نسائم العشر وقسم الفجر
يؤدي المسلمون مناسك الحج، فيتقدمون من كل حَدَبٍ وصَوبٍ،بالبَرِّ والبحر والجو، قاصدين الديار المقدسة؛ ليطوفوا بالبيت العتيق، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، مشهد ضخم، وميدان رحِب، يعُجُّ بالْمُلبِّين، لينة في طاعة الله أعضاؤهم، خاشعة لأوامر الله قلوبهم...
أفضل أيام الدنيا:
أيها المسلمون: الزمن يدور، والحياة تسير، والسفر طويل، والزاد قليل، الليالي تتسارع، الأيام تتوالى، الأعوام تتسابق، الساعات تمر، والدقائق تكُرُّ، واللحظات تفِرُّ، تشدُّنا إلى الله شدًّا، تأخذنا إلى أفضل أيام الدنيا، عشر ذي الحِجَّةِ، تلك التي أقسم الله بها؛ {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2]، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، وكما أن الذي صلى الفجر يعود إلى بيته وهو في ذمة الله، فإن الحاج يرجع من حَجِّه كيوم ولدته أمُّه، وكما أن ركعتي الفجر خير من الدنيا وما فيها، فإن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وكما أن قرآن الفجر مشهود، فإن الله يباهي الملائكة الشهود بأهل عرفاتٍ؛ «أُشْهِدكم أني قد غفرت لهم».
إنه موسم الحج، أفضل أيام العام، مع أفضل الأماكن، مع أفضل الجموع، مع أفضل الأعمال، مع أفضل الجزاء والثواب، كيف؟ الأفضلية في كل شيء، فهل من متلقٍّ؟ هل من ملبٍّ؟ هل من مشتاق؟
قال صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه: «الأيام العشر هي عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشفع يوم النحر»، عندما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، أمره الله بأن يؤذن في الناس بالحج، وأذِن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا رب، وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان، وعلينا البلاغ، فنادى إبراهيم: أيها الناس، كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فحجُّوا، فأجاب كل من كان في أصلاب الرجال، وأرحام الأمهات: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.
الجموع الهادرة:
عباد الله: في هذه الأيام العشر، في قمة الصالحات، تجد الألسنة ذاكِرة، والقلوب خاشعة، والنفوس خاضعة، والجباه ساجدة، في فرح الأفراح، ومهوى الأرواح، بتلك النفوس المؤمنة، الزمان يزدهر، والأيام تحتفل، والمكان يتألق، والروح تحلِّق، والأرجاء تتَّقد.
حيث يؤدي المسلمون مناسك الحج، فيتقدمون من كل حَدَبٍ وصَوبٍ، من أرجاء المعمورة، بالبَرِّ والبحر والجو، قاصدين الديار المقدسة؛ ليطوفوا بالبيت العتيق، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، مشهد ضخم، وميدان رحِب، يعُجُّ بالْمُلبِّين، لينة في طاعة الله أعضاؤهم، خاشعة لأوامر الله قلوبهم، وتلهَج بالذكر والدعاء ألسنتهم، تعطر الجو والتاريخ أنفاسهم، نشيد ثائر، وهتاف صادق، وشعار رائع: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك، مظاهرة متلاطمة الأمواج للعباد الذين ذهبوا طاعةً لله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، يحبون لقاءه، ويوقنون بعطائه.
كيف لا؟
إخوة الإسلام: كيف لا، والحج في أفضل أيام الدنيا؟ عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل أيام الدنيا العشر» - يعني عشر ذي الحجة - قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: «ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفَّر وجهه بالتراب».
كيف لا، والعمل الصالح فيها محبوب عند الله تعالى؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء».
كيف لا، والحج ركن من أركان الإسلام، وعمود من أعمدة الدين؟ يقول النبي الأمين صلى الله عليه وسلم: «بُنِيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان»؛ (متفق عليه).
كيف لا، والحج ولادة من جديد؛ فكما أن المولود يُولَد على الفطرة لم يرتكب ذنبًا أو خطيئةً، فكذلك الحاج؟ عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من حجَّ هذا البيت، فلم يرفُث، ولم يفسُق، رجع كيوم ولدته أمه»؛ (متفق عليه).
كيف لا، والحج يجمع بين ثوابَيِ الدنيا والآخرة، كيف؟ «العمرة إلى العمرة كفَّارة لِما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة»؛ (متفق عليه)؛ فقد جمع بين ثواب الدنيا من الغِنى ونفي الفقر والذنوب، وبين ثواب الآخرة وهو الجنة، وهل هناك أعظم من ذلك في الدنيا والآخرة؟
كيف لا، والحج بذلك يهدم ما كان قبله من المعاصي والذنوب؟ فعن عمرو بن العاص قال: ((لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم: فقلت: يا رسول الله ابسط يمينك لأبايعك، فبسط يده فقبضت يدي، فقال: «ما لك يا عمرو»؟ قال: أردت أن أشترط، قال: «تشترط ماذا»؟ قال: أن يُغفَر لي، قال: «أما علِمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله»؟؛ (مسلم).
أيها المسلمون، كيف لا، والحج من أفضل العبادات على الإطلاق؟ فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أيُّ العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»؛ (متفق عليه).
كيف لا، والحج من أفضل الجهاد؟ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها قالت: ((يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: «لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور»؛ (البخاري).
لذلك كانت عائشة رضي الله عنها لا تتركه منذ أن علمت أنه جهاد؛ فقد قالت رضي الله عنها: ((قلت: يا رسول الله، ألَا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال: «لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج؛ حج مبرور»، فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم))؛ (البخاري).
كيف لا، والحج قيام أمر الناس في معاشهم ومعادهم؟ قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].
كيف لا، ومكةُ من الأماكن التي يحبها الله عز وجل؛ فمكة شرَّفها الله، وهي أحب البقاع إلى الله، وأفضل بقاع الأرض؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله إنكِ لَخَيرُ أرضِ الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخْرِجْتُ منكِ ما خرجت».
كيف لا، ورؤية الحجر واستلامه شهادةٌ بالإيمان؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ليبعثن الله الحجر يوم القيامة، وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به، يشهد به على من استلمه بحقٍّ»؛ (رواه ابن ماجه، والترمذي).
وكيف لا، والركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة؟ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة، طمس الله نورهما، ولو لم يُطمَس نورهما، لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب»؛ (رواه الترمذي).
كيف لا، والحج إلى بيت الله؛ وهو البيت الذي طهَّره وطيَّبه للطائفين والقائمين، والركع السجود؟ قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].
كيف لا، والحج من شعائر الله؟ قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158].
كيف لا، والحج مثاب الناس وأمنهم؟ قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125].
كيف لا، والحج يكفيه شرفًا وفضلًا أن الله جل وعلا يباهي بأهل عرفة ملائكته؟ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يباهي بأهل عرفاتٍ ملائكةَ السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي هؤلاء، جاؤوني شُعْثًا غُبْرًا، أنفقوا الأموال، وأتعبوا الأبدان، أُشْهِدُكم يا ملائكتي أني قد غفرت لهم»؛ (صحيح ابن خزيمة).
فسبحان مَن قدَّس البيت وعظَّمه! سبحان من بارك البلد وحرَّمه! سبحان من فرض الحج وفضله! سبحان من دعا عبده وكرَّمه! سبحان من فجر البئر وعمره! سبحان الله وبحمده! سبحان الله العظيم!
إنها ملحمة الحج، إنها أنوار الْمُحْرِمين، وأضواء المضحِّين، وأنغام الْمُلَبِّين، وأمواج الطائفين.
أخي المسلم: هل شَمَمْتَ عبيرًا أزكى من غبار المحرمين؟ هل رأيت لباسًا أجمل من لباس الحجاج والمعتمرين؟ هل رأيت رؤوسًا أعزَّ وأكرم من رؤوس المحلقين والمقصرين؟ هل مرَّ بك ركب أشرفُ من ركب الطائفين؟ هل هزَّك نَغَمٌ أروع من تلبية الملبيين، وأنين التائبين، وتأوُّه الخاشعين، ومناجاة المنكسرين؟
جموع ملبية، وأعين باكية، وعَبَرات متوالية، وأيدٍ مرفوعة داعية.
إنه حنين الأفئدة، ونماء الأرصدة، إنه شوق القلوب، وشغف النفوس، ترنو إليه الأبصار، وتمتد إليه الأعناق، تَعْلَق به الخواطر، تُمحى به الديون، وتكتحل به العيون، وتلهَج به الأفكار، وتتوجه إليه الأنظار.
نفحات ورحمات:
عباد الله: الحج نفحات ورحمات، حسنات ودرجات، عمدة في الأخلاق، وسَعَة في الأرزاق، إنها أسواق الحج في الأرض المقدسة، وميادين الطاعة في الأماكن المطهَّرة، ومواسم العبادة في الوفود الطاهرة، ولحظات الخشوع في الجموع الهادرة.
هذه مواسم طاعةٍ {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، ثم يُرفَع أذان الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27]، كانت الإجابة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والنعمة، لا شريك لك لبيك.
البلد الأمين:
أيها المسلمون، إنها مكة، البلد الحرام، كعبة الله، إنها بكَّة؛ من كثرة الخشوع والبكاء، إنها أم القُرى، تتجه إليها جموع القرى في أرجاء الدنيا، وكل البلدان في نواحي الأرض، إنها البلد الأمين، بلد اختاره الله واصطفاه؛ وأقسم به فقال: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3].
مهبِط الوحي، ومهوى الأفئدة، ومركز الدنيا، وسُرَّة الأرض، كيف لا تحِن إليه الأفئدة؟ وهو بلد الله، وبلد رسول الله وصحبه الكرام، بلد التوحيد، بلد تضاعف فيه الحسنات، وتعظم فيه السيئات، بلد يحرُم فيه القتال، بلد مبارك لا يدخله الدَّجَّال، بلد يحرُم صيده وقطع أشجاره، بلد لا يدخله مشرك، كيف لا تحن إليه الأفئدة؟ وهو تاريخ الإسلام والمسلمين، وفخرُهم وعزُّهم ومَحْضَنهم، قلعة من قلاع الدين، وحصن من حصون الإسلام، مكة ذلك الاسم الخالد في قلب كل مسلم ومؤمن، كيف لا والقلوب تتوجه إليها كل يوم مرات ومرات، بل حتى بعد الموت؟
أسواق الحج:
عباد الله: إنه أسواق لكسب الأخلاق، كيف؟
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
أيها المسلمون:
إن الحج سوق للأخلاق الحسنة، والقيم العالية، والآداب الرفيعة؛ حيث يتأدب الحاج مع الشجر، فلا يقطع، ومع الطير فلا يقتل، ومع الإنسان فلا يشتم، ومع البيت فلا يلحد؛ {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25].
إنها تجمع بين الأخلاق؛ ففيها هجرة إلى الله، وفيها إخلاص لله، وفيها تضحية وفداء، وفيها عفو وصفاء، وفيها تسامح وتصالح، وفيها ود وتصافح.
وهو أسواق لزيادة الأرزاق: ففيه زيادة في الأرزاق، كيف؟ «الحج والعمرة ينفيان الفقر، كما ينفي الكير خبث الحديد؛ الذهب والفضة»؛ [صحيح].
وهو أسواق لجمع الحسنات؛ حيث يهاجر المسلم إلى ربه، تاركًا ديارَه وأولاده وعشيرته، لسان حاله يقول كما قال بكل الحج الخليل إبراهيم عليه السلام: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99].
وهناك يطوف كما طاف إسماعيل، ويسعى كما سعت هاجر، ويُقبِّل كما قبَّل عُمَرُ، ويقف بعرفة كما وقف محمد بن عبدالله، ويضحي كما ضحى إبراهيم عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
وهو أسواق الطاعات: في الأيام العشر؛ حيث تزدان الأرض بوفود الحجيج، وتتجمل السماء بنور الملأ الأعلى، وتتألق الكعبة في سرة الأرض وفي وسط الدنيا، يطوف بها الحاج فيزداد إيمانًا، ويتألق إحسانًا، ويخفف من ذنوبه وآثامه.
ملتقى العبادات:
أيها المسلمون: إن الحج سوق يجمع بين الفروض كلها، ففيها إنفاق وزكاة، يجب أن تكون من حلال حتى يقبلها الله تعالى؛ جاء في الحديث: «إذا خرج الحاج بنفقة طيبة، ووضع رجله في الغرز - أي: ركب على دابته - وقال: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال، وحَجُّك مبرور، غيرُ مَأْزُور، وإذا خرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك، ولا سعديك؛ زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأزور، غير مبرور»؛ (الترغيب والترهيب).
نعم أسواق الزيادة والنماء، كيف؟
عن بريدة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف»، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في عمرتها: «إن لكِ من الأجر قدر نَصَبِكِ ونفقتكِ»؛ (أخرجه الدارقطني)، وعنها أيضًا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج الحاج من بيته، كان في حِرْزِ الله، فإن مات قبل أن يقضيَ نُسُكَه، وقع أجره على الله، وإن بقِيَ حتى يقضي نسكه، غفر الله ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وإنفاق الدرهم الواحد في ذلك يعدل أربعين ألف درهم فيما سواه».
والصلاة في بيت الله الحرام مضاعفة؛ عن أبي الدرداء وجابر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة»؛ (أخرجه البيهقي).
وفيها صوم حتى عن الكلام، صيام العشر مستحب عدا يوم العيد وأيام التشريق، ويوم عرفة لغير الحاج، ولمن عجز عن تقديم الهدي يصوم ثلاثة في الحج، وسبعة عند الرجوع إلى بلده، وفيه الشهادتان، فضلًا عن التهليل والذكر والتكبير.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيها؛ وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها".
من استطاع ولم يحج محروم:
أيها المسلمون: إن للحج فضائلَ كثيرةً، وإن من لم يحج بيت الله الحرام مع القدرة عليه، فقد حُرِم خيرًا كثيرًا؛ فعن أبي سعيد الخدري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله: إن عبدًا صَحَحْتُ له جسمه، ووسَّعت عليه في المعيشة، يمضي عليه خمسة أعوام لا يفِد إليَّ لَمحروم»؛ (البيهقي وابن حبان بسند صحيح).
زادٌ رُوحيٌّ وإيماني:
عباد الله: إن أعمال الحج كلها من الإحرام حتى الوداع زاد روحي وإيماني عظيم وكبير، يجسده ويصوره لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: «أما خروجك من بيتك تَؤُمُّ البيت، فإن لك بكل وطأة تَطَؤها راحلتك، يكتب الله لك بها حسنةً، ويمحو عنك بها سيئةً، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا، فيباهي بهم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي، ويخافون عذابي، ولم يَرَوني، فكيف لو رأوني، فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوبًا، غسلها الله عنك، وأما رميك الجِمار، فإنه مذخور لك، وأما حلقك رأسك، فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طُفْتَ بالبيت، خرجتَ من ذنوبك كيوم ولدتك أمك»؛ (الطبراني).
لأن هذه الذنوب سقطت وتناثرت وتبخرت هناك، وهذا هو السبب في سواد الحجر الأسود الذي كان أبيض، فسوَّدته خطايا الناس؛ فعن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان الحجر الأسود أشد بياضًا من الثلج حتى سوَّدته خطايا بني آدم»؛ (الطبراني).
هناك تهفو القلوب، وتشتاق الأرواح إلى تلك البقعة الطاهرة الطيبة، حينها تنهمر الدموع، وتُسكَب العبرات، وتتقطع النفوس شوقًا إلى مغفرة رب البريات.
تعجلوا بالحج، وحُجُّوا قبل ألَّا تحجوا:
عباد الله: الحج فرض على كل مسلم مستطيع، يملك الزاد والراحلة التي تبلغه لحج بيت الله الحرام؛ لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتَعرِض الحاجة»، وصدق المعصوم صلى الله عليه وسلم؛ فلقد حالت الأمراض والأوبئة وكورونا عن حج بيت الله الحرام، ووقع الناس في المحظور، وبفضل الله وحده عادت الأوضاع إلى طبيعتها، فتعجل وخُذِ الدرس مما فات، فالمؤمن كيِّسٌ فَطِنٌ، فيا مَن مَنَّ الله عليه بالمال والصحة والعافية، ولم تحج بغير عذر، اعلم بأنك محروم ورب الكعبة؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: «إن الله تعالى يقول: إن عبدًا أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إليَّ لَمحروم»؛ (رواه البيهقي وأبو يعلى بسند صحيح).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحُجُّوا»، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: نعم، لَوجبت، ولَما استطعتم»، ثم قال: «ذروني ما تركتكم؛ إنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بالشيء، فخُذُوا به ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه».
يا لها من رحلة إيمانية روحية! فهنيئًا لحجاج بيت الله الحرام، وحجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا.
اللهم ارزقنا حجًّا مبرورًا، وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا.
_____________________________________________________
الكاتب: خميس النقيب
- التصنيف: