الاسرائيلية لجميع المطارات والقواعد الجوية العسكرية المصرية في الساعة 8:45 صباحا.
([4]) عبده مباشر، مرجع سبق ذكره ص74.
([5])أمين هويدي، أضواء على نكسة 1967 وحرب الاستنزاف، دار الطليعة، ط أولى بيروت 1975، ص 113 وما بعدها
([6]) هي أهم قاعدة جوية للدفاع عن شرق مصر بما يشمل الدفاع عن مناطق قناة السويس وسيناء والمحافظات الواقعة الى الشرق من القاهرة.
([7])من محضر اجتماع مجلس الوزراء 20 يونيو 1967 في وثيقة سرية للغاية، ضمن أوراق جمال عبد الناصر ووثائق عصره التي نشرتها مكتبة الاسكندرية على الانترنت، وهذا المحضر على الرابط: http://nasser.bibalex.org/Data/Documents-67/7.pdf
تاريخ المشاهدة 12 يونيو 2022
([8])محمد الشناوي، كلمة السر مذكرات محمد حسني مبارك، بدون ناشر وبدون تاريخ (لكنها صدرت بعد عزل مبارك من الحكم)، ص 363 وما بعدها.
([9])كانت وقتها أحدث محطة رادر في الشرق الآوسط وكانت صناعة بريطانية.
([10])أمين هويدي، مرجع سبق ذكره، ص112 وما بعدها..عائشة مقران وفطيمة بوجمعة، حرب الستة أيام وصداها في الجزائر، رسالة ماجستير بجامعة الجيلالي بونعامة غير منشورة، الجزائر 2018، ص41.. ميشيل ب.أورين، ستة أيام من الحرب، ط العبيكان، الرياض2005، الطبعة الأولى، ص326.
([11])أمين هويدي، مصدر سبق ذكره، ص 115 .
([12]) أمين هويدي، نفس المصدر، ص 64. ويعلق هويدي هنا قائلا: "رفض اللواء الدغيدي أن يترك مركز قيادته لاستقبال المشير رغما عن التنبيه عليه أكثر من مرة و رغما عن اتصال قائد القوات الجوية وبقى في مركز قيادته"أ.هـ.
([13]) كان جملة ما لدى اسرائيل وقتها من الطائرات 212 طائرة فتركت 12 طائرة فقط لحماية اجواء اسرائيل وهاجمت مصر يـ200 طائرة، بينما كانت تملك مصر نحو 340 طائرة من أحدث المقاتلات الروسية بالاضافة لعدد لا بأس به من القاذفات الاستراتيجة الروسية TU وهي ما كانت تخشاها اسرائيل خوفا من ضرب العمق الاسرائيلي، فركزت على تدمير القاذفات أولا بجانب مدارج الطائرات كي لا تقلع اي طائرة ثم تلت ذلك بضرب المقاتلات وأخيرا جاء تدمير الدفاع الجوي ومحطات الرادار قبل أن تتوجه لتدمير القوات البرية ومعداتها.
([14]) عبده مباشر، مرجع سبق ذكره، ص 71 وما بعدها.
([15]) في حوار أجرته معه جريدة الشعب المصرية، القاهرة، 6 يوليو 1982، ص 11.
- التصنيف: