محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم
إن من مصائب هذه الأمة الانحرافَ عن جادَّة الصراط؛ إما بالغلو أو بالجفاء، وأن يزهد طوائف منها عن الأمر المشروع والمطلوب، ويختطُّون لأنفسهم خُططًا ما أنزل الله بها من سلطان
الحمد لله الذي جعل محبة رسوله صلى الله عليه وسلم أصلًا من أصول الإيمان، وأوجب محبته وتعزيره وتوقيره في محكم القرآن؛ فقال سبحانه من كريم منان: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9]؛ فالتعزير والتوقير للرسول تعظيمًا وتبجيلًا، والتسبيح له سبحانه إفرادًا وتنزيهًا، وجعل سبحانه محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ونصره واتباعه سببًا للفلاح ووسيلة للنجاح؛ فقال وهو العليم الفتاح: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، فله الحمد على ما خصَّنا به من التفضيل والتكريم، وما اختصنا من اتباع هذا الرسول الرؤوف الرحيم، والصلاة والسلام على مَن ببعثته تقشَّعت الظلمات، وبرسالته تضاعفت البركات، وبمحبته كُفِّرت الذنوب والسيئات، صلى عليه وعلى آله المشمولين بالتطهير، وصحابته المشهورين بحسن التدبير، وعلى تابعيهم بإحسان ومن على منهاجهم يسير؛ أما بعد:
فإن شهادة أن لا إله إلا الله لا تتم ولا تُقبَل إلا بشهادة أن محمدًا رسول الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله لا معنى لها إلا بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه ونصرته، ونصرة دينه.
فالله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»؛ (متفق عليه)، ولم يكتفِ النبي صلى الله عليه وسلم بترجيح محبته على محبة الولد والوالد اللذين هما أحب الخلق إلى الإنسان، بل جعل الرتبة العليا والمنزلة المثلى هي أن يحبه العبد أكثر من نفسه؛ فعن عبدالله بن هشام قال: ((كنا مع النبي صلى الله عله وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لَأنت أحبُّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك»، فقال له عمر: يا رسول الله، لَأنت أحب إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»؛ (رواه البخاري).
ولقد توعَّد القرآن الكريم من قدَّم محبة الآباء والأبناء، والأموال والديار على محبة الله ورسوله؛ فقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
فهذه هي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه منزلتها عند الله.
من أتى بها، نال الخير العظيم والأجر الجسيم، ومِن أعظمه وأجلِّه معيَّتُه صلى الله عليه وسلم، ومرافقته يوم القيامة؛ قال عليه الصلاة والسلام للرجل الذي شكا فراق النبي صلى الله عليه وسلم وصعوبة ذلك عليه: «أنت مع من أحببت»، فهذا شرف لا يدانيه شرفٌ؛ أن يُحشر المرء مع محمد صلى الله عليه وسلم وأشرف المواقف وأرفعها.
ودواعي محبته صلى الله عليه وسلم كثيرة؛ منها:
1- أن محبته صلى الله عليه وسلم مرتبطة بمحبة الله عز وجل.
2- كمال رأفته ورحمته بأمته.
3- كمال نصحه لأمته، وهدايته لها، وإحسانه إليها.
4- ما جُبِل عليه صلى الله عليه وسلم من كريم الخصال، ورفيع الأخلاق.
ومن مظاهر محبته:
1- طاعته وحسن اتباعه، فلا محبة إلا بالاتباع والطاعة.
2- تعظيمه وتوقيره والأدب معه.
3- كثرة تذكره وتمنِّي رؤيته والشوق إلى لقائه.
4- كثرة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كلما ذُكر.
5- محبة سنته، والتظاهر بها، والفخر بالانتماء إليها.
6- الغَيرة على دينه حينما يُنقَض شيء منه أو يُنال.
7- محبة آل بيته وإنزالهم منزلتهم اللائقة بهم.
8- محبة أحبَّائه ومعاداة أعدائه.
إن من مصائب هذه الأمة الانحرافَ عن جادَّة الصراط؛ إما بالغلو أو بالجفاء، وأن يزهد طوائف منها عن الأمر المشروع والمطلوب، ويختطُّون لأنفسهم خُططًا ما أنزل الله بها من سلطان، يزعمون أنهم بها يحققون محبة الله ورسوله، وهذا محال؛ فالله تعالى قد ربط محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
وإن من اتباعه وطاعته ألَّا تتقدم بين يديه بقول أو فعل؛ كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]؛ أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تُفتوا حتى يُفتي، ولا تقطعوا أمرًا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضيه، فلا تعجلوا بقول ولا بفعل، قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل، أما أن نتجرأ فنُبيح لأنفسنا عبادات لم يعملها، ولا أمر بها، بل ولا أشار لنا بها، فهذا هو التعدي والتقدم بين يديه والاستدراك عليه، ثم لا يجوز أن يُقال: هذه بدعة حسنة، وأخرى سيئة، بغير برهان ولا دليل؛ فالحسن ما حسنه صلى الله عليه وسلم، والقبيح ما قبَّحه؛ كما قال أبو ذر رضي الله عنه: ((تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يُقلِّب جناحيه في الهواء إلا وهو يُذكرنا منه علمًا)).
وإذا قال عليه الصلاة السلام: «كل بدعة ضلالة»، فلا يأتينَّ مستدرك ويقول: بل هناك بدعة حسنة، فكلٌّ يُؤخَذ من قوله ويُرَدُّ إلا النبي صلى الله عليه وسلم، هذا في العبادات، أما العادات فأمرها واسع؛ ولهذا فإن من القواعد الكلية: "الأصل في العبادات التوقيف، فلا يُشرَع منها إلا ما شرعه الله، والعادات الأصل فيها العفو، فلا يُحظَر منها إلا ما حرمه"، ومن استحسن، فقد شرع؛ كما قال الإمام الشافعي رحمه تعالى.
- التصنيف: