التفـاؤل
التفاؤل من العبادات القلبية، فأحْسِنِ الظن بربك تَنَلْ خيره.
سر من أسرار التوفيق والنجاح والعيش الرغيد ولا تحقيق للأهداف - بعد توفيق الله - إلا به، من عمِل به رشَدَ وسعِد، ومن ابتعد عنه، تعِس وشقِيَ ونكِد.
حثَّ عليه الشرع الحكيم في الكتاب العزيز، وتمثَّله الأنبياء والمرسلون عليهم السلام في حياتهم، وفي دعوتهم لأقوامهم، وسار عليه الصالحون المصلحون من بعدهم.
أمر دال على تعظيم الرب، وإحسان الظن به تبارك وتعالى؛ ذاك السر هو التفاؤل.
التفاؤل هو: الكلمة الطيبة التي يسمعها الإنسان فيرتاح لها وتسرُّه، وبها يتوقع الخير مما يسمع ويرى من أحداث.
بالتفاؤل مع العمل الدؤوب والصبر، تتحقق الأهداف، وترتقي في سلم الكمال والتقوى النفوسُ.
بالتفاؤل تتخلص النفوس من الآثار السلبية من مصائب الحياة وكوارثها، فتقلبها من فشل إلى نجاح، ومن شر إلى خير، ومن مشكلة إلى حلٍّ، ومن عسر إلى يسر، وفي التنزيل الحكيم يقول تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]، ولن يغلب عُسْرٌ يُسْرَين، ويقول سبحانه في حادثة الإفك: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور: 11].
ولذا أعجب النبي صلى الله عليه وسلم التفاؤل، وتمثَّل به، وسدَّ كل السُّبُل الموصلة إلى ضده، وحاربها أشد الحرب؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (( «لا عدوى، ولا طِيَرة، ويعجبني الفألُ» ))، فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان شديد التفاؤل في أيام الشدائد، فحين اشتد عليه الطلب وعلى صاحبه يوم الهجرة؛ حيث وقف المشركون على رؤوسهما، تجد رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر رضي الله عنه بلغة الواثق بربه سبحانه: (( «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» ))، بل وفي حادثة الهجرة نفسها والنبي صلى الله عليه وسلم مطارد، ومن يأتي به حيًّا أو ميتًا موعود بأعظم العطايا، يتبعه سراقة بن مالك، فيتعثر فرسه ثلاث مرات، فعلِم سراقة أن العناية الإلهية تحيطه، فأعطى للنبي صلى الله عليه وسلم الأمان، وقال له قولًا عجيبًا: (( «كيف بك يا سراقة، وأنت تلبَس سِوارَي كسرى» ))، يا عجبًا، مطارد ويَعِدُ بِمُلْكِ كسرى!
وتمضي الأيام ويُسلم سراقة، ويأتي عهد عمر، فيأتي النصر المبين في عهد عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه، فلبس سراقة سواري كسرى؛ إيفاءً لوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالله ما أثر هذا في أتباعه وأمته؟
بل لما انهزم الجيش الإسلامي المبارك في أُحُدٍ، وأصاب الأمة الوَهنَ والحسرة، وخَشِيَ على أمته أن يتشاءموا من المكان، أخبرهم أن أُحدًا ((جبل يحبنا ونحبه))، وما ذلك إلا لقطع حبائل التشاؤم في نفوس الأمة من بعده، والعلم عند الله.
الرسل عليهم الصلاة والسلام والتفاؤل:
وهو بهذا متمثل آثار الأنبياء من قبله المأمور باتباعهم، واقتفاء آثارهم، والاهتداء بهديهم، فلو لم يكن آدم متفائلًا بقبول توبته ما تاب: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37].
ولو لم يكن نوح واثقًا من نصر ربه، لَما صنع السفينة في اليابسة: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].
ولو لم يكن ذو النون واثقًا متفائلًا ما نادى في الظلمات؛ كما أخبر رب البرِّيَّات: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
ولو لم يكن أيوب واثقًا بربه، متفائلًا في نفسه، ما دعا ربه بانفراج الكرب، وذهاب الضر؛ كما حكى الله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84]، ويعقوب لما طالت غيبة أبنائه عنه، واستنكر عليه أولاده سؤالَه، توجَّه للرب الكريم، ولم ييأس، بل طالب بالسعي والعمل وبذل السبب: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 86، 87]؛ ولذا كان ذا منزلة عالية عند ربه لأنه كلما ازداد بلاءً، ازداد حسن ظنه بربه.
وزكريا عليه السلام كبِرت سنه، ووهن عظمه، واشتعل الشيب في رأسه، ومع ذلك كله امرأته عاقر، يؤمِّل من الله خيرًا وولدًا، ويُحسن الظن به ويتفاءل؛ قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 2، 3].
وإبراهيم عليه السلام يأمر ابنه إسماعيل بمفارقة الزوجة المتشائمة، ويحثه بالبقاء مع الزوجة المتفائلة، وعلى هذا سار الصالحون من بعدهم؛ فذا رجل من السلف أقرع الرأس، أبرص البدن، أعمى العينين، مشلول القدمين واليدين، ويقول: "الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيرًا من خلقه، وفضَّلني على كثير ممن خلق وفضلني تفضيلًا، فمر به رجل، فقال له: ممَّ عافاك؛ أعمى وأبرص وأقرع ومشلول، فممَّ عافاك؟ قال: ويحك يا رجل، جعل لي لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وبدنًا على البلاء صابرًا"، فتأمل - أيها المبارك - في عظيم ما أفاء الله عليك من نِعَمٍ، ثم تأمل في كيفية قراءة هذا الرجل الصالح للبلاء، تنعَم وتسعَد في الدارين.
أخي، أريد أن تدقق النظر معي مرة بعد أخرى في التفاؤل في حياتك، سنجد للتفاؤل منها نصيبًا، فاحمد الله، واسأله المزيد.
في الحياة تجد تاجرًا يقطع الأسفار أملًا في الأرباح، وطالبًا يسعى بجد ومثابرة أملًا في النجاح، ومريضًا يحبَّب له الدواء المرُّ أملًا بالشفاء، ومؤمنًا يخالف هواه ويطيع مولاه أملًا بالفوز بجنته ورضاه.
ولو لم يكن للتفاؤل من فائدة إلا ما تشعر من انشراح وارتياح، لكفى، ولكنك مع ذلك تُحقِّق عبادة قلبية عظيمة القدر؛ وهي حسن الظن بالله، فكما تظن في الأمور أن تكون، تكون؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله: (( «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي عبدي ما شاء» )).
والمطلوب توسيع دائرة التفاؤل في الحياة، فكم من كلمة غيَّرت مسار حياة إلى الأمام، فهذا عبدالله بن مسعود يسمع صوت "زاذان"، وكان حسن الصوت، مشغولًا بآلات اللهو والغناء، فقال له ابن مسعود: "ما أجمل هذا الصوت لو كان بكتاب الله"، فلمَّا سمع ما قال، لحِق بابن مسعود، وقبَّله، وأخذ يبكي، فبشره ابن مسعود بمحبة الله فاندهش زاذان، وقال: كيف؟ قال: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
فالكلمة الطيبة صدقة، ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الفأل قال: (( «الكلمة الطيبة» ))، وكلمة طيبة تبلغ بها الآفاق: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24].
فاختيار العبارات المؤدية للتفاؤل عبادة؛ استمع لأمر ربك: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].
إذًا نقرر أن التفاؤل منهج الإسلام والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فكلما كنت أكثر تفاؤلًا، كنت أقرب إلى اقتفاء آثارهم وانتهاج نهجهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وإليك هذه النقاط المعينة على تعزيز التفاؤل في نفسك ومن حولك:
التفاؤل من العبادات القلبية، فأحْسِنِ الظن بربك تَنَلْ خيره.
1- كرِّر عبارات التفاؤل والقدرة على الإنجاز، وقديمًا قالوا: تفاءلوا بالخير تجدوه.
2- صادِقِ المتفائلين في حياتك، واقرأ سيرهم وأخبارهم، تَكُنْ مثلهم.
3- سجِّل إنجازاتك ونجاحاتك السابقة، فهي تساعدك على العودة للنجاح بعد الفشل، وتأمَّل مواساة الله للمسلمين بعد أُحُدٍ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 139، 140]؛ حيث ذكَّرهم بانتصارهم في بدر.
4- اكتب تاريخ نفسك.
5- الشدة والفرج متلازمان، فكلما اشتد الكرب، قرُب الفَرَج: ﴿ {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} ﴾ [يوسف: 110].
ومن أعظم التفاؤل أن يعمل العمل، فتؤمِّل ثوابه عند ربك، ولكن التوازن مطلوب بين الخوف والرجاء والمحبة،
الدعاء والصلاة على رسول الله.
_______________________________________________
الكاتب: الشيخ إسماعيل بن عبدالرحمن الرسيني
- التصنيف: