فإنها محرمة عليهم أربعين سنة

منذ 2023-12-26

يقول تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26].

يقول تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26].

 

قال ابن كثير: "إن الله قد عاقبهم بعدم الخروج من المكان الذي كانوا فيه وكأنهم محاصرون، وذلك عندما أحجموا عن الجهاد مع موسى عليه السلام، فدعا عليهم قائلًا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، وظلوا على هذه الحال من التِّيه أربعين عامًا كاملة، يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج، وفيه كانت أمور عجيبة، وخوارق كثيرة، من تظليلهم بالغمام، وإنزال الْمَنِّ والسلوى عليهم، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صمَّاء تُحمل معهم على دابة، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عينًا تجري، لكل شعب عينٌ، وغير ذلك من المعجزات التي أيَّد الله بها موسى بن عمران، وهناك أُنزلت التوراة، وشُرِعت لهم الأحكام، وعُمِلت قبة العهد، ويقال لها: قبَّة الزمان، ويحسُن بنا هنا أن نذكر الجزء الخاص بموضوعنا من حديث الفتون الجامع لكل تلك الأحداث التي وردت في الكتاب.

 

حديث الفتون: كثيرٌ من العلماء لهم فيه رأي مفاده أنه مما سمعه ابن عباس من كعب الأحبار، ولا يرَون أنه يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومما قِيل عن صحته: قال الهيثمي في (مجمع الزوائد): "رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير أصبغ بن زيد، والقاسم بن أبي أيوب، وهما ثقتان، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين، وأصبغ بن زيد: تكلم فيه بعض الأئمة، ووثَّقه كثيرون، ولعله لذلك قال الذهبي: فيه لِينٌ، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يُغرب".

 

وقال ابن كثير في (البداية والنهاية): "رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير، وابن أبي حاتم في تفسيريهما، كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس، رضي الله عنه مما أُبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره، والله أعلم، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج الْمِزِّي يقول ذلك أيضًا، فالأغلب أنه من كلام كعب الأحبار".

 

وجاء في حديث الفتون: ذكر الفتن التي عرَضت لموسى من نجاته من الذبح وهو صغير، وقتله لرجل من قوم فرعون وغيره.

 

جاء في بدايته القول عن سعيد بن جبير قال: سألت عبدالله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، فسألته عن الفتون: ما هو؟ فسرد عليه معظم ما عرَض لسيدنا موسى عليه السلام من الفتن، وقد نجاه الله منها، حتى قوله: لما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [الأعراف: 156، 157].

 

قال موسي: يا ربِّ، سألتك التوبة لقومي، فقلتَ: إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخرتني حتى تُخرِجَني في أمة ذلك الرجل المرحوم، فقال له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقِيَ من والد وولد، فيقتله بالسيف، ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن، وتاب أولئك الذين كان خفِيَ على موسى وهارون أمرهم، وأطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها، وفعلوا ما أُمروا، وغفر الله للقاتل والمقتول، ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهًا نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أُمِرَ به من الوظائف، فثقُل ذلك عليهم، وأبَوا أن يُقِرُّوا بها، ونَتَقَ الله عليهم الجبل كأنه ظُلَّة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم، وأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مُصغُون، ينظرون إلى الجبل، والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضَوا حتى أتَوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون، خَلْقُهم خَلْقٌ مُنْكَر، وذكر من ثمارهم أمرًا عجبًا من عظمها، فقالوا: يا موسى إن فيها قومًا جبارين لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها {فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} [المائدة: 22، 23]، قال: نعم، من الجبارين، آمنا بموسى وخرجنا إليه.

 

فقالوا: نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنهم لا قلوب لهم، ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون.

 

ويقول أناس: إنهم من قوم موسى، فقال الذين يخافون من بني إسرائيل: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، فأغضبوا موسى، فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدعُ عليهم قبل ذلك، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذٍ، فاستجاب الله لهم، وسمَّاهم كما سماهم موسى فاسقين، فحرَّمها عليهم أربعين سنة، يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار.

 

ثم ظلَّل عليهم الغمام في التِّيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابًا لا تَبْلَى ولا تتَّسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجرًا مربعًا، وأمر موسى فضربه بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، في كل ناحية ثلاثة أَعْيُنٍ، وأعْلَمَ كلَّ سبط عينَهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من محله إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالمنزل الأول بالأمس.

 

ثم يقول ابن كثير في التفسير:

ثم كانت وفاة هارون عليه السلام، ثم بعده بمدة ثلاثة سنين مات موسى الكليم عليه السلام، وأقام الله فيهم يوشع بن نون عليه السلام نبيًّا خليفة عن موسى بن عمران، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة، ويُقال: إنه لم يبقَ منهم أحد سوى يوشع وكالب، ومن ها هنا قال بعض المفسرين في قوله: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 26]، هذا وقف تام، وقوله: {أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: 26] منصوب بقوله: {يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]، فلما انقضت المدة، خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام، أو بمن بقِيَ منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، فلما تضيفت الشمس للغروب، وخشِيَ دخول السبت عليهم قال: إنكِ مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ، فحبسها الله تعالى حتى فتحها، وأمر الله يوشع بن نون أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سُجَّدًا، وهم يقولون: حِطَّة؛ أي: حُطَّ عنا ذنوبنا، فبدَّلوا ما أُمروا به، فدخلوا يزحفون على أسْتاهِهم، وهم يقولون: حبة في شعرة، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.

 

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني، حدثنا سفيان عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قوله: "فوجد فيها – أي الأرض المقدسة - من الأموال ما لم يرَ مثله قط، فقربوه إلى النار فلم تأتِ فقال: فيكم الغُلُول، فدعا رؤوس الأسباط وهم اثنا عشر رجلًا فبايعهم، والتصقت يد رجل منهم بيده، فقال: الغلول عندك، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب، لها عينان من ياقوت، وأسنان من لؤلؤ، فوضعه مع القُربان، فأتَتِ النار فأكلتها.

 

وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما، فيما أمرهم به من الجهاد، فضعُفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظْهُرِهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وكليمه، وصفيَّه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعِدهم بالنصر والظَّفَر بأعدائهم، هذا وقد شاهدوا ما أحلَّ الله بعدوِّهم فرعون من العذاب والنَّكال والغرق له ولجنوده في اليم، وهم ينظرون لتَقَرَّ به أعينهم وما بالعهد من قدمٍ، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عُدَّة أهلها وعددهم، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل، ولا يسترها الذيل، هذا وهُمْ في جهلهم يعمهون، وفي غَيِّهم يترددون، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه، ويقولون مع ذلك: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، فقبَّح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود، وألزمهم لعنة تَصْحبهم إلى النار ذات الوقود، ويُقضى لهم فيها بتأبيد الخلود، وقد فعل، وله الحمد من جميع الوجود.

 

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]، وهكذا أسلمهم الله - وهم على أبواب الأرض المقدسة – للتيه، وحرم عليهم الأرض التي كتبها لهم، والأرجح أنه حرمها على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة، وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل، جيل يعتبر بالدرس، وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها، صلب العود، جيل غير هذا الجيل الذي أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر، فلم يعُد يصلح لهذا الأمر الجليل، والذل والاستعباد والطغيان يفسد فطرة الأفراد كما يفسد فطرة الشعوب، ويتركهم السياق هنا - في التيه - لا يزيد على ذلك، وهو موقف تجتمع فيه العبرة النفسية إلى الجمال الفني، على طريقة القرآن في التعبير.

 

ولقد وعى المسلمون هذا الدرس - مما قصه الله عليهم من القصص - فحين واجهوا الشدة وهم قلة أمام نفير قريش في غزوة بدر، قالوا لنبيهم صلى الله عليه وسلم: إذًا لا نقول لك يا رسول الله ما قاله بنو إسرائيل لنبيِّهم: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، لكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا فإننا معكما مقاتلون، وكانت هذه بعض آثار المنهج القرآني في التربية بالقصص عامة، وبعض جوانب حكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل.

 

وجاء عن ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير: وقول الله تعالى له: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: 26]، جواب عن قول موسى: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25]، وهو جواب جامع لجميع ما تضمنه كلام موسى؛ لأن الله أعْلَمَ موسى بالعقاب الذي يصيب به الذين عصوا أمره، فسكن هاجس خوفه أن يصيبهم عذاب يعم الجميع، وحصل العقاب لهم على العصيان انتصارًا لموسى، فإن قلت: هذا العقاب قد نال موسى منه ما نال قومه، فإنه بقِيَ معهم في التيه حتى تُوفِّيَ، قلت: كان ذلك هينًا على موسى؛ لأن بقاءه معهم لإرشادهم وصلاحهم وهو خصيصة رسالته، فالتعب في ذلك يزيده رفع درجة، أما هم فكانوا في مشقة.

 

{يَتِيهُونَ} [المائدة: 26] يضلون، وقد بقِيَ بنو إسرائيل مقيمين في جهات ضيقة، ويسيرون الهوينا على طريق غير منتظم، حتى بلغوا جبل نيبو على مقربة من نهر الأردن، فهنالك تُوفِّيَ موسى عليه السلام وهنالك دُفن، ولا يُعرَف موضع قبره كما في نص كتاب اليهود، وما دخلوا الأرض المقدسة حتى عبروا الأردن بقيادة يوشع بن نون خليفة موسى، وقد استثناه الله تعالى هو وكالب بن يفنة؛ لأنهما لم يقولا: لن ندخلها، وأما بقية الرواد الذين أرسلهم موسى لاختبار الأرض فوافقوا قومهم في الامتناع من دخولها.

 

وقوله: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26] تفريع على الإخبار بهذا العقاب؛ لأنه علِم أن موسى يُحزنه ذلك، فنهاه عن الحزن؛ لأنهم لا يستأهلون الحزن لأجلهم لفسقهم، والأسى: الحزن، يُقال: أسِيَ كفرِح إذا حزن.

 

ويقول الشيخ الشعراوي رحمه الله:

{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26].

 

فهل كان التحريم مدته أربعون عامًا، أو أنه قال: إنها محرمة عليهم، وانتهى الأمر؛ لأنهم تأبَّوا على أن يدخلوها؟ ولذلك فكل الذين قالوا: لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها لم يعِشْ منهم أحد ليدخل هذه الأرض، وبعد ذلك صدر الحكم الآتي: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]، فهل هذا القول هو استئناف للقول السابق، فيكون ظرفًا لـ {مُحَرَّمَةٌ}، أو هو حكم منفصل؟

 

تصح هذه، وتصح تلك، والتيه هو كما نقول: فلان تاه؛ أي: سار على غير هدًى، ولا يعرف لنفسه مدخلًا ولا مخرجًا، والواحد عندما يدخل في مجال متشعب المسالك، ومتعرج الطرقات، فهو لا يعرف كيفية الخروج منه، هذا هو التيه، ولكن كم فرسخًا هي مساحة التيه؟ حددها العلماء بستة فراسخ، والفرسخ قدر ثلاثة أميال، كيف يتيهون في تلك المساحة الضيقة من الأرض؟ لقد أراد الله ذلك؛ لأنهم ساعة يمشون ويرهقون فينامون، ويأتي عليهم الصباح ليجدوا أنفسهم عند النقطة التي بدؤوا منها، وكانوا يضعون العلامات لإيضاح الطريق، لكنهم كل صباح كانوا يجدون العلامات قد انتقلت من مكانها، وظلوا على هذا الوضع وفي هذا التيه إلى الأمد والوقت الذي حدده الله، وهو أربعون سنة، يتيهون في الأرض، وحين يؤدب الله عاصيًا يحفظ له من القوت والرزق ما يُبقي به حياته ولو كان كافرًا؛ لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، ولهذا لم يضنَّ عليهم في التيه بما لم يضن به على الكافرين به سبحانه.

 

إذًا حفظ الحياة أمر ضروري، وعندما يرتكب إنسان ما ذنبًا كبيرًا في حق المجتمع، فإننا نضعه في السجن، ولكننا نطعمه ونسقيه، وعندما يرتقي المجتمع الإنساني، فهو يوفر للسجين عملًا يتناسب مع مواهبه، ويحبس عنه حرية الحركة في المجتمع، والسجين المذنب يظل في السجن، ولكنه يأكل ويشرب وينام ويعمل، فقط تختلف المسألة في النقطة المهمة في الحياة؛ وهي أن يتحرك المتحرك وفق حريته، فما بالنا بالحق الأعظم عندما سجنهم في التيه؟ لقد أطعمهم الله وسقاهم، وأنزل عليهم المن والسلوى.

 

وقد يقول قائل: إن الله قد أنزل عليهم المن والسلوى ليعيشوا كسالى وغرقى في التكبر والغرور، ونقول: لا، فذلك الإجراء الإلهي من ضمن حِكَمِه البالغة أن يطيل عليهم الوقت، فلو أنه سبحانه وتعالى قد جعلهم يزرعون ويحرثون، لانشغلوا بأمور الحياة اليومية، لكن الحق أراد أن يطيل عليهم الإحساس بالزمن، فالمسألة ليست طعامًا وشرابًا، ولكن هناك كرامة فوق الطعام وفوق الشراب، إذًا أراد الحق لهم عقابًا صارمًا في فترة التيه؛ ولذلك نجد بعضهم يحسب المسألة والزمن في فترة التيه، فيقول الواحد منهم ما ذكره الحق: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} [الأعراف: 142]، فعاقبهم ربهم على كفرهم أربعين سنة، كأن كل يوم من عبادة العجل صار سنة من العقاب في التيه، ولأنه رب ورحيم لم يتركهم دون أن يحفظ لهم حياتهم بالقوت، فكان القوت هو المن والسلوى.

 

هل كان موسى عليه السلام معهم في التيه أم لا؟ وهل مات معهم في التيه أم لا؟ تلك أسئلة لا تهمنا الإجابة عنها بالرغم من أن بعض العلماء قد شغلوا أنفسهم بها، فتلك أمور لا تنفع ولا تضر، المهم أن بني إسرائيل لم يدخلوا أريحا إلا على يد يوشع بن نون بعد الأربعين سنة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25، 26].

 

ولنا أن نقرأ هذا القول الحكيم كما يلي: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 25، 26]، وهذا الوقف يعطينا الفهم بأن الأرض المقدسة صارت محرمة عليهم إلى الأبد، وبعد ذلك يأتي أمر الله بعقابهم في التيه أربعين سنة: {أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]، أمَّا لو قرأنا هذا القول الحكيم بالوصل كما يلي: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25، 26]، فهذه القراءة تتيح لنا الفهم بأن مدة العقوبة لهؤلاء القوم الفاسقين أربعون سنة في التيه، ودخلوا بعدها مدينة أريحا.

 

ويأمر الحق موسى ألَّا يحزن على هؤلاء القوم الفاسقين؛ ذلك أن موسى عليه السلام عندما دعا الله بقوله: {فَافْرُقْ بَيْنَنَا} [المائدة: 25]، انتابه قدر من الضيق من هذا الدعاء، وقال لنفسه: لماذا لم أدعُ لهم بالهداية بدلًا من أن أدعو بالفراق؟ ولذلك قال له الحق: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]؛ أي: فلا تحزن عليهم؛ لأنهم أولَى بالعذاب لفسقهم ومخالفاتهم.

_________________________________________________
الكاتب: عصام الدين أحمد كامل

  • 1
  • 0
  • 997

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً