وقفات مع خطبة الوداع
وقفات مع خطبة الوداع
الكـاتب: علي مختار محفوظ
المختار الإسلامي
في هذا الموقف الإيماني الرائع شملت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في حجة الوداع على العديد من المبادئ الإسلامية العامة، ووضع فيها قواعد الإسلام الأساسية، ففيها مراعاة حقوق الله عز وجل ومراعاة حقوق رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفيها ترسيخ أركان المجتمع المسلم وبيان حقوقه، مع مراعاة حقوق البيوت المسلمة.
مع العلم أن الخطبة ذكرتها كتب الصحاح والسنن والسيرة النبوية عن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، وكان ذلك في السنة العاشرة للهجرة، وخطابه -عليه الصلاة والسلام- ليس مُوجهًا للصحابة فحسب بل هو للأمة الإسلامية جمعاء حينما خاطبهم بقوله: أيها المسلمون.
نشير هنا بإيجاز إلى أبرز المبادئ التي تناولها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، بعد استعراض الخطبة والتي رواها بطولها الإمام أحمد:
أولًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ».
وقفات مع خطبة الوداع:
أولًا: قبل أن يبدأ في خطبته: استنصت الناس، وشد انتباههم، وبين لهم أهمية كلامه، وجذب انتباههم بأنه قد لا يلقاهم بعد هذا العام فاستشعروا منه أنها كلمات مهمة، تشبه الوصايا الجامعة، كأنها موعظة مودع.
ثانيًا: بيان حرمة الدماء والأموال والأعراض وتحريم الخصومات والاقتتال بين المسلمين، فيقول -عليه الصلاة والسلام-: « » لقد عظم الإسلام حرمة سفك الدماء، وشدد ديننا العظيم على حرمة غصب الأموال وسرقتها، سواء كانت أموالًا عامة أو أموالًا خاصة، فكيف يرضى المسلم على نفسه الذي استمع لهذه الوصية الجامعة: أن يساوي بين قتل الكافر المعتدي وبين أن يقتل أخاه المسلم أو يسفك دمه؟ فلا يصلح المجتمع -أي مجتمع بسفك الدماء أو بالانشقاقات، والتنازعات والمخاصمات، وإنما تصلح الأمة بعقيدة الإسلام التي تدعو لحفظ الضرورات الخمس من الحفاظ على النفوس والعقول والأموال والأعراض والدماء، فهي عقيدة تحترم المسلم وتحفظ كيانه، وتحقن دماءه، وترفع شعار الإحسان حتى مع غير المسلمين، بل تدعو إلى الإحسان مع النباتات والحيوانات.
ثالثًا: حرم الإسلام الأخذ بالثأر:
فلا يجوز لمسلم أن يقيم حدًا أو يثأر لنفسه دون الرجوع للحاكم؛ لأن الدولة هي الملزمة بالحفاظ على النظام العام وحماية الأرواح للمواطنين، وهي الملزمة أيضًا بإقامة العقوبات، وتنفيذ الحدود، فلا بد من الحفاظ على هذا المبدأ: « »، وقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود: « » وروى النسائي من حديث بريدة: « »، روى أبو داود والنسائي عن أبي الدرداء: « »، روى أبو داود عن عبادة: « ».
رابعًا: تحريم الربا بمختلف صوره وأشكاله:
فأحل الله البيع وسائر المعاملات المشروعة، وحرم الربا وكان آخر الآيات نزولًا من القرآن الكريم الآيات التي تتعلق بتحريم الربا، فيقول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَاْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَا} [البقرة: 275]. ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة:278].{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279]. روى الطبراني عن البراء: « »، وقد حرم الإسلام الربا هذا التحريم الشديد لتأثيره القوي على إهلاك الأموال، وتخريب الاقتصاد.
الأزمة المالية ما سببها؟:
أليس السبب الأساس في الأزمة المالية في هذا العام 1429هـ=م 2008هو التساهل في التعامل بالربا! وللأسف توجد بعض الدول الإسلامية وبعض المصارف لا زالت تتمسك بالتعاملات الربوية وتزعم أنها جائزة، أو مشروعة أو لا يمكن التخلص منها لأنها معاملات عالمية. وقد كشفت الأزمة المالية البنوك التي لم تتأثر بهذه الأزمة في أمريكا، وفي أوروبا هي البنوك الإسلامية، فلماذا لا نعود لمنهج الإسلام، ونتمسك به، ونسير على هداه؟
خامسًا: التحذير من غواية الشيطان، واحترام بعض القواعد والقيم والمثل والأخلاقيات التي لا تتعارض مع مبادئ الإسلام، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: « » (الرواي أبو هريرة، المحدث الألباني، خلاصة حكم الحديث صحيح). فقد أقر الإسلام تعظيم أهل الجاهلية للأشهر الحرم، وبين أنها حرام منذ أن خلق الله السموات والأرض، وبين أن أهل الجاهلية كانوا يقعون في النسيء وهو تأجيل الأشهر الحرم، أو أحدها ليكملوا القتال وهذا من وساوس الشيطان أو من النفس الإمارة بالسوء، فدعا الإسلام لتعظيم حرمات الله وترك النسيء كما قال تعالى في سورة التوبة: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
كما أقر الإسلام أهل الجاهلية على تعظيم مكة المكرمة، وبين فضل مكة ومنزلتها بل قد تفضل الله سبحانه فجعل مكة حرما آمنًا، فحرم الاعتداء والعدوان في مكة حتى على الشجر والنباتات النافعة، وحرم ترويع الآمنين حتى الحيوانات غير الضارة.
وقد أقسم الله تعالى في كتابه الكريم بمكة المكرمة للدلالة على شرفها وعلو منزلتها وبيان مكانتها وأهميتها ومعرفة أنه جعل لها حرمة وتقديرًا أكثر من غيرها، والله عز وجل لا يقسم على مخلوق إلا لهذه الغاية: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1] .
وقد أحلها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ساعة واحدة من نهار يوم الفتح في شهر رمضان ليطهرها من الأصنام وليؤكد حرمتها بعد ذلك إلى يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (الرواي عبد الله بن عباس، المحدث الألباني، خلاصة حكم الحديث صحيح).
وجعل الله تعالى مكة تزداد شرفًا ومكانة بوجود الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: {وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 2]. ليفتحها ويطهرها ويرسخ دعائم التوحيد فيها ويضع القواعد والأسس الإسلامية من عدل ومساواة وينشر العفو والصفح والتسامح والسلام والأمن والرخاء الحقيقي.
سادسًا: استوصوا بالنساء:
فقد أمر الإسلام بالمحافظة على حقوق النساء، وديننا الإسلامي العظيم هو أول من أعطى المرأة حقوقها. فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « ». والمسلم يجب عليه الإحسان لزوجته، ولا يظلمها، ولا يقارنها بغيرها، فكل شخص له مميزات، وفيه عيوب، والكمال لله وحده، وهذا ما أرشد إليه الإسلام كما جاء في الحديث ِعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « » (رواه مسلم). لا يفرك أي: لا يكره أو يبغض أو يظلم، روى الترمذي عن أبي هريرة: « » (الرواي عائشة وأبو هريرة، المحدث الألباني، خلاصة حكم الحديث صحيح).
سابعًا: إنما المؤمنون إخوة:
ركز الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على هذا الرابط المهم ليتلاحم المؤمنون، ويرتبطوا برباط العقيدة، ويقدموه على غيره من روابط النسب والدم، وكان هذا الرابط من أهم دعائم قيام الدولة الإسلامية في المدينة بعد الهجرة، وقد اهتم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد بناء المسجد، وأرشدهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن يتعاملوا بروح الأخوة، وبالأخلاق المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ لقوله سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. وطلب الله عز وجل من موسى وأخيه هارون -عليهما السلام- أن يخاطبوا فرعون خطابًا لينًا بقوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلًا لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، فإذا كان الخطاب إلى فرعون خطابًا لينًا، فكيف يكون خطاب المسلمين بعضهم لبعض. فلا بد من تقديم الرفق والحلم والرحمة والذلة فيما بينهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} [المائدة: 54]. لقد وصف القرآن الكريم النبي محمدًا عليهم الصلاة والسلام وأصحابه الكرام رضوان الله عليهم بأنهم متراحمون فيما بينهم، أشداء على أعدائهم، بقوله سبحانه وتعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ألْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29]، هكذا يجب أن يكون المسلمون فيما بينهم في كل زمان ومكان، كما حذرهم النبي الخاتم بالعودة للإقتتال فيما بينهم: « ».
ثامنًا: الاعتصام بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة:
فالاعتصام بكتاب الله تعالى، والاقتداء والتمسك بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو النجاة، وهو السبيل الوحيد للخلاص، والعودة للعزة والقوة، والتقدم الحقيقي، وفي هذا تمسك بمنهج الإسلام القويم، المنهج الرباني الحصين، والاعتزاز به، والفخر بالانتساب إليه، وعدم اتباع منهج غيره من المناهج الأرضية البشرية، التي ثبت فشلها سواء بالتجربة أو بالدراسة.
وقد دعاهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الاتحاد والاعتصام بحبل الله تعالى: « » وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 87].
تاسعًا: رفع شعار المساواة بين الناس:
إن الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، وأنهم سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى، هذه القاعدة السامية التي أقرها الإسلام قبل خمسة عشر قرنًا، فهل يوجد نظام في العالم يطبق هذه القاعدة؟ فماذا نشاهد في هذه الأيام؟ نشاهد التمييز العنصري، ونرى القوانين الأرضية والابتعاد المتعمد عن القوانين الربانية، نشاهد التفرقة والتمييز على أساس غير التقوى، لقد ألغى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كل ألوان التمييز العنصري، وداس عليه بقدميه، وذلك قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، في حين أن بعض الدول التي تزعم أنها متقدمة لا زالت تفرق بين مواطنيها بحسب اللون أو الجنس، كما نرى الغطرسة والتجبر والتكبر من الدول الكبرى ضد الشعوب المستعمَرة والمستضعفة.
عاشرًا: احترام الحقوق وعدم الإجحاف في الوصية:
ولم ينس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوصي المسلمين بالتخلص من عادات الجاهلية في توزيع التركة، ودعاهم إلى احترام أحكام المواريث، وتقسيم الإرث بما شرع الله تعالى في كتابه للحفاظ على العلاقات الأخوية، وللبعد عن الظلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: « ».
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
- التصنيف: