السلام اليهودي .. القاتل .. العجيب!!
إن الذين يفكرون في السلام مع اليهود عليهم أن يستعدوا للتنازل عن إسلامهم وعروبتهم، فالعولمة الصِّهيوينة الماسونية لا تعترف بولاء الدين أو الوطن، فالولاء يجب أن يكون لها وحدها، وهي لا تتنازل ولا ترحم، فهي تعيش المرحلة التي أشار إليها القرآن: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}
من المعروف أن إقامة (سلام) بين دولتين متحاربتين يعني حصول الطرفين على فوائد متكافئة أو شبه متكافئة، ولا سيما إذا كان هذا السلام لم يقع نتيجة (الاستسلام القهري) الذي قد تُمليه الظروف العسكرية، على غرار استسلام اليابان بعد ضربها بالقنابل الذرية الأمريكية في هيروشيما ونجازاكي في السنة الأخيرة للحرب العالمية الثانية (1945م)، أو على غرار استسلام ألمانيا في الحرب الثانية أيضًا بعد هزيمتها وانتحار (هتلر)، وإعلانها الاستسلام الكامل أمام قوات الحلفاء!
ومع هذا الاستسلام الكامل من قِبَل اليابان وألمانيا وخضوعهما لمعظم الشروط المفروضة، إلا أن الدولتين المهزومتين نجحتا في الاحتفاظ ببعض الحقوق التي لم يجد الطرف المنتصر فيها كبير خطر على مستقبله وسيادته، وبالتالي فقد نجحت اليابان وألمانيا - من خلال المساحة المتاحة - أن تُصبحا دولتين كبيرتين، وأن تشكِّلا تهديدًا (اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا) للطرف المنتصر الذي كان يظن أن نزْع السلاح، وفرْض حظر التسليح المتقدم والذري على الدولتين، سيضمن له سيادته المطلقة، وما أدرك أن السباق في عصرنا غير محكوم بطريق واحد، فثمة قوى (علمية) قد تجعل (المنهزم السابق) في وضعٍ أفضل بكثيرٍ من وضع المنتصر المغرور!
♦ ♦ ♦ ♦
• لنتذكر هذه البديهيات التي رأيناها رأي العين والعلْم اليقيني، ولنُقارن بين هذا السلام الذي تحقق بعد استسلام كاملٍ في معارك كبرى معروفة، وفي ظل قهر سياسي وعسكري ودمار شامل، وبين السلام العربي الإسرائيلي الذي بدأ يأخذ مجراه الخطير منذ قرر (رجل واحد) - هو الرئيس المصري محمد أنور السادات - أن ينفرِد بالرأي، وأن يزورَ إسرائيل زيارة أطلق عليها شعارًا ككل الشعارات الثورية (هجوم السلام)، ومن ثم دخلت (مصر المنتصرة) - بالتعاون العربي الكبير بالروح الإسلامية، وبالتلاحم الكامل بين الشهيد الملك فيصل والرئيس السادات - دخلت المنتصرة (والتي لا زالت تحتفل بهذا النصر في السادس من أكتوبر وليس العاشر من رمضان من كل عام).
• دخلت مصر وهذا حالها - (وهو حال بعيد كل البعد عن ظروف اليابان وألمانيا) - في مفاوضات (السلام) المعروفة باتفاقية (كامب ديفيد)، والتي رعتها وأشرفت على مطبخها أمريكا بقيادة العجوز اليهودي (كيسنجر) وزير خارجية أمريكا آنذاك!
• وقالوا فيما قالوا: (لقد شبِعنا من الحروب، وأغلقنا باب الجهاد)، وإنَّ حربَنا هذه التي انتصرنا فيها هي (آخر الحروب)، قد قبلنا قبولاًَ إستراتيجيًّا (خيار السلام)؛ حتى يستطيع شعبنا الذي أنهكته الحروب أن يمضي في طريق التقدم والرخاء والازدهار!
• ومضت الأيام بعد نهاية العرس، وبدا لبعض الناس ما كان مستورًا؛ مما يفسر استقالة وزير الخارجية المصري (د/ إبراهيم كامل) استقالة تحمل وراءها معانيَ كثيرة.
وأصدر الرجل مذكراته، وتلقَّفها الناس، فكشَفت - في حدود المسموح - عن كثيرٍ، وأخفت مع ذلك كثيرًا.
وفي كل يوم يكتشف الناس أمرًا جديدًا وهم في شبه ذهول:
• إن بعض أرض مصر لا يملك المصريون حقَّ التجول فيها، وحتى توطينها أو استثمارها، لم يقع منه شيء، مع أن اليهود كادوا يستثمرونها في مدَّة احتلالهم القليلة!
• وبعض أرض مصر أشبه ما تكون بقرى سياحية، يُباح فيها ما لا يرضاه أيُّ دينٍ أو خُلقٍ، وما لا يجوز أن يقام مثله في إسرائيل، وهو لذلك منتجع يكاد يكون خاصًّا باليهود ومَن يسيرون وراء اليهود!
• وما تقدَّم الاقتصاد في شيء منذ (هجوم السلام)، بل انهارت الزراعة، فحِيلَ بيننا وبين الاكتفاء بالقمح، وفُرِض علينا أن نقتل عمود زراعتنا الذي كنا نسميه (الذهب الأبيض)، فمات القطن المصري بالتقسيط، وبالقهر الاقتصادي السياسي!
• وأما الزراعات الأخرى، فقد أصبحت حقول تجارب لقراصنة الزراعة والمفسدين في الأرض، ممن يدعون النبوغ الإسرائيلي، فلم يتركوا مبيدات فاسدة، ولا هرمونات قاتلة، ولا أساليب تصيب الأرض بالعُقم، إلا فعلوها، فانتشرت بين المصريين المساكين أمراض لا عهْد لهم بها، ولا سبيل لاستقصائها، وأصبحت الزراعة - بل والدواجن والثروة الحيوانية - وسائل للأمراض، وطريقًا إلى الموت، بدلاً من أن تكون وسيلة حياة وتنميةٍ، وصحة وسعادة!
ولا نريد أن نقف أكثر من هذا عند المكاسب المصرية، كذلك لن نقف عند المكاسب الإسرائيلية، فهي أكثر من أن تُحصر، وهي "أرباح" على كل المستويات؛ الثقافية، والاقتصادية، والسياحية "التي تكون غالبًا سياحة موجَّهة"!
• وحسبنا أن نقول: إن الشعب المصري المسكين لم يكسب أي شيء من هذا السلام اليهودي القاتل العجيب! والأرقام في كل المجالات موجودة بين أيدي الباحثين!
• وكل ما هنالك أن إسرائيل انفردت بالعرب تَلتهمهم قطعة، قطعة، وانفردت بالفلسطينيين تستأصِلهم وتَبيدهم في ظل اتفاقية السلام التي لا يُسمح فيها بأيِّ وقوف مع فلسطين أو الفلسطينيين، إلا (بالكلام) وببعض الغذاء والدواء! فاتفاقية السلام (مُعْتَقَلٌ) للطرف العربي، وإطلاق يد بلا حدود للطرف اليهودي!
♦ ♦ ♦ ♦
• وقد عجبتُ وأنا أقرأ تقريرًا أخيرًا صَدَرَ ضمن دراسة جيدة، قدَّمتها جريدة (العرب اليوم الأردنية) في ملحقها الأسبوعي الصادر بتاريخ (25/10/2004)، بمناسبة مرور عشر سنوات على توقيع معاهدة السلام الإسرائيلية مع الأردن، وذلك تحت عنوان (وادي عربة: عشر سنوات من السلام البارد).
• وفي هذا التقرير تنتهي الدراسة إلى النتائج نفسها التي انتهت إليها اتفاقية السلام مع مصر (كامب ديفيد)، فحالُ الجانب الأردني لا يختلف في شيء عن الجانب المصري إنْ لم يكن أكثر!
• يقول التقرير الذي أُعِدُّ كموضوع للغلاف بمناسبة مرور السنوات العشر على اتفاقية (وادي عربة الأردنية الإسرائيلية): "لقد انتهت سنوات وادي عربة العشر، ولدى السجون الإسرائيلية أسرى وسجناء أردنيون، لا زالت إسرائيل ترفض الإفراج عنهم، أو حتى الدخول في مفاوضات جادة لإطلاق سَراحهم، بينما لا يُوجد لإسرائيل أي سجينٍ في الأردن!
وانتهت سنوات (وادي عربة) العشر والميزان التجاري يَميل لصالح إسرائيل على حساب الأردن"!
• وانتهت سنوات (وادي عربة) العشر و(إسرائيل) تمنع انسياب بضائع الأردن للأشقاء الفلسطينيين في السلطة، بينما تقدم الأردن كل ما يمكنها تقديمه لانسياب البضائع الإسرائيلية لأسواق الأردن وأسواق غيرها من الدول!
• وانتهت سنوات (وادي عربة) العشر و(إسرائيل) ما زالت ترفض الانصياع لما يسمى القرارات الدولية وخارطة الطريقة التي أعلن الأردن عشرات المرات دعمَه ومساندته لها!
• ومرت سنوات (وادي عربة) العشر و(إسرائيل) ما زالت ترفض قيام الدولة الفلسطينية على التراب الوطني الفلسطيني، بالرغم من كل ما قدمه الأردن من مطالب ودعم وإسناد للأشقاء الفلسطينيين في هذا الإطار!
• وانتهت سنوات (وادي عربة) العشر و(إسرائيل) لم تحترم اتفاقها مع الأردن، فاعتدت ذات يوم على الأردن، حين قامت بتصفية حساباتها مع قادة حماس على الأرض الأردنية!
• وانتهت سنوات (وادي عربة) العشر ولا زالت عشرات الملفات والقضايا العالقة بين الأردن وإسرائيل يحول التعنُّت الإسرائيلي دون فتحها أو مناقشتها!
• وانتهت سنوات (وادي عربة) العشر، ولا زالت (إسرائيل) تلوِّث أجواء الأردن ومياهها، وتهدِّدها صباح مساء بمخلفات مفاعلها النووي ديمونة، بالرغم من أن الجزء الأكبر من نصوص الاتفاقية كان يتحدث عن البيئة وضرورة المحافظة عليها!
• وانتهت سنوات (وادي عربة) العشر و(إسرائيل) لا زالت ترفض العمل مع الأردن لجعْل المنقطة خالية من أسلحة الدمار الشامل التقليدية وغير التقليدية!
♦ ♦ ♦ ♦
إن الذين يفكرون في السلام مع اليهود عليهم أولاً أن يدرسوا ملف السلام اليهودي المصري - الأردني، وعليهم أن يعدوا أنفسهم لما هو أكبر، بمنطق العقل، فلو كان لدى اليهود أيُّ اعتراف بكلمة السلام، لقدموا لها أفضل ما عندهم مع مصر والأردن؛ إغراءً للآخرين!
• وعليهم أن يتذكَّروا الأرقام المخيفة للهيمنة الصِّهيونية على كل المواقع الحساسة السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية في أمريكا، ولن يكون حالهم بالطبع أحسن من حال أمريكا!
• وعليهم أن يستعدوا للتنازل عن إسلامهم وعروبتهم، فالعولمة الصِّهيوينة الماسونية لا تعترف بولاء الدين أو الوطن، فالولاء يجب أن يكون لها وحدها، وهي لا تتنازل ولا ترحم، وليس هناك ما يدعوها لأية تنازُلات، فهي تعيش المرحلة التي أشار إليها القرآن: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4].
• وعليهم في المقابل ألا يسمحوا لمصطلح (الجهاد) يظهر من جديد، وإلا فالرمي بالإرهاب جاهز ومعلَّب.
عبد الحليم عويس
باحث أكاديمي متخصص في دراسة التاريخ والحضارة، وقدم العديد من الدراسات والأبحاث العلمية للمكتبة العربية