العواصم من القواصم
الفتن – عباد الله – سنة ربانية لا تتبدل، فالمسلم العاقل الحصيف يهدف إلى تبين الأسباب المعينة على مواجهة الفتن، والعواصم التي تعصمه بإذن ربه من قواصم الفتن ليُعِدَ للأمر عُدته، ويأخذ أُهبته، ويُحصّن النفس من الانزلاق.
معاشر المسلمين والمسلمات:
نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرَهم شرَ ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتُها في أولها، وسيصيبُ آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء الفتن فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقولُ المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقولُ المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزحَ عن النار ويدخلَ الجنة فلتأته منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» . قال رواي الحديث فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله، آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه، وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي ؛ (رواه مسلم في كتاب الإمارة 12/ 436).
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوع الفتن فقال: «يتقارب الزمان ويقبض العلم وتظهر الفتن ويُلقى الشح ويكثر الهرج» قالوا: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: «القتل» (متفق عليه).
الفتن – عباد الله – سنة ربانية لا تتبدل، كتبها الله عز وجل على عباده لحكم عظيمة، ومنها تمحيص الصف المسلم، فيظهر الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق وتنكشف حقائق النفوس وتُبلى الأخبار كما قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ}. [العنكبوت: 1- 3].
الفتن خطرها عظيم، وشرها مستطير، تهلك الحرث والنسل، وتأتي على الأخضر واليابس، تحيّر العقلاء، وترمّل النساء، وتيتم الأطفال، وتسيل أنهار الدماء، تنزل الويلاتِ والنكبات بالمجتمعات التي تغشاها، وأعظم الفتن ما كان في الدين قال تعالى: {وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ}.
الفتن تنساق لمن لا يتوقاها انسياب السيل إلى منحدره، يقول عليه الصلاة والسلام: «ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يستشرف لها تستشرفه» (أخرجه البخاري ومسلم)، أي من تطلع إليها، وتعرض لها، وأتته وقع فيها.
ونحن في عصر الفتن التي أخذت أمواجها تتلاطم بألوان من الأحوال العجيبة، موجات فتن تترى، ومصائب تتوالى، وتقلبات وتغيرات تلوّث العقائد والأفكار والأخلاق، فتن الشهوات المحرقة، وفتن الشبهات المضلة.
ولقد حذر الله الأمة المسلمة إن هي خالفت ربها ونبيها، وبعدت عن شريعتها أن يفتنها، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَـٰلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. وهذه الفتنة عامة تشمل مختلفَ أنواعِ العقوبات، كانتشار القتل فيما بينهم، أو الزلازل والبراكين، أو تسلط السلطان الجائر عليهم، أو ظهور أنواع من الأمراض، أو الفقر، أو الشدة في الحياة، إلى غير ذلك. وهذه الفتنة إذا نزلت فإنها تعم الجميع، فلا يستثنى منها أحد لقوله تعالى: {وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، يقول المفسرون في معناه: واحذروا فتنة إذا نزلت بكم، لم تقتصر على الظالمين خاصة، بل تتعدى إليكم جميعاً، وتصل إلى الصالح والطالح، أما الطالح فهو عقوبة لذنبه، وأما الصالح فلأنه سكت ولم ينكر على الظالم ظلمه.
والمسلم العاقل الحصيف يهدف إلى تبين الأسباب المعينة على مواجهة الفتن، والعواصم التي تعصمه بإذن ربه من قواصم الفتن ليُعِدَ للأمر عُدته، ويأخذ أُهبته، ويُحصّن النفس من الانزلاق.
ومن العواصم من القواصم: الاعتصام بالكتاب والسنة من أعظم العواصم من قواصم الفتن وهذا العاصم جماع هذا الباب كله ؛ إذ جميع العواصم الآتية داخلة فيه، متفرعة عنه، فالتمسك بالوحيين عصمة من الزلل، وأمان بإذن الله من الضلال قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} آل عمران. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوض» (أخرجه الحاكم عن أبي هريرة وصححه الألباني صحيح الجامع (2938). وقال عليه الصلاة والسلام في حديث العرباض بن سارية: «وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة» (رواه أبو داود والترمذي وصححه ابن حبان).
وليس الاعتصام بهما كلمة تقولها الأفواه من غير أن يكون لها رصيد في الواقع، وإنما هي عمل، واتباع في جميع ما يأتيه الإنسان ويذره، ويعظم هذا الأمر حال الفتن؛ إذ يجب الرجوع فيها إلى هداية الوحيين؛ لكي نجد المخرج والسلامة منها.
ومن العواصم: اتباع الصراط المستقيم طريق التوحيد والإسلام، الذي لا يضل سالكه؛ لأنه طريقٌ واضح لا لبس فيه، ومستقيمٌ لا التواء فيه، {وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصَّـٰكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون}.
ومن العواصم من الفتن: إقبال المسلم على كتاب ربه جل وعلا قولاً وعملاً، تعلماً وتعليماً، تلاوةً وتدبراً، ففيه العصمة لمن اعتصم به، وفيه الثبات لمن طلبه فيه، قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ}، وقال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبّكَ بِٱلْحَقّ لِيُثَبّتَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ}، وقال تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}.
والتوكل على الله تعالى والاعتماد عليه وتفويض الأمور إليه عصمة بحول الله وقوته من الفتن: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه} ومن توكل على كفاه ومن لجأ إليه حماه وآواه ومؤمن آل فرعون فوض أمره إلى الله فكانت العاقبة {فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب}.
والعلم منج وعاصم من الفتن، قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا}. العلم عباد الله، نورٌ يضيء الطريق إذا ادلهمت الخطوب، وتشابكت الدروب، وعصفت بالناس الفتن يقول حذيفة لرضي الله عنه: لا تضرك الفتنة ماعرفت دينك إنما الفتنة إذا التبس عليك الحق بالباطل، ويقول الحسن البصري رحمه الله: الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل. وهذا المطلب المهم يقتضي الالتفاف حول العلماء والأخذ عنهم والرجوع إليهم في الملمات والمدلهمات فالعلماء الربانيون يثبتون في الفتن ويثبتون الناس قال علي بن المديني رحمه الله: أعز الله الأمة برجلين بأبي بكر الصديق يوم الردة وبأحمد بن حنبل يوم المحنة. فأهل العلم لا تغرهم المباهج ولا تفتنهم الزخارف، ففي الوقت الذي فتن فيه دهماء الناس بقارون وزينته فقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص: 79]، فإن أهل العلم بالله وبما عنده من الخير والثواب قالوا: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص: 80].
ومن العواصم من القواصم صدق اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء والتعوذ بالله من الفتن فالله تعالى هو ملاذ المسلم في كل حال وحين فكيف في أزمان الفتن فلا حول ولا قوة للعبد إلا بالله، فهو المثبت والمعين، ولولاه ما رفع المسلم قدماً، ولا وضع أخرى، ولا ثبت على الخير لحظةً واحدة، فاللجوء إلى الله بالدعاء من أهم الأسباب، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عظيم الشعور بالافتقار إلى ربه، كان يكثر في دعائه أن يقول: [يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك]، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر الاستعاذة من الفتن، ويدعو أصحابه لذلك: «تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن» (أخرجه مسلم) من حديث زيد بن ثابت. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ا «للهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون».
ومن أسباب التثبيت في الفتن إصلاح النفس وتزكيتها بالطاعة والعبادة، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}، وقال صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إلي» (رواه مسلم).
والأعمال الصالحة مصادٌّ للفتن ووقايةٌ منها، وبها يدخر المسلم رصيداً من الخير في الرخاء، فإذا ما نزلت الفتن كانت النجاة بفضل الله، يُوضّح هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، و يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا» (أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه). ويوسف عليه السلام نجّاه الله من الفتن بالإخلاص، قال تعالى: {كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء وَٱلْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ}. وأهل الكهف نجاهم الله وحماهم حين لجؤوا إليه سبحانه: {رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}.
ومما يعين على مواجهة الفتن: الصبر والتقوى فهما سببانٌ مهمانٌ لمواجهة المكائد والتحصين من الفتن، قال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأمُور}. قال طلق بن حبيب رحمه الله: اتقوا الفتن بالتقوى.
إن تقوى الله حق تقاته، هي العصمة من الضلالة، والسلامة من الغواية، والأمن من المخاوف، والنجاة من المهالك، ومن حقَّق التقوى آتاه الله نوراً وضياءً، يفرِّق به بين الضلالة والهدى، والبصيرة والعمى، كما قال جل وعلا: {يِـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ}.
وتحقيق الإيمان والعبودبة لله عاصم من قواصم المحن والفتن: فدفاع الله سبحانه عن العبد وحمايتَه له من الفتن، إنما يكون على قدر إيمانه وعبوديته لربه، قال تعالى: {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، وكان السلف يقولون: على قدر العبودية تكون الكفاية، يقول ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ}. وفي قراءة {يَدْفَعُ} فيقول رحمه الله: فدفعه سبحانه ودفاعه عنهم – أي عن المؤمنين – بحسب إيمانهم وكماله، ومادة الإيمان وقوته بذكر الله تعالى، فمن كان أكمل إيماناً وأكثر ذكراً، كان دفع الله تعالى عنه ودفاعه أعظم، ومن نقص نقص، أي من نقص إيمانه نقص الدفع والدفاع عنه.
ومن العواصم التوبة والضراعة والإنابة والاستغفار فإن ذلك من أسباب تنزل الرحمات الإلهية، وزوال الخطوب المدلهمَّة، وارتفاع البلاء عن الأمة، كما قال عز وجل: {لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله مُعذِبهم وهم يستغفرون}.
أيّها المسلمون:
إن ما أصابنا اليومَ إنّما هو بسبَب ذنوبِنا وإسرافِنا في أمرنا وما فعله السّفهاء منّا، فما نزل بلاءٌ إلا بذنبٍ، ولا رُفع إلا بتوبة. إن كل ما أصاب هذه الأمة من ضعف أو ذل أو هزيمة أو فقر، فبذنوبها ومن عند أنفسها، واعلموا هذه الحقيقة: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ}. وقد خرج أهل العراق على الحجاج ليقاتلوه، فقال الحسن البصري رحمه الله: يا أهل العراق إن الحجاج عذاب الله سلطه عليكم بذنوبكم فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن توبوا إليه يرفع عذابه عنكم، فإنه يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَـٰهُمْ بِٱلْعَذَابِ فَمَا ٱسْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76].
ومن العواصم اعتزال الفتن وعدم الخوض فيها، وأن يُقبل كل فرد على ما يعنيه أمرُه، ويهمه شأنُه، في خاصة نفسه، من عبادات دينية، وواجبات دنيوية، وأن يحفظ لسانه، وسائر جوارحه عن الدخول في شيء من أمر الفتنة؛ إذ بهذا وجَّه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أمتَه، مبينا أن العمل بذلك دليل سعادة المرء وتوفيقه، ومن أسباب نجاته وسلامته، فقد روى أبو داود وغيره عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: أيم الله، لقد سمعت سول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن السعيد لمن جُنّب الفتن، إن السعيد لمن جنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنّب الفتن، ولمن ابتلي فصبر [فواهاً]»، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذكر الفتنة فقال: «إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم، وخفّت أماناتهم، وكانوا هكذا» وشبّك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك؟ جعلني الله فداك؟ قال: «الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع عنك ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة»،
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين أيديكم فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي»، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «كونوا أحلاس بيوتكم» (رواه أبو داود والحاكم وصححه). وكذلك فعل عدد من خيار الصحابة كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وغيرهما من أفاضل الصحابة الذين اجتنبوا الفتن، واعتزلوها في زمانهم، وحمدت الأمة صنيعهم، وعُدَّ ذلك من أعظم مناقبهم، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وأعظم الفتن فتنة الدجال، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ منه فان الرَّجُلَ يَأْتِيهِ وَهْوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَلاَ يزل بِهِ لِمَا معه مِنَ الشُّبَهِ حتى يَتَّبِعَهُ» (رواه أحمد). وهذا يدل على أن الفرار من الفتنة واعتزال أهلها من أصول هذا الدين العظيم.
ومن المنجيات من الفتن: السير في ركاب جماعة المسلمين وإمامهم فيد الله مع الجماعة ومن شذَ شذ في النار فذلك مخرج من الفتن فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: «نعم» قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟! قال: «نعم وفيه دخن» (كدر)، قلت: وما دخنه؟ قال: «قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر» قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» قلت: فماذا تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» قلت فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: «فاعتزل تلك الفرق كلَّها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك». (متفق عليه).
لابد لأهل الحق من الاجتماع وعدم الفرقة والعمل على جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم، والوقوف صفاً واحداً ضدّ قوى الشر والعدوان، وذوي البغي والفساد، وأن يسعوا جاهدين في إطفاء نار الفتنة، وإزالة أسبابها، والتخفيف من وطأتها قدر الطاقة والاستطاعة، بما يحقق مصالح أمة الإسلام، ويدرأ عنها المفاسد، ويجنّبها المخاطر: {وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ}.
أيّها المسلمون:
ابتعِدوا عن مُلتَطَم الغوائِل، وآثِروا السلامة عند الفتَن والنوازِل، واسلُكوا المسالِك الرّشيدة، وقِفوا المواقفَ السّديدة، وراعوا المصالِح، انظُروا في المناجِح، ووازِنوا بين حسنات ما يُدفَع وسيّئات ما يقع ويتوقَّع، وارتادُوا الأنفَعَ والأنجَع، واحقِنوا الدّماء في أهبِها، وإِدُوا الفتنةَ في مهدِها، فالفتنة راتِعة تطأ في خِطامِها، من أخذ به وطئَته، ومن فتح بابَها صرعَته، ومن أدار راحتَها أهلكَته، يقول رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: «ليس من نفسٍ تُقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوّل كفلٌ منها» (أخرجه البخاري)، قال سفيان رحمه الله: لأنّه أوّلُ من سنَّ القتلَ. ويقول عليه الصلاة والسلام: «لا ترجِعوا بعدِي كُفّارًا يضرِب بعضُكم رقابَ بعض» (أخرجه مسلم). وقال ابن عمر رضي الله عنهما: في الفتنة لا ترون القتل شيئاً. فقودوا أنفسَكم بزِمام العِلم، وأكبِحوها بلِجام الصّبر، واحذَروا ركوبَ مَتن اللّجاج ومَركب التّهارُج حوطةً على الأمّة أن تُسفَك دماؤها أو يَتخرَّق أمرُها إلى ما لا يتحصَّل معه إلا شتاتُ الكلمة وشماتةُ العدوّ، واعلموا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدّت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» (متفق عليه)، وفي لفظ لمسلم: «أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حار عليه». وقال عليه الصلاة والسلام: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر».
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.
- التصنيف: