الإيجابية
القرآن الكريم مليء بالأمثلة الإيجابية، بل إن المُتتبِّع للقرآن الكريم يجد أن مِن أكثر الأمثلة ضربًا في القرآن هي الإيجابيَّة.
1 - معنى الإيجابية:
يُعرِّف البعض الإيجابية بأنها:
اندِفاع الإنسان الذاتي الناشِئ عن استقرار الإيمان في قلبه، لتكييف الواقع الذي مِن حوله وتغييره وتبديلِه إن لَزِم الأمر؛ لكي يُطابِق الواقع الإيجابي الذي في حسِّه، أو قل: هو الحافز الذي يَدفع بطاقة الإنسان لأداء عمل معيَّن؛ للوصول إلى غاية محدَّدة، مُحتمِلاً كافَّة الصِّعاب لتحقيق الهدف[1].
مِن هنا نُعرِّف الرجل الإيجابيَّ بأنه رجل لا يهدأ له بال، ولا تَنطفِئ له جَذوة، ولا يكلُّ ولا يملُّ؛ حتى يُحقِّق هدفه الذي يَسعى إليه وغايتَه المنشودة.
قال الشاعر:
أحزانُ قَلبي لا تَزولْ *** حتَّى أُبشَّر بالقَبـــولْ
وأرى كتابي باليمينْ *** وتقرَّ عَيْني بالرَّسولْ
2- القرآن والإيجابية:
القرآن الكريم مليء بالأمثلة الإيجابية، بل إن المُتتبِّع للقرآن الكريم يجد أن مِن أكثر الأمثلة ضربًا في القرآن هي الإيجابيَّة.
مؤمِن ياسين:
قال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 20 - 25].
إنها استجابة الفِطرة السليمة لدعوة الحق المُستقيمة؛ فيها الصدق، والبساطة، والحَرارة، واستِقامة الإدراك، وتلبية الإيقاع القويِّ للحق المبين، فهذا رجل سَمع الدعوة فاستجاب لها بعدما رأى فيها مِن دلائل الحقِّ والمَنطِق ما يتحدَّث عنه في مقالتِه لقومه، وحينما استشعَر قلبُه حقيقة الإيمان، تحرَّكت هذه الحَقيقةُ في ضميره فلم يُطقْ عليها سكوتًا، ولم يقبَع في داره بعقيدته وهو يرَى الضَّلال مِن حوله والجُحود والفُجور، ولكنه سعى بالحق الذي استقرَّ في ضميره وتحرَّك في شُعوره، وظاهرٌ أن الرجل لم يكن ذا جاهٍ ولا سُلطان، ولم يكن في عزوة من قومه أو منَعة مِن عشيرته، ولكنها العقيدة الحيَّة في ضميره تَدفعُه وتجيء به مِن أقصَى المدينة إلى أقصاها[2].
مؤمن آل فرعون:
قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28].
انتدب الله - عزَّ وجل - رجلاً مِن آل فرعون، وقع الحق في قلبه، ولكنه كتَم إيمانه، انتدب يدفَع عن موسى، ويَحتال لدفع القوم عنه، ويَسلُك في خطابه لفرعون وملَئِه مسالكَ شتَّى، ويتدسَّس إلى قلوبهم بالنصيحة، ويُثير حساسيتها بالتخويف والإقناع، إنها جَولة ضخمَة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المُتآمِرين مِن فرعون وملئه، وإنه مَنطِق الفِطرَة المؤمنة في حذر ومَهارة وقوة كذلك، وقد سجَّل مؤمن آل فرعون كلمته الحق خالدة في ضمير الزمان[3].
إيجابية هدهد:
قال تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 20 - 26].
ونحن نجد أنفسنا أمام هُدهدٍ عجيب، صاحب إدراك وذكاء وإيمان، وبَراعة في عرض النبأ، ويقَظة إلى طبيعة مَوقفِه، وتلميح وإيماء أريب، فهو يُدرِك أن هذه مَلِكَة وأن هؤلاء رعيَّة، ويُدرِك أنهم يَسجُدون للشمس من دون الله، ويُدرِك أن السجود لا يكون إلا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وأنه هو ربُّ العرش العظيم، وما هكذا تُدرك الهداهد، إنما هو هدهد خاص أوتي هذا الإدراك الخاصَّ، على سبيل الخارِقة التي تُخالِف المألوف، ولكن الأعجب من ذلك المجهود الجبَّار الذي قام به الهُدهد، ولكي ترى كم مِن المسافات قطَع، وكم مِن الجهْد بذَل وضحَّى، لك أن تَعرِف أن مملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن فقطع الهدهد هذه المسافات الشاسِعة والفيافي وبلَّغ قائده بما رأى[4].
3 - إيجابيَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -:
قال ابن عمر: "ما رأيت أشجع، ولا أنجَد ولا أجوَد، ولا أرضى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، وقال علي - رضي الله عنه -: "إنَّا كنَّا إذا اشتدَّ البأس واحمرَّت الحدق، اتَّقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتُني يوم بدر ونحن نَلوذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أقرَبُنا إلى العدو، وكان مِن أشدِّ الناس يومئذٍ بأسًا"، وقال أنس - رضي الله عنه -: "كان - عليه الصلاة والسلام - أشجَع الناس، وأحسنَ الناس، وأجوَد الناس، لقد فَزِع أهل المَدينة ليلةً، فانطلَق ناسٌ قِبَلَ الصوت، فتلقَّاهم - عليه الصلاة والسلام - راجعًا قد سبَقهم إلى الصَّوت، واستبرأ الخبَر على فرس لأبي طلحة عُرْي والسيف في عُنقِه وهو يقول: «لن تُراعُوا»"[5].
وعندما نعيش مع سنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نجد الحثَّ على الإيجابيَّة والإرشاد إليها، ومِن ذلك:[6] قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة مِن أمَّتي ظاهِرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خالفهم ولا مَن خذَلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»[7]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلمه»[8]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بلِّغوا عنِّي ولو آية»[9]، بل في أمور الدنيا يأتيه سائل يَطلُب عونًا فيُرشِده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إيجابيَّة العمل، فيَبيع ما عنده مِن مَتاعٍ بدرهمَين ويَشتري له أدوات جمْع الحطَب بدِرهَم، وطلَب منه أن يُعطي أهله الدِّرهَم الآخَر فيَحتطِب؛ فهو خير له مِن سؤال الآخَرين[10].
4 - وسائل تُحقِّق الوصول إلى الإيجابية:
• فرديَّة التكليف؛ وذلك بأن يَستشعِر مسؤوليَّته كفرْد عمَّا أمَر الله ونهَى، وأنه يُحاسَب فردًا، وأنه ومَن حوله مسؤولون مثله إلا أن القاعدة: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، وقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13-14].
إن هذا الإحساس بالمسؤولية يجعل المسلم يقوم بواجبِه نحو ما أمرَه الله به، وإن كان مِن ضمْن واجبات المسلم التزام الجَماعة ودعوة الغير، ولكن تَقصير الغير لا يعدُّ مُبرِّرًا لأن يُقصِّر.
• عدم استِصغار العمل أو النظر إليه على أنه قليل؛ فرُبَّ أمرٍ تراه صغيرًا وهو عند الله كبير وعظيم؛ ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقرنَّ مِن المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاكَ بوجه طَلْقٍ»[11]، والقرآن الكريم يُعمِّق ذلك في نفس المؤمن؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7- 8]، فقد كان السلف يرى الأمور على غير ما يَرى الكثير؛ فعن أنس - رضي الله عنه - قال: "إنكم لتعمَلون أعمالاً، هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنَّا نعدُّها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن الموبِقات"[12]، فلا تَستصغِر أمرًا مهما كان صغيرًا؛ فقد يكون عند الله كبيرًا.
• النظر إلى النتائج والأجْر الكبير؛ فإن المُدقِّق في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «فوالله لَأنْ يَهديَ الله بكَ رجلاً واحدًا خيرٌ لك مِن حُمر النَّعَم»[13]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مَن سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً، فله أَجرُها وأجْر مَن عمل بها مِن بعده، مِن غير أن يَنقُص مِن أجورهم شيء»[14] - يَعلم أهمية الإيجابية، فإذا أدرك المسلم أن أداء واجبِه نحو الدِّين يُحقِّق له هذا الأجر العظيم، وجب عليه أن يُسارع.
• ألا يُكلِّف النفس ما لا تُطيق؛ فإنَّ تكليف النفس ما لا تُطيق يؤدِّي إلى الفُتور واليأس عند الإنسان؛ قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]؛ ولهذا فعلى المسلم أن يعمل ولا يُحمِّل نفسَه النتائج التي هي بيد الله وحده[15].
[1] - "الشباب في مرآة الإسلام"؛ للشيخ: عبدالخالق حسن الشريف.
[2] - "في ظلال القرآن الكريم"؛ للأستاذ: سيد قطب.
[3] - "في ظلال القرآن الكريم"؛ للأستاذ: سيد قطب.
[4] - المرجع السابق.
[5] - "نور اليقين في سيرة سيد المرسلين"؛ للشيخ: محمد الخضري.
[6] - "الشباب في مرآة الإسلام"؛ للشيخ: عبد الخالق الشريف.
[7] - رواه مسلم.
[8] - رواه البخاري.
[9] - رواه البخاري.
[10] - أبو داود، وابن ماجه، والترمذي.
[11] - رواه مسلم.
[12] - رواه البخاري.
[13] - جزء من حديث أوله: ((لأعطينَّ الراية غدًا رجلاً يَفتح الله على يدَيه))؛ البخاري.
[14] - رواه مسلم.
[15] - "الشباب في مرآة الإسلام"؛ للشيخ: عبدالخالق حسن الشريف.
- التصنيف: