ملامح تربوية من قول الله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون..}

منذ 2023-08-03

إن القرآن الكريم منهج حياة، وكتاب هداية يهدي الخلق جميعًا للتي هي أقوم، قال سبحانه:  {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}  [الإسراء: 9].

إن القرآن الكريم منهج حياة، وكتاب هداية يهدي الخلق جميعًا للتي هي أقوم، قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].

 

قال السعدي رحمه الله: أي: أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره.

 

تضمَّنت الآية الكريمة ملامح تربوية عدة غاية في الأهمية، أشير إلى بعضها:

أولًا: عناية الإسلام بالعلم وأهله؛ فأول آية نزلت في القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1].

 

وجعل صلى الله عليه وسلم: «طلب العِلمِ فريضة على كلِّ مسلمٍ»؛ (الألباني، صحيح الجامع، رقم: 3914).

 

ثانيًا: على المسلم الموفق الحرص التام والعناية بتعلم ما يعود عليه بالخير والصلاح في أمر دينه ودنياه، وقد ذمَّ القرآن الكريم حال الذين  {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7].

 

قال ابن كثير رحمه الله: أي: أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حُذَّاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون عمَّا ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة.

 

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»؛ (البخاري: 71، مسلم: 1037).

 

قال النووي رحمه الله: فيه فضيلة العلم، والتفقُّه في الدين، والحث عليه، وسببه: أنه قائد إلى تقوى الله تعالى؛ (النووي، شرح مسلم، 7/ 128).

 

ثالثًا: البعد كل البعد عن الخوض في قضايا وموضوعات ليس للإنسان فيها محصلة علمية كافية؛ لما قد يترتب على ذلك من نتائج عكسية لا تحمد عُقْباها، فمثلًا: الذي يتكلم في أمور طبية، ويصف للناس أنواعًا من العلاجات لأمراض مستعصية دون علم وتمكُّن وخبرة، فإنه قد يُلحق الضرر بالآخرين؛ بل قد يتسبَّب في إزهاق أرواح بريئة، ولات ساعة مندم!

 

وصدق ابن حجر العسقلاني رحمه الله في عبارته الشهيرة، إذ قال: إذا تكلَّم المرء في غير فنِّه أتى بالعجائب.

 

رابعًا: أن العلم بحر لا ساحل له، ولم يحط بعلم كل شيء إلا الله جل شأنه، قال تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].

 

أما حال البشر عمومًا فهم على درجات في العلم، وصدق الله العظيم: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].

 

قال السعدي رحمه الله: فكل عالم، فوقه مَن هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب والشهادة.

 

خامسًا: تشير الآية الكريمة إلى فقه الموازنات، وفقه الأولويَّات، فالإنسان يُعْمِل فكره، ويوازن بين: الذين يعلمون والذين لا يعلمون، قال الطبري رحمه الله: والذين لا يعلمون يخبطون في عشواء، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرًا، ولا يخافون بسيئها شرًّا.

 

فالموفق هو الذي يميل قلبه، ويقع اختياره على جانب تحصيل العلم، قال السعدي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد: 19]؛ أي: أهل العقول الزكية الذكية، فهم الذين يؤثرون الأعلى على الأدنى، فيؤثرون العلم على الجهل.

 

ومن توفيق الله للإنسان أن يسعى جاهدًا إلى التزوُّد منه بكل وسيلة مشروعة، وبخاصة من العلماء الثقات بحسب كل فن، المشهود لهم بالعلم، والفضل، والصلاح، والتقوى.

 

سادسًا: مِن أرقى درجات العلم أن يكون طالب العلم أول من ينتفع بعلمه، ويعمل به قولًا، وعملًا، ويؤكد هذا المعنى القرطبي رحمه الله في تفسيره بقوله: الذين يعلمون هم الذين ينتفعون بعلمهم ويعملون به، فأمَّا من لم ينتفع بعلمه ولم يعمل به فهو بمنزلة من لم يعلم.

 

سابعًا: ليس لأحد عذر اليوم في العزوف عن تلقي العلم، فإنه بفضل الله تعالى وتوفيقه، ثم بالتطور المذهل في توفر الأجهزة التقنية الذكية، والبرامج والتطبيقات العلمية المتميزة، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي بكافة أنواعها ووسائلها تسهل الطريق إلى العلم، وما علينا إلا أن نستعين بالله تعالى، ونشحذ الهمة، ونبذل الجهد، مع الأخذ في الاعتبار العناية التامة بالتحقق من مصادر التلقي، وسلامة المنهج، ومدى الالتزام بما عليه سلف الأمة الصالح من وسطية، واعتدال، وثوابت راسخة مستمدة من كتاب الله تعالى، وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم.

 

ثامنًا: يتسع مدى الآية الكريمة لكافة مجالات الحياة العلمية: الشرعية، والتربوية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية...إلخ، وبسعة العلم وقِلَّته يتفاضل الناس، وكلما ازداد الإنسان علمًا في مجال وتخصص وبرز فيه نال قسطًا من الثقة والمكانة، فالواجب على كل من لديه ميول في تخصُّص معين، أو يعمل فيه، فالأولى الإلمام والتمكُّن بقواعده، وكافة موضوعاته؛ دقها وجلها كلما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وبقدر حصيلته العلمية في ذلك يبرز ويتفوَّق ويحقق نجاحات تعود عليه، وعلى مجتمعه، وأمته بالخير.

 

تاسعًا: من سار واتجه لطلب العلم، واعتنى به، وأصبح أسلوب حياة له؛ سواء كان فردًا، أو مجتمعًا، أو أمة، فقد وفق أيما توفيق، ومن نظر وتأمَّل حال الأفراد المتعلمين، أو المجتمعات المتعلمة، أو الأمة المتعلمة وجد بونًا شاسعًا بينهم، وبين من لم يحظ بشرف العلم وطلبه، وفي الغالب الأعم فإن مؤشر قياس نضج الأفراد وتميُّزهم، وتقدم المجتمعات والأمم يعتمد على المستوى التعليمي ارتفاعًا وانخفاضًا؛ لذلك فإن العلم ونشره والعناية به هو الطريق الأصوب والخيار الأوحد لمن أراد الخير والاستقرار والتفوُّق والتقدُّم.

والحمد لله رب العالمين.

__________________________________________________
الكاتب: د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي

  • 1
  • 0
  • 559

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً