مظاهر التوحيد في الحج
لا تحدَّد مظاهرُ التوحيد في الحج لكثرتها وتعدُّدها، فلا يقوم الحاج بأي ركنٍ أو واجب أو عمل من أعمال الحج إلا تتجلى فيه مظاهر التوحيد لله جل وعلا..
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا تحدَّد مظاهرُ التوحيد في الحج لكثرتها وتعدُّدها، فلا يقوم الحاج بأي ركنٍ أو واجب أو عمل من أعمال الحج إلا تتجلى فيه مظاهر التوحيد لله جل وعلا، وإخلاص العبودية الحقة، فقد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة من الهجرة إلى أبي بكر أن يحج بالناس، وبعث معه علي بن أبي طالب ليبلغ الناس بأربع: «لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فعهده إلى مدته».
وهذا أعظم عهد وأمرٍ عَهِدَ به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لصحابته، وتتجلى فيه مظاهر التوحيد من قوله: لا يحج بعد العام مشرك، وهذا أبلغ مظهر من مظاهر التوحيد، حتى في عدم لُبس المخيط أثناء الإحرام هي أكبر درجة الخضوع وأسمى منازل الخشوع والغاية القصوى في التذلل للخالق جل شأنه وعظمة قدرته، وتوحيده في العبادة، والإخلاص له في أفعال الحج.
وبيَّن اللهِ في عدد من الآيات في كتابه الكريم، وأمر به ليحقق التوحيد الخالص ألا، وهو ذكر الله وحده لا غير، فقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203]، وقال تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»، فعُلم من هذا الحديث أن الحكمة التي من أجلها شُرع الطواف، هي ذكر الله تبارك وتعالى، والتقرب إليه بهذه العبادة العظيمة، فقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الطويل في بيان صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: ((فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيكَ، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملكَ، لا شريكَ لك))؛ رواه مسلم.
وعندما يحرم الحاج ويدخل في النُّسك، إن أوَّل ما يبدأ به المسلم من أعمال حجِّه، هو الإهلال بالتوحيد، معلنًا من خلال كلمات التلبية العظيمة توحيده لله وحدَه، ونبذَه للشرك والتنديد به وبأهله، ثم يمضي راشدًا إلى البيت العتيق يردِّدُ تلك الكلمات: لبيك اللهمَّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وهو عالم بما دلَّت عليه من الإخلاص والتوحيد، ووجوب إفرادِ الله وحده بالعبادةِ والبعدِ عن اتخاذِ الشركاء مع الله، مستشعرٌ لذلك مستحضرٌ له، مقر بأن ربه سبحانه المتفردَ بالنعمة والعطاء والهبة والنعماء لا شريك له هو المتفرد بالتوحيد لا ندَّ له، ولذا فإن الملبي بهذه الكلمات حقًّا وصدقًا لا يدعو إلا الله، ولا يستغيث إلا بالله، ولا يتوكَّل إلا على الله، ولا يذبح ولا ينذر إلا لله، ولا يصرف شيئًا من العبادة إلا لله، وهي بحق كلمة التوحيد خالصة، وهي مخالفة لما كان الكفار يلبون ويقولون به يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلكم قد قد»، (أي: كفى)، فيقولون: إلا شريكًا هو لك تملِكه وما ملَك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت، فهذه حال أهل الشرك والتنديد في تلبيتهم؛ حيث يُدْخِلون مع الله في التلبية الشركاءَ والأندادَ، ويجعلون ملكها بيده ويقرُّون بأنها لا تملك شيئًا، وهذا ضلال مبين، عافى الله أمَّة الإسلام منه، وهداهم إلى الإهلال بالتوحيد بتلك الكلمات النيرات: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، ويستمر الحاج في تحقيق التوحيد قولًا واعتقادًا في التلبية، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من بداية الحج، وتنتهي التلبية للمعتمر عند الشروع في الطواف، وهو مذهب الجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة، وهو قول طائفة من السلف، وذهب إليه أكثر أهل العلم، وتنتهي التلبية للحاج عند ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النحر، ولا فرق في ذلك بين المفرد والقارئ والمتمتع، وهذا مذهب الجمهور الحنفية والشافعية والحنابلة، وقال به طائفة من السلف، وكل ما يذكر الحج من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، هي من مظاهر تحقيق التوحيد في الحج، وتنال به أعلى درجات العبودية لله سبحانه وتعالى، وعندما يشرع في الطواف، فإنه يقول في بدايته: بسم الله، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وكل هذه الأدعية المأثورة إنما هي التجاء إلى الله تعالى، وتعظيم لله جل وعلا، وتوجُّه له في أن يقبل الله منه هذه العبادة، وهي أيضًا من مظاهر تحقيق التوحيد.
وهكذا الدعاء في الطواف (الأشواط السبعة)، إنما هي تضرُّع لله وحده، وإظهارُ الافتقار إليه، وتذلل وخضوع وخشوع، وكمال العبودية لله، فلا يصرف الإنسان أيَّ دعاء إلا لله سبحانه وتعالى، ومن هذا الدعاء الذي يقوله الحاج أو المعتمر بين الركن اليماني والحجر الأسود: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذابَ النار، إنما هو لتحقيق التوحيد؛ لأنك أيها الإنسان تطلب الله جل وعلا وحده أن يأتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة، وأن ينجيك من عذاب النار.
وبعدما ينتهي من طواف الأشواط السبعة، فإنه يصلي ركعتين، وهما ركعتا الطواف وهما سنة مؤكدة، ويقرأ في الركعة الأولى سورة الكافرون، وفي الركعة الثانية سورة الإخلاص، وكل منهما لها مدلول العظيم، الأولى في تحقيق التوحيد والثانية في الإخلاص للعبادة، الحكمة من قراءة هاتين السورتين، فلأنهما قد اشتملتا على أنواع التوحيد الثلاثة، فسورة قل هو الله أحد اشتملت على توحيد الربوبية والأسماء والصفات، فأثبتت أن الله تعالى إله واحد، ونفت عنه الولد والوالد والنظير، وهو مع هذا الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال كلها، وسورة قل يا أيها الكافرون تضمنت توحيد العبادة، وأن العبد لا يعبد إلا الله، ولا يشرك به في عبادته أحدًا، فلذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفتتح بهما النهار في سنة الفجر، ويختم بهما في سنة المغرب، وفي السنن أنه كان يوتر بهما، فيكونان خاتمة عمل الليل كما كانا خاتمة عمل النهار؛ انتهى، قاله ابن القيم في بدائع الفوائد (1/145-146).
وبعدها ينطلق الحاج أو المعتمر إلى الصفا ويرقاها، وإذا دنا منها يقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، لفِعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لَـما دنا مِنَ الصفَا قَرَأ: {إِن الصفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ}، «ابْدَأ بِـمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ» فَبَدأ بالصفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتى رَأَى البَيْتَ، فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحدَ اللهَ، وَكَبرَهُ، وَقَالَ: «لَا إِلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، لَهُ الـمُلْكُ ولَهُ الـحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُل شَيءٍ قَديرٌ، لَا إلَهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ»، ثُم دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاثَ مَراتٍ...، الحَديْثُ، وَفيهِ: فَفَعَلَ عَلَى المَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصفَا).
هذا الدعاء الذي يردِّده الحاج أو المعتمر على الصفا والمروة، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما هو لتحقيق التوحيد، وبيان عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وتتجلى فيه مظاهر التوحيد في أعمال السعي بين الصفا والمروة.
الدعاء في يوم عرفة أمره عظيمٌ فيه تتجلى مظاهر الإخلاص في الدعاء، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان أكثَرُ دُعاءِ النبي صلى اللهُ عليه وسلم يَومَ عَرَفةَ: «لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَه، لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، بيَدِه الخَيرُ، وهو على كُل شَيءٍ قَديرٌ»، [وفي لَفظٍ]: أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «خَيرُ الدعاءِ دُعاءُ يَومِ عَرَفةَ، وخَيرُ ما قُلتُ أنا والنبيون من قَبلي: لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَه، لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحَمْدُ، وهو على كل شيء قدير»، ودعاء يوم عرفة لا يقتصر على هذا الدعاء، ولكنه أشهر الأدعية التي وردت في هذا الخصوص، وفيه تحقيق التوحيد واللجأ إلى الله جل وعلا، وتعظيمه سبحانه، ومن هنا تتجلى في هذا الدعاء مظاهر تحقيق التوحيد في أجل وأعلى صوره.
وهنا نجد أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، خالف المشركين في بعض أعمال الحج، ومنها أن قريش كانت لا تخرج إلى عرفة وتقف فيها كباقي الحجاج؛ لأنهم يرون أنهم من الحمس، والحمس هم قريش، فعن عائِشَةَ قالت: (كانَت قريشٌ ومن دانَ دينَها يقِفونَ بالمزدلفةِ وَكانوا يسمونَ الحُمسَ، وَكانَ سائرُ العربِ يقِفونَ بعرفةَ، قالت: فلما جاءَ الإسلامُ أمرَ اللهُ تعالى نبيهُ صلى اللهُ عليْهِ وسلمَ أن يأتيَ عرفاتٍ فيقفَ بِها، ثم يُفيضُ منْها، فذلِكَ قولُهُ تعالى: {ثُم أَفِيْضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناسُ}، وكونه صلى الله عليه وسلم خالفهم ونفى ما يفعلونه من شعائر حجهم إلى تحقيق المساواة بين الحجاج، ويعتبر هذا مظهرًا مهمًّا من مظاهر التوحيد بين عباد الله، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى؛ قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، ولكن الكرم بالتقوى، فأكرمهم عند الله أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله ظاهرًا وباطنًا، ممن يقوم بذلك ظاهرًا لا باطنًا، فيجازي كلًّا بما يستحق.
ثم يأتي المبيت بمزدلفة وما جاء به من الدعاء المشروع بعد الإفاضة والنزول من عرفات، فقال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198].
والذكر هنا إنما يشمل الدعاء والتسبيح والتهليل والتضرع إلى الله، (اذكروا الله تعالى كما منَّ عليكم بالهداية بعد الضلال، وكما علَّمكم ما لم تكونوا تعلمون، فهذه من أكبر النعم التي يجب شكرها، ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان)، ثم جميع أعمال يوم العيد (من رمي الجمار ونحر وحلق، أو تقصير وطواف وسعي)، كلها تتكرر وتظهر فيها مظاهر التوحيد.
رمي الجمرات عندما يرمي الحاج، فإنه يستشعر عظمة الموقف، فيعود به إلى فعل إبراهيم عليه السلام عندما رجم إبليس اللعين في هذا الموضع عدة مرات إرغامًا له وتحديًا، كذلك الحاج عندما يرمي الجمار هنا، وفي رمي الجمرات أيام التشريق تكبير وموقف للدعاء طويل، فيكون في كل مشعر من مشاعر الحج ذكر ودعاء وتوحيد؛ لأن غاية الحج ترسيخ التوحيد في القلوب، جاء عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنهُ كَانَ يَرْمِي الجَمْرَةَ الدنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبرُ عَلَى إِثْرِ كُل حَصَاةٍ، ثُم يَتَقَدمُ حَتى يُسْهِلَ، فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُم يَرْمِي الوُسْطَى، ثُم يَأْخُذُ ذَاتَ الشمَالِ فَيَسْتَهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُم يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُم يَنْصَرِفُ، فَيَقُولُ: ((هَكَذَا رَأَيْتُ النبِي صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ يَفْعَلُهُ))؛ (رواه البخاري) .
فعل نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم هذا اقتداءً بإبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام، وارغامًا لأنف إبليس، وتحقيقًا للتوحيد، حتى يقطع الأمل من إطاعة الحاج له وانقياده إليه، وفي هذا الرمي مظهر من مظاهر تحقيق التوحيد بأن طاعة الله مقدمة على جميع الأمور الأخرى.
وقد نجح إبراهيم عليه السلام في هذا الابتلاءات العظيمة منها النحر يوم العيد؛ كما قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 102 - 107].
وهنا تظهر قوة العقيدة وسلامة التوحيد، وطاعة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لربهما، وتسليمهما المطلق لأمره سبحانه وتعالى، وفيه تظهر قوة غلبة التوحيد على حب النفس وحب الحياة؛ أي: إن هذا الذي ابتلينا به هذين النبيين الكريمين، لهو البلاء الواضح، والاختبار الظاهر الذي به يتميز قويُّ الإيمان من ضعيفه، والذي لا يحتمله إلا أصحاب العزائم العالية، والقلوب السليمة، والنفوس المخلصة لله رب العالمين، ونحن مأمورون بالاقتداء بالأنبياء جميعًا عليهما السلام، فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالذِينَ مَعَهُ..} [الممتحنة: ٤]، ونجد هنا كرامة الله سبحانه لنا بهذا النُّسك العظيم في أيام النحر؛ حيث أبدلنا بأن نذبح وننحر بهيمة الأنعام قربة وطاعةً له لا لغيره، لتحقيق التوحيد وإخلاص العبودية لله؛ قال تعالى: {قُلْ إِن صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]، {قُلْ إِن صَلَاتِي وَنُسُكِي}؛ أي: ذبحي، وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ودلالتهما على محبة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان، والجوارح وبالذبح الذي هو بذل ما تُحبه النفس من المال لِما هو أحب إليها وهو الله تعالى، ومن أخلص في صلاته ونسكه، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله، وقوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي}؛ أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليَّ، وما يقدر عليَّ في مماتي، الجميع {لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ (تفسير السعدي).
أيضًا تتضح من قوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 37]؛ أي: ليس المقصود منها ذبحها فقط، ولا ينال الله من لحومها ولا دمائها شيءٌ، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التقْوَى مِنْكُمْ}، ففي هذا حثٌّ وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد وجه الله وحده لا فخرًا ولا رياءً، ولا سمعة ولا مجردَ عادةٍ، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لبَّ فيه، والجسد الذي لا روح فيه؛ (تفسير السعدي).
من كل ما تقدم تتجلى مظاهر التوحيد والإخلاص لله سبحانه وتعالى في أعمال الحج دون استثناء، ودون تفريق بينها وتمييزٍ، فجميع مناسك الحج شاهدة على توحيد رب البرية سبحانه وتعالى، يظهر فيها العبد ذلَّه وتعظيمه وخوفه ورجاءه، واستعانته بالله وحده دون سواه، ولذلك كان جزاء الحاج الجنة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»؛ (أخرجه النسائي).
لذا اتَّضحت بعض مظاهر تحقيق التوحيد في الحج منذ بداية الدخول في النسك، وما يتخلل هذا الركن العظيم من أقوال وأفعال حتى نهايته وهو طواف الوداع، وما فيه من الدعاء، والذكر، والإخلاص في اكمال هذا الركن العظيم بأكمل وجه كما يريده الله سبحانه وتعالى.
اللهم وفِّقنا لتحقيق التوحيد في حياتنا، واجعلنا هداة مهتدين، ولا ضالين مضلين، وتقبَّل منا ومنكم صالح العمل، وصادق القول، واجعلنا من الراشدين، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
_____________________________________________________
الكاتب: د. صالح بن سليمان البقعاوي
- التصنيف: