صبر جميل

منذ 2023-11-28

إن الصابر على البلاء يرى بعين قلبه ما لا يراه الناس بأعين رأسِهم، ويُدرك ببصيرته النافذة ما لا يُدركه القاصرون بعقولهم المحدودة.

إنه الدواء حين يستحكم الداءُ، والنور المبين الذي يُبدِّد حالِكَ الظلماء، إنه الصبر الجميل؛ فلا جزع ولا تسخُّط، ولا شكوى ولا تبرُّم؛ بل رضًا عن الله بحُسْن التدبير، بلا اعتراضٍ على حكمةٍ منه أو تقدير، إنه قوة القلب وبلسمٌ لجروحه.

 

أيخطئك ما كتب الله له أن يُصيبك، أو يصيبك ما كتب الله له أن يخطئك؟!

حين تُغلَق في وجهك كُلُّ الأبواب، وتنقطع عنك كُلُّ الأسباب، وحين تتوالى عليك الشدائدُ والصعاب؛ فلا تفقد صوابَك، ولا تخرج عن حلمك، ولا يَلن عزمُك، ولا تضعُف بالله ثِقَتُكَ سيعوِّضُك خيرًا مما فقدْتَ، فَطِبْ نَفْسًا وقرَّ عينًا، واهدأ بالًا.

 

إن الصابر على البلاء يرى بعين قلبه ما لا يراه الناس بأعين رأسِهم، ويُدرك ببصيرته النافذة ما لا يُدركه القاصرون بعقولهم المحدودة.

 

إنه برد اليقين، والثقة المطلقة بربِّ العالمين، والاعتصام بحبله المتين، فمن ذا يكشف البلوى سواه؟! ومن ذا يزيح الهمَّ إلَّاه؟!

إنها القوة رغم عوامل الضَّعف، والثبات رغم النائبات، وإن البلاء الذي يهزُّ الأجساد ويزلزل العقول، ما كان أبدًا ليكسر رُوحًا وجدت إيمانها بباريها، واعتصمت بخالقها وهاديها.

 

كم ابتُلي الأنبياء فصبروا! وكم أُوذُوا في ذات الله فما ضجروا! وكم أوذِي السابقون الأوَّلُون من المهاجرين، فما وهنوا ولا تذمَّرُوا!

اصبر على الطاعة حتى تؤدِّيَها، وعن المعصية حتى تجتنبها مهما اشتدَّتْ في نفسِك دواعيها،

اصبر على باعث الهوى ومقتضياته، ودواعي الطبع ومشتهياته، فللبدن صَبْرٌ كما للنفس والرُّوح،

 

واعلم أن أفضل الأعمال عند الله ما أكرهت نفسَكَ عليه، فقد «حُفَّتِ الجنةُ بالمكاره»، إنها جنة عرضها السماوات والأرض، ألا تستحق الصبر من أجلها ساعة؟!

 

اصبر في غناك وفقرك، وفي قوَّتِك وضَعْفِكَ، وفي عِزِّكَ وذُلِّكَ، وفي صحَّتِك وسَقَمِكَ، وقل دائمًا لنفسك: {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51]، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]؛ فعلامَ الجزع إذًا؟!

 

انظر إلى نهاية طريق صبرك تسلك أوَّلَه، خفِّف عن صدرك ثقلَ الهمِّ وكآبة الحزن، وافتَح نوافذ قلبك المثقلة؛ ليتسرَّب إليها شعاعُ الأمل، فيغلب اليأسَ بداخلها.

 

أخمِدْ نيران صدرك الملتهب، وفكرك المتَّقِد، ونفسك المشتَّتة بجميل الرضا، وحُسْن الصبر على ما قدره الله وقضى، اسكب على قلبك سكينةً وهدوءًا تطفئ لظى آلامِكَ، وتُواسي كليم جِراحِكَ.

 

ارسم ابتسامةً مشرقةً متفائلةً على جبينك الوضَّاء، واخرج للناس بنفسٍ راضيةٍ، ورُوحٍ مفعمةٍ بالحياة، إنه فنُّ التفوُّق على الألم، والتعالي على الجراح، ستصبر مختارًا أو مضطرًّا؛ فلمَ لا تختار الأولى، فترجع بطيب الذكر وعظيم الأجر؟!

 

إنها فرصة لتراجع حساباتك، وترجع لمولاك الرحيم، وربِّك العظيم، الجأ إليه واطَّرِح بين يديه، واضرَع صادقًا بالدعاء إليه، واقطَع كلَّ العلائق إلا معه، يكشف ضُرَّكَ، ويُفرِّج كرْبَكَ، ويُخرجك من ضيق الحياة وهمومها إلى سَعة الآخرة ونعيمها.

 

توكَّل عليه، وأحسِن الثقة بأقداره، ولا ينقطع فيه رجاؤك، ولا تيئس من رحمة اللهِ آمالُك.

اللهم اجعلنا من الذين صبروا ابتغاءَ رضوانك، فتنادينا ملائكتُكَ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24].

___________________________________________________
الكاتب: د. أسماء جابر العبد

  • 5
  • 0
  • 487

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً