من المدينة إلى العرصات دروس وهدايات

منذ 2023-09-24

في هذا المقال يصف النبي ﷺ حرصه يوم القيامة على أمته، فيجب علينا - عباد الله - أن نقابل هذا الحرص بمحبة نبينا ﷺ، وكثرة الصلاة والسلام عليه، والتأسي به، والاعتزاز بالاقتداء به، وأن نسير على نَهْجِهِ حتى نلقاه، ﷺ.

دُعِيَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى طعام في بيت من بيوتات المدينة، ومعه جمع من الصحابة رضي الله عنهم، فحدَّثهم بحديث عجيب، فلنترك لأبي هريرة رضي الله عنه الحديثَ ليقُصَّ علينا الخبر؛ فيقول: ((كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرُفِعَ إليه الذراع، وكانت تُعجبه فنَهَسَ منها نَهْسَةً، وقال: «أنا سيد القوم يوم القيامة، هل تدرون بِمَ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيقول بعض الناس: ألَا ترَون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغكم؟ ألَا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس: أبوكم آدم، فيأتونه، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألَا تشفع لنا إلى ربك؟ ألَا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: ربي غضب غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيتُه، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسمَّاك الله عبدًا شكورًا، أمَا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألَا ترى إلى ما بلغنا؟ ألَا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، ائتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتوني فأسجد تحت العرش، فيُقال: يا محمد، ارفع رأسك، واشفع تُشفَّع، وسَلْ تُعْطَه، فأرفع رأسي، فأقول: يا رب، أُمَّتي أمتي، فيُقال: يا محمد، أدْخِل الجنة من أمتك مَن لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لَكما بين مكة وهَجَر، أو كما بين مكة وبصرى»؛ (متفق عليه).

 

وفي هذ الخبر العظيم - عباد الله - دروس وهدايات؛ منها:

أولًا: حبُّ الصحابة للنبي صلى عليه الله وسلم، وقربهم منه، ومعرفتهم لِما يحبه ويعجبه، وهو درس لنا أن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نتلمس ما يحبه فنحبه ونعمل به.

 

ثانيًا: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وانبساطه لأصحابه، ومشاركته لهم في الطعام والشراب، وعدم تميزه عنهم، وهو درس لأتباعه أن يتأسَّوا به في هذا الخُلُق العظيم؛ فعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:  «... وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله»؛ (رواه مسلم).

 

ثالثًا: جواز الحديث على الطعام، وتعليم العلم، وإيراد القصص والأخبار، فها هو صلى الله عليه وسلم يستغل الفرص، ويستثمر الأوقات لتعليم الصحابة، ووعظهم، وتذكيرهم باليوم الآخر.

 

رابعًا: علو منزلة النبي صلى عليه وسلم؛ قال النووي: "والحكمة في ‌أن ‌الله ‌تعالى ‌ألهمهم ‌سؤال ‌آدم ومن بعده صلوات الله وسلامه عليهم في الابتداء، ولم يُلهَموا سؤال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي إظهار فضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم لو سألوه ابتداءً، لكان يحتمل أن غيره يقدر على هذا ويحصله، وأما إذا سألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه فامتنعوا، ثم سألوه فأجاب وحصل غرضهم، فهو النهاية في ارتفاع المنزلة، وكمال القرب، وعظيم الإدلال والأنس، وفيه تفضيله صلى الله عليه وسلم على جميع المخلوقين من الرسل والآدميين والملائكة".

 

خامسًا: عظم أهوال يوم القيامة وشدة كربه؛ تأمل قول رسل الله عليهم الصلاة والسلام: (نفسي نفسي نفسي)، كلهم يريد نجاة نفسه، وكلهم يرهَب هولَ ذلك، فحرِيٌّ بالعاقل اللبيب أن يخاف هذا الموقف، ويعد له العدة: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].

 

سادسًا: إثبات صفة الغضب لله تعالى على ما يليق بجلاله وعزته سبحانه، وعظم غضبه يوم القيامة؛ تأمل قول رسل الله عليهم الصلاة والسلام: «إن ربي غضِب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله» )، والعاقل - يا عباد الله - من تجنب أسباب غضب الله جل وعلا بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وكان حريصًا في الدنيا على الأعمال التي ترضي ربه سبحانه، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

 

سابعًا: تعظيم الرسل عليهم السلام لربهم وإجلالهم له، وخوفهم من غضبه سبحانه، وخوفهم من الذنب والخطيئة، فها هم يخافون من ذنوب قد غفرها الله لهم؛ فهذا آدم عليه السلام يقول: (وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت)،وهذا إبراهيم قوله: (إني كذبت ثلاث كذبات)؛ اثنتين منها في الله؛ وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وأما الثالثة، فهي قوله لسارة: أختي؛ يعني في الإسلام، وليست بكذب حقيقة، لكن لما كانت بصورة الكذب، سماها كذبًا؛ تأمل قوله عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]؛ قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "لم تكن ‌كذبات، ‌لكنه ‌لشدة ‌ورعه ‌وحيائه ‌من ‌الله تبارك وتعالى، اعتذر لهذا الإثم، ويقول: (نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى)"[1].

 

فحُقَّ لنا عباد الله أن نتأسى برسل الله عليه السلام في خوفهم من الذنوب والمعاصي، وأن نقلع عنها، ونبادر بالتوبة منها، لنكون من الآمنين يوم القيامة؛ وممن قال الله عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 101 - 103].

 

ثامنًا: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وحرصه على نجاتهم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقد ضرب صلى الله عليه وسلم لذلك مثلًا فقال:  «إنما مَثَلي ومَثَلُ الناس كمثل رجل استوقد نارًا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يَقَعْنَ فيها، فجعل ينزعهن ويغْلِبْنَه فيَقْتَحِمْنَ فيها، فأنا آخِذٌ بحُجَزِكم عن النار، وهم يقتحمون فيها»؛ (متفق عليه)

وها هو صلى الله عليه وسلم يصف حرصه يوم القيامة على أمته فيقول:  «فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يُقال: يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَهْ، واشفع تُشفَّع، فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب»، فيجب علينا - عباد الله - أن نقابل هذا الحرص بمحبة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكثرة الصلاة والسلام عليه، والتأسي به، والاعتزاز بالاقتداء به، وأن نسير على نَهْجِهِ حتى نلقاه، عليه الصلاة والسلام.

 


[1] شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (6/ 703).

  • 2
  • 0
  • 550

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً