فلسفة التغيير
التغيير المؤثر هو التغيير في الأفكار؛ لأنه نابع عن قناعة، وأي تغيير لا يُبنى على أساس مُبرهن ومُقْنِع فهو آيلٌ حتمًا إلى واحد من هذه الثلاث: الزوال أو الاضمحلال أو الذوبان.
جوهر التغيير:
♦ التغيير ينبغي أن يكون للحقائق؛ لأنها أساس البناء، وأصل كل تغيير، فالتغيير معنى أكثر من كونه شكلاً ظاهرًا؛ لأنه من طبيعة الأمور الظاهرة النسبية (من جهة الأفراد والأعراف والمواطن)، وعليه لا يمكن أن تُناط عملية التغيير بالأوصاف الظاهرة فحسب دون الباطنة.
♦ اختزال التغيير في الظواهر الخارجية هو نوع من تسلّط ثقافة الجمهور على الفرد، بل وتسلّطها على الحقيقة أحياناً، كما أنه يؤدي إلى الاهتمام بالظاهر على حساب الباطن.
♦ متى يُقال عن الإنسان إنه: تغيّر؟ ما مدى علاقة التغيّر بالظاهر والباطن؟
التغيير له علاقة بالباطن كأصل، وعلاقة بالظاهر بوصفه فرعًا ونتيجة، فهو إذن:
ينطلق من الداخل، ويتأسس من الأعماق.. تغيير في نمط التفكير.. وتغيير في العقل كإعماله بدلاً من إهماله وجموده.. وتغيير في المبادئ من أسوأ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن.. وتغيير في الأخلاق والسلوك (أعني القلبية بالذات كغليان القلب بالحقد والكراهية).. وتغيير في المفاهيم.. وتغيير في التألّه والافتقار إلى الذات المقدسة (ربنا جل جلاله).. الخ.
فأين نحن من هذا التغيير؟! وهل تغييرنا إيجابي؟
التغيير المؤثر والمنتج:
♦ التغيير إذا كان مؤسساً من الأصل (أي الباطن)؛ فإن من ثمرته:
أولاً: أنه كلي في جميع الجوانب.
ثانيًا: إيجاده التوازن في الحياة، وهذا من أهم مطالب الإنسان.
♦ أما التغيير المؤسس على الظاهر فحسب، فإنه يورث صاحبه:
أولاً: العشوائية، وذلك في السلوك والمفاهيم بل والتدين؛ لأنه لا يثبت على حال.
ثانيًا: فقدان التوازن، وذلك بتغليب جوانب على أخرى.
ثالثًا: الاتهام (أي للناس)؛ لأن التغيير عنده قالب واحد؛ هو الذي يؤمن به لا غير.
♦ التغيير المؤثر (في نظري) هو التغيير في الأفكار؛ لأنه نابع عن قناعة، وأي تغيير لا يُبنى على أساس مُبرهن ومُقْنِع فهو آيلٌ حتمًا إلى واحد من هذه الثلاث:
1- الزوال.
2- أو الاضمحلال.
3- أو الذوبان.
فالأول: يقضي على أصله ووجوده.
والثاني: يضعفه إلى حين.
والثالث: يمنعه التأثير؛ لأن ما بُني على غير أساس لا يمكن أن يؤثر في غيره، بل يتأثر هو حتى يذوب ويتلاشى!
وأما التغيير الفكري (المبني على البرهان العقلي والشرعي) فمن خصائصه اللازمة:
1- الثبات.
2- التأثير.
3- الانتشار وإن قلّ، وهو نتيجة حتمية للثبات والتأثير.
وفي زمن المتغيرات نحن بحاجة ماسّة إلى التغيير الأكثر ثباتًا، والأبلغ تأثيرًا؛ لأننا نعيش ثورة عارمة من الانتماءات والتصنيفات تجعل الحليم حيراناً، لا يثبت أمامها إلاّ من أسّس بنيانه على فكر صائب مدعوم بالبرهان الشرعي والعقلي.
التغيير السلبي والإيجابي:
التغيير بوصفه ظاهرة اجتماعية منه ما هو سلبي، ومنه ما هو إيجابي، وهذه حقيقة بدهية لا جدل فيها.
وإنما الجدل يحصل في تحديد مقياس التغيير السلبي والإيجابي..
أي متى نحكم على تغيير ما بأنه سلبي أو إيجابي؟
هنا تختلف أنظار الناس في الأصل الذي يبنون عليه حكمهم على تغيير ما، هل هو سلبي أم إيجابي؟
فمنهم من ينطلق في حكمه من قيم إنسانية بحتة، ومنهم من ينطلق من العادات والأعراف العامة، وبعضهم من التقاليد الخاصة، ومنهم من يبني ذلك على الدين أيًّا كان.. الخ.
والقول بأن المؤثر واحد من هذه المنطلقات دون غيره مجانب للصواب؛ لعدم واقعيّته من جهة، ولأن التغيير في ذاته ليس واحدًا، فهناك تغيير جذري.. وتغيير في حال دون حال.. تغيير في الأسس.. وتغيير دون ذلك، كما أن التغيير يختلف باعتبار متَعَلّقِه (أي: ما حصل فيه التغيير)، وباعتبار مكانه، فـ(تغيير في محيط القبيلة، أو البادية يختلف عن التغيير في الحاضرة من حيث السلب والإيجاب، كما أن البادية ذاتها تختلف، والحاضرة أبلغ في ذلك).
فهنا ثلاثة اعتبارات:
1- درجة التغيير.
2- ما حصل فيه التغيير.
3- مكان التغيير.
فكل تغيير (في نظري) يُنظر فيه بذاته؛ لأنه قد يستمد حكمه من نفسه، مع النظر إلى المنطلقات السابقة، بما في ذلك التغيير الديني.
(تنبيه لمن يبني حكمه في التغيير السلبي والإيجابي على الدين: وهو أن يُعلم أن الدين الإسلامي درجات، وأن فيه الأصول والفروع، والمحكمات والمتغيرات، وفيه الضروريات والتحسينيّات والحاجيات؛ فليس التغيير في محكمات الدين كالتغيير في غيرها من فروعه).
إمكانية التغيير:
التغيير في ذاته من حيث الشرع، والعقل، والواقع = ممكن، فليس هناك ما يعسر على التغيير متى وُجدت الإرادة الجازمة، وهذه الإرادة هي الشرط اللازم في مبدأ التغيير، وهي المرتكز للآليات الأخرى.
من آليات التغيير ما هو راجع إلى ذات السلوك المراد تغييره من حيث تعلقه بالإنسان: هل هو جبِلّي أم مكتسب؟ لأن الطارئ أسهل في التغيير من السلوك المتمكِّن، كما أن ذات المكتسب يتفاوت، فمنه ما ألفته النفس واعتادت عليه وهذا تغييره شاق يحتاج إلى دربة وتدرّج، ومنه ما دون ذلك.
والمحصّل أن آليات التغيير الكلية تتلخّص في هذه الثلاث:
1- التسليم بإمكانية التغيير.
2- وجود الإرادة.
3- قبول المحل والاستعداد النفسي.
4- والأول والأخير توفيق الباري جل وعلا.
التغيير من جهة اليسر والعسر:
من طبيعة البناء دوماً أنه شاقٌّ وعسر، وذلك من عدة جهات:
♦ من جهة ذاته، فقد يكون هذا البناء في نفسه شاقاً.
♦ ومن جهة ما يستلزمه من الجهد والوقت.
♦ ومن جهة ما يقوم بالباني من الأوصاف، كخوفه من الفشل، أو ضعف في جسده، أو في قدراته = فالبناء صعب، وعليه فإن كل تغيير يتضمن بناءً فهو شاق يحتاج إلى بذل وتضحية، خاصة بناء النفوس؛ لركونها إلى الدعة والخمول، وحب الشهوات، مع قلة الناصر والمعين.
أما الهدم فهو أيسر من ذلك بكثير، وهذا وصف لازم له متى اقترن بالبناء، وعليه فإن التغيير من حسن إلى أسوأ سهل؛ لسهولة الهدم من جهة، ولكثرة الداعين من جهة؛ فالأبواب مشرعة، والشر في كل واد، مع توافر المضلّين من الجِنَّةِ والناس.
وسهولة التغيير في الهدم، وصعوبته في البناء يفسر لك ظاهرة القلة والكثرة في البناء والهدم، فالذي يبني قليل على مستوى الأمة والجماعات والأفراد، بخلاف الذي يهدم فإنه كثير.
أسأل الله لي ولكم العافية.. يا مقلب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على طاعتك.
وخير ختام كلام ربنا جل وعلا، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
______________________________________________________
الكاتب: محمد بن حسين الأنصاري
- التصنيف: