أفضل وأضمن وثيقة تأمين وضمان اجتماعي على الإطلاق

منذ 2023-07-29

مَن أراد منكم أن يؤمِّن، فليؤمن مع الله، ومَن أراد ضمانًا له ولأهله، فليطبق شرع الله، يفز في الدنيا والآخرة.

قرأت فيما قرأت: أن التأمين - بمفهومه الحقيقي المتداول الآن - عقدٌ حديث النشأة، فهو لم يظهر إلَّا في القرن الرابعَ عشرَ الميلادي، في إيطاليا، على صورة التأمين البحري، ثم انتشر وتنوَّع حتى شَمِل جميع نواحي الحياة، وهذا العقد لم يتطرق له الفقهاء القدماء؛ لأنه لم يكن متداولًا في تلك العصور، وإنما ذكره الفقهاء المعاصرون، وكان أوَّلَهم الفقيهُ ابنُ عابدين - رحمه الله - وقد ذكره في حاشيته المعروفة بـحاشية ابن عابدين، وكان ذلك في القرن التاسعَ عشرَ الميلادي.

فلماذا - يا تُرَى - انتشرت، وراجت فكرة إنشاء شركات التأمين في بلاد المسلمين؟!

ولماذا يحرص كثير من المسلمين على التأمين عند هذه الشركات؟!

وهل يَنُمُّ هذا عن ضعف في الإيمان واليقين؟

وكذلك ما يتعلق بالضمان الاجتماعي، بالصور التي يوجد عليها الآن؛ فهل كان المسلمون سيحتاجون إلى مثل هذا الضمان، لو كان نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام، مُتحققًا في بلاد المسلمين؟!

هل كانوا سيحتاجونه، لو كان هناك تكافلٌ في الأسرة الواحدة، أو لو كان هناك بيتٌ لمال المسلمين، يُنْفَقُ منه على المسكين، والمحتاج، والأرملة، والعجوز، والعاجز؟!



هل كانت، يا تُرَى، ستُضطَرُّ المرأة إلى أن تعمل؛ لتضمن لنَفْسِها حياة كريمة، إن لم يكن لها زوجٌ يرعى شؤونَها، أو أخٌ يهتَمُّ بأمرها، أو ذو رحمٍ يصِل رحِمَه معها؟!

أمثلة كثيرة يمكن أن تُضرَب في هذا السياق، مما يوحي بضعف الشبكة الاجتماعية في المجتمع المسلم، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!

لا أريد أن أطيل في التنظير، ولكنَّني سأنتقل سريعًا الآن إلى ذكر بعض النصوص، التي توضِّح وثيقة التأمين، ونظام الضمان الاجتماعي، الذي قصدته في كلامي السابق.

قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272]؛ يقول سيد قطب - رحمه الله -: إن هذا هو شأن المؤمن، لا سواه، لا ينفق إلا ابتغاء وجه الله، خالصًا مُتجرِّدًا لله؛ ومِن ثَم يطمَئِن لقبول الله لصدقته، ويطمئن لبركة الله في ماله، ويطمئن لثواب الله وعطائه، ويطمئن إلى الخير والإحسان مِن الله؛ جزاءَ الخير والإحسان لعباد الله، ويرتفع ويتطهَّر ويزكو بما أعطى، وهو بَعْدُ في هذه الأرض.

وقال تعالى: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، وقال: {.. أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]؛ أي: تسكن وتستأنس بالذكر؛ يقول سيد قطب: تطمئن بالإحساس بالصلة بالله، والأمن في جانبه، وفي حِماه، وتطمئن بالشعور بالحماية من كل اعتداء، ومن كل ضرر، ومن كل شر إلا بما يشاء، مع الرضا بالابتلاء، والصبر على البلاء، وتطمئن برحمته في الهــداية، والرزق، والستر في الدنيا والآخـرة، ذلك الاطمئنان في قلوب المؤمنين: حقيقة عميقة، يعرفها الذين خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، فاتصلت بالله.

وقال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82]، كان هذا التدبير من الله – تعالى - رحمة للغلامين؛ بصلاح أبيهما، قال ابن المنكدر: إن الله يحفظ بصلاح العبد ولدَه، وولد ولده.

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4]؛ يقول سيد قطب: الزكاة تأمين اجتماعيٌّ للأفراد جميعًا، وهي ضمان اجتماعي للعاجزين، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكك والانحلال.

ومِن أقوَال الحبِيب المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام: «مَن صلَّى الصُّبح فهو في ذِمَّة الله، فلا يتبعنَّكم الله بشيء مِن ذِمَّته»؛ )صحيح، الألباني، صحيح الجامع (6338)؛ أي: في عهده، أو أمانه، أو ضمانه، فلا تتعرَّضوا له بالأذى.

وقال: «ما مِن عبد، يقول في صباح كل يوم، ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات، فيضرَّه شيء»؛ (صحيح، الألباني، صحيح ابن ماجه: (3134).

ومن أقوالِهِ أيضًا عليه الصلاة والسلام: «داوُوا مرضاكم بالصَّدَقة»؛ )حسَن، الألباني: صحيح الجامع: (3358)، و «ما نقص مال قط مِن صدقة»؛ صحيح، الألباني، (صحيح الجامع: (3025)، و«مَن قرأ الآيتين مِن آخــر سورة البقرة في ليلة كفَتَاه»؛ (صحيح، الألباني، صحيح ابن ماجه: (1135)، و «أنفِقْ، بلالُ، ولا تَخْشَ مِن ذي العرش إقلالًا»؛ (صحيح، الألباني، مشكاة المصابيح: (1826).

هذه النصوص - وغيرها الكثير - بمثابة تأمين شامل على الحياة، والأموال، والأولاد، وأما ما يتعلق بنظام الضمان - أو التكافل - الاجتماعي في الإسلام، فالنصوص فيه كثيرة أيضًا، ولكنني سأذكر بعضًا منها فقط.

قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]؛ يقول سيد قطب: وهي صفة مأخوذة مِن الطواعية، واليُسْر، واللِّين؛ فالمؤمن ذلول للمؤمن، غير عصيٍّ عليه، ولا صعبٍ، هيِّنٌ ليِّن، ميسَّر مستجيب، سَمْح ودُودٌ، وما في الذلة للمؤمنين مِن مَذَلَّة ولا مهانة، إنما هي الأخوَّة، تَرفَع الحواجزَ، وتُزِيل التكلُّفَ، وتَخلِط النَّفْس بالنَّفْس، فلا يبقى فيها ما يستعصي، وما يحتجز دون الآخرين.

إن حساسية الفرد بذاته متحوصلة متحيِّزة، هي التي تجعله شَمُوسًا، عصيًّا، شحيحًا على أخيه، فأمَّا حين يخلط نفسه بنفوس العُصْبة المؤمنة معه، فلن يجد فيها ما يمنعه، وما يستعصي به، وماذا يبقى له في نفسه دونهم، وقد اجتمعوا في الله إخوانًا؛ يحبهم ويحبونه، ويشيع هذا الحب العلوي بينهم ويتقاسمونه.

وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71]؛ يقول سيد قطب: إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمَّة المؤمنة، طبيعة الوحدة، وطبيعة التكافـل، وطبيعة التضامن، ولكنه التضامن في تحقيق الخير، ودفع الشر.

وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]، وهذه من الحالات الثابتة، ونقاط الارتكاز الأصيلة في حياة المؤمنين.

وقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، يقول سيد قطب: صورة وضيئة صادقة، وصورة نظيفة رضيَّة واعيَة، تنجلِي مِن ورائها طبيعة هذه الأمَّة المسلمة، وتتجلَّى الآصرة القوية الوثيقة، التي تربط أولَ هذه الأمَّة بآخرها، وآخرَها بأولها، في تضامن وتكافل، وتوادٍّ وتعاطف، إنها صورة باهرة، تمثل حقيقة قائمة، كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية، يتصوَّره قلب كريم.

ومن الأحاديث النبوية في هذا السياق قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره في الجنة، والســاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله»؛ (صحيــح، الألباني، صحيح الجامع: (1476)، وقوله: «مَن أنظَرَ مُعسرًا، أو وضع له، أظلَّه اللهُ يوم القيامة تحت ظلِّ عرشه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه»؛ (صحيح، الألباني، صحيح الجامع: (6107)، وقوله: «اعرفوا أنسابكم تصلوا أرحامكم»؛ (صحيح، الألباني، صحيح الجامع: (1051)، وقوله: «أفضل الأعمال: أن تدخل على أخيك المؤمن سرورًا، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطعمه خبزًا»؛ (صحيح، الألباني، صحيح الجامع: (1096).

وقال كذلك عليه وآله الصلاة والسلام: «ألا أدلُّك على صدقة يحب اللهُ موضعها: تصلح بين الناس»؛ حسن، الألباني، السلسلة الصحيحة: (2644)، وقال: «إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب»؛ (صحيح، الألباني، السلسلة الصحيحة: (1666)، وقال: «ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع إلى جنبـه»؛ (صحيح، الألباني، السلسلة الصحيحة: (149)، وقال: «ما مِن ذي رحم يأتي رحِمَه، فيسأله فضلاً أعطاه الله إياه، فيبخل عليه - إلا أُخرِجَ له يوم القيامة مِن جهنم حيَّة، يقال لها: شجاعٌ، يتلمَّظُ؛ فيُطوَّقُ به»؛ (حسن، الألباني، السلسلة الصحيحة: (2548)، وقال: «مَن كان له ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو ابنتان، أو أختان، فأحسن صحبتهن، واتقى الله فيهن - فله الجنة»؛ (صحيح لغيره، الألباني، صحيح الترغيب: (1973).

وأما قصة عتق سلمان الفارسي. رضي الله عنه. ففيها رُقِيٌّ، ما بعده رُقِيٌّ في التضامن والتكافل، فيما بين المؤمنين:...ثم قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كاتِبْ، يا سلمان»، فكاتبتُ صاحبِي على ثلاثمائة نخلة، أحييها له بالفقير، وبأربعين أوقية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: «أعينوا أخاكم»؛ فأعانوني بالنخل: الرجل بثلاثين وَدِيَّة، والرجل بعشرين، والرجل بخمس عشرة، والرجل بعشر، يعنى: الرجل بقدر ما عنده حتى اجتمعت لي ثلاثمائة وَدِيَّة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اذهب، يا سلمان، ففقر لها، فإذا فرغت فائتِنِي، أكون أنا أضعها بيدي»، ففقرت لها، وأعانني أصحابي، حتى إذا فرغتُ منها جئتُه، فأخبرتُه، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معي إليها، فجعلنا نُقرِّب له الوَدِيَّ، ويضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فوالذي نفسُ سلمانَ بيدِهِ، ما ماتت منها وَدِيَّة واحدة؛ فأديتُ النخل، وبقي عليَّ المال، فأُتِيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة الدجاجة مِن ذهب مِن بعض المغازي، فقال: «ما فعل الفارسي المكاتب»، قال: فدعيتُ له، فقال: «خذ هذه فأدِّ بها ما عليك، يا سلمان»، فقلتُ: وأين تقع هذه، يا رسول الله، مما علي؟ قال: «خذها فإن الله - عز وجل - سيؤدي بها عنك»، قال: فأخذتها فوزنت لهم منها، والذي نفسُ سلمَانَ بِيَدِهِ، أربعين أوقية، فأوفيتُهم حقهم، وعتقتُ، فشهدتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخندق ثم لم يفُتْنِي معه مشهد؛ (حسن، الألباني، السلسلة الصحيحة: (2/556).

وعن مُطرِّف بن عبدالله: أنه قال لبعض إخوانه: يا أبا فلان، إذا كانت لك حاجة، فلا تكلمني، واكتبها في رُقعة، فإني أكره أن أرى في وجهك ذل السؤال.

فهل نحن اليوم نتعامل بهذا الرُّقِيِّ الخُلُقي، وبهذه الأحاسيس المرهفة، أو أن هناك مَن يُذِلُّ أخاه؛ ليقضي له حاجته، ثم على الأغلب لا يقضيها له؟!!

أيها الإخوة:

مَن أراد منكم أن يؤمِّن، فليؤمن مع الله، ومَن أراد ضمانًا له ولأهله، فليطبق شرع الله، يفز في الدنيا والآخرة.

اللهم، إنا نعوذ بك مِن الخوف إلاَّ منك، ومِن الركون إلاَّ إليك، ومِن التوكُّل إلا عليك، ومِن السؤال إلا منك، ومِن الاستعانة إلا بك، أنت وليُّنا، نعم المولى، ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين.

____________________________________________________
الكاتب: لبنى شرف

  • 0
  • 0
  • 318

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً