العِلم أولاً وآخراً
في مواجهة هذه الموجهات التشكيكية تقول: التعليم أولاً لأنه يقوي الجذور، ويعزز الأسس، ويمتِّن القواعد، وهو آخراً لأن العلم يحفِّز إلى العمل، ويقوي عليه، ومسهِّل طريقه...
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه، وبعد:
يتساءل كثير من الناس عن كيفية التعامل مع موجات التشكيك التي تعصف بالعقول في عصرنا، ويزداد قلقهم وانزعاجهم كلما ظهرت بعض آثار هذه الموجات على بعض الشباب والفتيات: من تَرْكٍ للإسلام، أو رَفْضٍ لأصوله، أو قبولٍ لِـمَا يضادُّ قطعياته.
مع أن هذه الظاهرة ليست جديدة، فالتشكيك في الدين وأصوله في عصرنا قد بدأ منذ عقود طويلة، إلا أن الملاحَظ أن هذه الظاهرة تزداد توحشاً وتغولاً مع الأيام، وتتسع دائرة تأثيرها، وتقوى أدواتها، وكلُّ موجة جديدة ترقق ما قبلها.
هي ظاهرة مثيرة للقلق حقاً، وهذا القلق نابع من تقوىً في قلبٍ يعظم أحكام الدين، ومن حميةٍ للإسلام، ومن استشعارٍ لمسؤولية الأمانة.
وإن أول ما يتبادر إلى الذهن عادة هو البحث عن كيفية الردود على هذه الشبهات، وأفضل الأجوبة عن هذه التشكيكات، وهو جهد مهمٌّ ومفيد، وواجب لا بد منه.
غير أن ثمة في الحقيقة ما هو أولى من هذا بكثير، وهو من أعظم ما يجب العناية به لمواجهة مثل هذه الموجات التشكيكية في الإسلام وأصوله، وهو التعليم، ثم التعليم.
فترك هذه الشبهات دون ردِّ، وبقاء هذه التشكيكات دون مناقشة هو أمر مشكِل، وسبب للانحراف، وطريق للفساد، لكن ثَمَّ ما هو أخطر وأعظم إشكالاً وهو شيوع الجهل، وضعف العلم، فالقلق من هذا القصور يجب أن يكون أضعاف القلق من مناقشة مثل هذه الشبهات.
لماذا نقول ذلك وما المناسبة الداعية إليه؟
إن من دواعي ذلك القول أموراً عدة، هي:
الأمر الأول: أن الشبهات والشكوك يسهل انتشارها في البيئات التي يشيع فيها الجهل، وتخفى فيها آثار النبوة، فهي مناطق منخفضة يسهل تمدد أدنى الشبهات عليها، فقبل الحديث عن كيفية دفع هذه الشبهات يجب العناية بكيفية البناء وتشييد الحصون التي تقف حائلاً أمام تمدد هذه الشبهات؛ إذ الشبهات كالأمراض في أن التفكير في تقديم الدواء المناسب يجب أن يكون تالياً لتقوية الصحة العامة.
فقبل أن يتألم الوالدان من الشكوك التي تعصف بأحد أولادهم يجب أن يبادروا بتعليم أولادهم الدين الصحيح، وتربيتهم عليه، فهذا أعظم ضمانٍ لحفظ أولادهم من تأثير هذه الشبهات، فأخطر حالٍ يكون عليه الأولاد هو أن يكونوا في حال فراغ عن العلم النافع، فيسهل تمدُّد الشبهات عليهم.
إن التعليم يحرك المياه الراكدة لتكون تياراً متدفقاً، يطهر نفسه، ويمنع الأوساخ من الاجتماع، ولو حصل أي تلوث سهُلت إزالته، أما دون تعليم فإنك ستكون أمام بركة ساكنة راكدة يسهل تلوثها بأدنى عابر.
الأمر الثاني: أن الدفع أسهل من الرفع؛ فنشر العلم بين الناس، وتوضيح أصول الدين، وتربيتهم على الالتزام العملي به هو مما يدفع الشبهات عن القلوب قبل وقوعها، وهذا أسهل من التعامل مع الشبهات بعد وقوعها. فالجهد القليل في نشر العلم أثره أضعاف الجهد الكبير في دفع الشبهات، فالتركيز على نشر العلم هو مواجهة استباقية للشبهات، يحقق من النتائج أضعاف الأثر في جهد أقل.
الأمر الثالث: أن أكبر مغذٍّ للشبهات ومقوٍّ للشكوك هو الإعراض عن الدين، فهو سبب، ونتيجة له في الوقت نفسه؛ فأن يعيش المسلم مُعرِضاً عن العلم والعمل، غارقاً في اتباع شهواته وأهوائه فهذا من أكبر ما يقوي الشبهات في قلبه، ويصعِّب اقتلاعها منه، لأنه غير مستعدٍّ لتقبُّل الحق، ومهما كانت الحجج قوية فإنه كثيراً لا ينتفع بها بسبب إعراضه، وميزة التعليم أنه يعالج مشكلة الإعراض من الجذور؛ فمن يتعلم من الدين وأحكامه، ويُقبِل على القرآن وتدبُّره، ويعش مع النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وسيرته، فإنه يتخلص من أعظم مغذٍّ لهذه الشبهات.
الأمر الرابع: أنَّ تقبُّل كثير من الناس للشبهات ليس بقوة حجتها، بل لميل النفس إليها؛ فقوة الشبهات والشكوك وتأثيرها ليس أنها تقوم على مادة حجاجية قوية تتطلب ردّاً حجاجياً أقوى منه، بل لأن النفوس قد انشرحت لها، ورضيت بها، ووافقت أهواءها، فهي لا تقبل الحق لأنه ثقيل عليها، لا بسبب ضعف دلائله، فيبقى الرد العلمي عاجزاً عن النفوذ إلى العمق لإزاحة الشبهة.
وأما العلم فميزته أنه قادر على النفوذ إلى هذه الأعماق، لأنه يملأ القلب معرفة بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفهماً لمقاصد الدين، وإدراكاً لغاياته، فتقوى نفسه على تقبُّل هذه الأحكام، والانشراح لها.
الأمر الخامس: أنَّ نَشْر العلم يتعلق بالإنسان في حال إقباله عليه، وبحثه عنه، فيكون أكثر نفعاً، وأعمق أثراً، فمن كان صادقاً في طلب الحق، هداه الله لذلك { {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} } [العنكبوت: 69]
هذه المعاني تكشف عن ضرورة التعليم، ونشر العلم، في مواجهة موجات التشكيك المعاصرة في الإسلام وأصوله، وأن العناية الكبرى يجب أن تتجه في التفكير الطويل في كيفية نشر العلم بالله، وبكتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأحكام دينه، ومقاصد شريعته، ليكون أمراً شائعاً بين الناس.
وهذا التعليم يجب أن يوسَّع في دائرته قَدْر المستطاع، ليكون العلم مشاعاً بين المسلمين جميعاً، ويجب الاجتهاد في ابتكار الوسائل، وإبداع الأساليب التي تجذب الناس إلى التعلم، وتقرِّبهم إلى العلم، وتشجعهم عليه.
إن المهمة الأولى يجب أن تبدأ من الأسرة، فهي واجب الوالدين في أن يحرصا على تنشئة الأولاد تنشئة مكتفية، يعرفون القرآن، ويحفظون شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعرفون كثيراً من سيرته، ويميزون أحكام الإسلام، وكلما زاد الوالدان في تعليم أولادهم من العلم الشرعي كان خيراً لهم، غير أن ثمة حدّاً يجب أن لا ينقص عنه كل مسلم، وهو أن يعرف الولد الواجبات من دينه.
كما أن المهمة يجب أن تتسع لوسائل الإعلام، ومناهج التعليم، وهو من واجبات الدولة التي يجب أن تعتنيَ بها بأن تُشيْع بين الناس العلم الشرعي الذي يرفع الجهل عنهم، ويعرِّفهم بأحكام دينهم.
في مواجهة هذه الموجهات التشكيكية تقول: التعليم أولاً لأنه يقوي الجذور، ويعزز الأسس، ويمتِّن القواعد، وهو آخراً لأن العلم يحفِّز إلى العمل، ويقوي عليه، ومسهِّل طريقه، فبه يجتمع الأساس ويكتمل، فيحصل الاستمساك بالشرع علماً وعملاً، ويكون المسلم في مأمن من الانحراف، وإذا شاع العلم، وانتشرت السُّنة، فمن الميسور حينئذٍ معالجة الموجات التشكيكية التي تؤثر على بعض الناس.
- التصنيف: