لم كان القول بخلق القرآن كفراً ؟
إن القول بخلق القرآن باعثُه القياس الفاسد والعقل المريح؛ فهو تحاكم وتسليم لعلم الكلام والابتداع، وإعراض واعتراض على نصوص الوحيين
أمر: القرآن.
كما فرَّق - سبحانه - بين عِلْمه وخَلْقه، فقال - عز وجل -: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإنسَانَ} [الرحمن: ١ - ٣]؛ فالقرآن عِلمُه، والإنسان خَلْقُه؛ فعلمه - تعالى - غير مخلوق. قال - سبحانه -: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران: 61]؛ فالعلم هاهنا هو القرآن.
وفي حديث خولة بيت حكيم - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شرِّ ما خلق، لم يضرَّه شيء حتى يرحل من منزله ذلك» [3].
فلكمات الله غير مخلوقة؛ إذ لا يُشرَع الاستعاذة بمخلوق، وإنما يستعاذ بالله - تعالى - وبأسمائه وصفاته.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فَضْل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه» [4]؛ فلو كان كلام الله مخلوقاً لم يكن فضل ما بينه وبين سائر الكلام كفضل الله على خلقه، وليس شيء من المخلوقين من التفاوت في فضل ما بينهما كما بين الله وبين خَلْقِه»[5].
فالقول بخلق القرآن كفر ظاهر؛ إذ هو تكذيب لنصوص الوحيين، وإلحاد في أسماء الله وصفاته، وتعطيل لما يحب الله - عز وجل - من الكمال، أفيقال بعد هذا: إن هذه المسألة ليست من أصول الدين[6]؟
أيُظَن أن السلف الصالح يكفِّرون ويغلِّظون على من خالفهم في مسألة فروعية؟
أيُظَن أن الإمام أحمد بن حنبل يُعرِّض نفسه للتلف لأجل مسألة يسوغ فيها الخلاف؟
فلقد كابد الإمام أحمد السجن أكثر من عامين، وتخلَّى عنه الناس، وتوالت عليه السياط، وعانى الضرب الشديد حتى تخلَّعت يداه، وتفاقمت جروحه، ومُنِع من صلاة الجمعة والجماعة... أفيكون ذلك كله لأجل أمر اجتهادي؟ رحم الله الإمام علياً بنَ المدني؛ إذ يقول: «أعز الله الدين بالصدِّيق يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة»[7]، بل قال بِشْر الحافي بشأن الذين أجابوا في المحنة: «وددت أن رؤوسهم خُضِّبت بدمائهم، وأنهم لم يجيبوا».
والمقصود أن القول بخلق القرآن من أشنع الزندقة وأخبثها، وقد أدرك سلفنا الصالح فداحة هذه الزندقة ومآلاتها، وبيَّنوا مناقضتها لأصول الإسلام؛ سواء في الدلائل أو المسائل:
فأما الدلائل: فإن القول بخلق القرآن باعثُه القياس الفاسد والعقل المريح؛ فهو تحاكم وتسليم لعلم الكلام والابتداع، وإعراض واعتراض على نصوص الوحيين (أصدق الكلام وخير الهدي)[8].
لقد أكمل الله - تعالى - لأمة الإسلام الدين وأتم عليهم النعمة: «فنحن نعلم أن كل حق يحتاج الناس إليه في أصول دينهم لا بد أن يكون مما بيَّنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ؛ فكيف يجوز أن يترك الرسول أصول الدين التي لا يتم الإيمان إلا بها لا يبينها للناس؟
وهذا مما احتج به علماء السُّنة على من دعاهم إلى قول الجهمية القائلين بخلق القرآن، وقالوا: إن هذا لو كان من الدين الذي يجب الدعاء إليه لعرَّفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ودعا أمته إليه... فكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسُنة رسوله لقد دعا إلى بدعته وضلالته»[9].
وأما مناقضتها لأصول الإسلام في مسائله: فهي تنقض أصلَي شهادة لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فالقول بخلق القرآن تعطيل لرب العالمين - عز وجل - وطعن في الرسالة وإبطال للشرائع... وهذا قد جاء مبيَّناً في آثار السلف الصالح؛ فقد قال الإمام عبد الله بن إدريس: من قال القرآن مخلوق فقد أمات من الله شيئاً[10].
«وقال الإمام أحمد بن حنبل: إذا زعموا أن القرآن مخلوق فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة.
فأجاب أحمد بأنهم وإن لم يقولوا بخلق أسمائه فقولهم يتضمن ذلك، ونحن لا نشك في ذلك حتى نقف فيه»[11].
وقال عبد الله بن أيوب المخرمي: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق، فقد أبطل الصوم والحج والجهاد وفرائض الله»[12].
وقد أوجز ابن تيمية هذا الطعن في الشهادتين لدى القائلين بخلق القرآن؛ فقال: «وكان أهل العلم والإيمان قد عرفوا باطن زندقتهم ونفاقَهم، وأن المقصود بقولهم: إن القرآن مخلوق أن الله لا يكلم ولا يتكلَّم، ولا قال ولا يقول، وبهذا تتعطل سائر الصفات: من العلم والسمع والبصر وسائر ما جاءتْ به الكتب الإلهية، وفيه أيضاً قدح في نفس الرسالة؛ فإن الرسل إنما جاءت بتبليغ كلام الله، فإذا قُدِح في أن الله يتكلم كان ذلك قدحاً في رسالة المرسلين، فعلموا أن في باطن ما جاؤوا به قدحاً عظيماً في كثير من أصلَي الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله»[13].
لقد كانت مقالة الأشاعرة في القرآن أقلَّ انحرافاً من مقالة المعتزلة؛ فإن المعتزلة يزعمون أن القرآن مخلوق لفظاً ومعنىً، وأما الأشاعرة فيجعلون القرآن هو المعنى القائم بذات الله، وأما الحروف والأصوات فهي دالة عليه، وهي مخلوقة. ومع ذلك فإن مقالة الأشاعرة قد آلت بالمتأخرين منهم إلى القول بأن المصحف ليس فيه إلا المداد والورق، فامتهنوا القرآن وداسوه بأرجلهم[14].
وأخيراً فإن المتعين الرسوخ في فقه هذه المسألة الجليلة، وإظهارها بين الخلائق، وبيان عمق علم السلف، و حِدَّة أفهامهم، ودرايتهم بمآلات الأقوال ولوازمها، خلافاً لمن تنكَّب سبيلهم فهوَّن من شأن هذه المسألة، وخاض فيها بالباطل، وانتقص أهل السُّنة، فجمع بين الجهل والظلم، فلا عِلْم مصدَّق ولا عدل محقَّق. وبالله التوفيق.
[1] انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 2/312، 2/216 - 312.
[2] المرجع السابق: 2/312.
[3] أخرجه مسلم.
[4] أخرجه أحمد: 3/390، وأبو داود: (4734)، والترمذي: (2925) وصححه.
[5]انظر: الرد على الجهمية لعثمان الدارمي: ص162.
[6] قالها بعض الذين أُشربوا البدعة كالمقبلي في العلم الشامخ، وأبي غدة في مسألة خلق القرآن، وتبعهم بعض متسننة هذا العصر، أرباب الترنح والتلفيق.
انظر في الرد عليهم: رسالة تنبيه الإخوان، لحمود التويجري، والمحنة وأثرها في منهج الإمام أحمد، لعبد الله الفوزان.
[7] طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى:1/28.
[8] انظر: الأشاعرة عرض ونقد لسفر الحوالي: ص 64 - 66.
[9] الدرء لابن تيمية: 1/233 - 234 = باختصار.
[10] أخرجه ابن بطة في الإبانة (الرد على الجهمية): 2/44.
[11] التسعينية: 2/577 - 581.
[12] أخرجه ابن بطة في الإبانة (الرد على الجهمية): 1/352.
[13] بيان تلبيس الجهمية: 3/518 - 519، وانظر: شرح الأصفهانية (ت: مخلوف): ص 60، ومجموع الفتاوى: 12/7.
[14] انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية: 8/425.
- التصنيف: