الآخرة هي المستقبل

منذ 2024-05-07

أما المستقبل فهو الآخرة، وما أدراك ما الآخرة! فهو لقاء الله تعالى حقّاً، والخلود في الجنة أو النار. ولأجل ذلك يجب على الإنسان أن يضعَ هذا المستقبل نصب عينيه

إن موضوع القيامة الكبرى، والبعث والنشور والحساب، موضوع خطير وهام جدّاً؛ لأنه ينبني عليه مستقبل الإنسان الأبدي في الآخرة. وبالرغم من أهمية اليوم الآخر، وضرورة التفكير الجاد للسعي إليه والإعداد له، فإن الإنسان المعاصر قد ذهل عن الغاية التي خُلق من أجلها: وهي عبادة الله تعالى وطاعته، والالتزام بالمنهاج الذي أنزله لحركة الحياة، والاستعداد للقائه.

وفي هذا العصر - وللأسف الشديد - نجد كثيراً من الناس قد ركنوا إلى الدنيا الفانية واطمأنوا بها. وهم في غفلة شديدة عن الآخرة ويوم البعث والحساب، وما فيه من المشاهد العظيمة والأهوال الجسيمة.

والسبب في هذا الذهول وهذه الغفلة عن الآخرة هو أنَّ الحضارة المادية المعاصرة قد ألهت الناس وحبَّبت إليهم الدنيا، وزهدتهم في الآخرة وصدَّتهم عنها. فنجد كثيراً من الناس - إلا من رحم الله تعالى - يَجِدُّ ويتعب من أجل مستقبل قريب يسعى في زعمه لتأمينه، ونسي مستقبله الأبدي السرمدي في الآخرة، فلا يُعِدُّ له إلا القليل، أو لربما ذهل عن الآخرة بالكلية، وهي دار القرار في الجنة أو في النار، إما سعيداً وإما شقياً: {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إمَّا شَاكِرًا وَإمَّا كَفُورًا} [الإنسان: ٣].

قال الإمام الطبري: «إنا بينَّا له طريق الجنة وعرَّفناه سبيله... إما شقِيّاً وإما سعيداً»[1].

ولو أن الإنسان المكلَّف خُيِّر بين الدنيا والآخرة، وأعطي الدنيا من أولها إلى قيام الساعة، ثم اختار الدنيا وآثرها على الآخرة، لكان بالفعل خاسراً ومغبوناً؛ لأن الدنيا كلها ليست إلا ساعة من ساعات الآخرة. فكيف بمن آثر الحياة الدنيا على الآخرة، والعمر فيها لا يزيد على مائة سنة إلا نادراً جداً، وهو أرذل العمر! فهناك إذاً خلل في النظرة إلى الدنيا والآخرة، ينبغي علاجه قبل فوات الأوان.

ويوم القيامة سماه الله - تقدست أسماؤه - في القرآن المجيد «النبأ العظيم». والنبأ في اللغة هو الخبر. قال تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ 67 أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} [ص: 67 - 68]. وقال جل ذكره: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ 1 عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ: ١ - ٢].

قال الإمام ابن كثير في تأويل هذه الآية الكريمة: عن أي شيء يتساءلون؟ عن أمر القيامة، وهو النبأ العظيم، يعني الخبر الهائل المفظع الباهر[2].

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تأويلها: «قال جل ثناؤه محذراً الناس ومنذراً لهم: أي: ما أنبأتكم به من البعث والنشور والجزاء على الأعمال والحساب، خبر عظيم ينبغي الاهتمام الشديد بشأنه، ولا ينبغي إغفاله. ولكن أنتم عنه معرضون، كأنه ليس أمامكم حساب ولا عقاب ولا ثواب»[3].

ولقد ورد اليوم الآخر في القرآن الحكيم بأسماء كثيرة، قال العلماء إنها وصلت إلى ثمانين اسماً. ومن المعلوم أنه كلما كان للمسمى شأن عظيم، كثرت أسماؤه، وتعدَّدت أوصافه. ومن هذه الأسماء: يوم الحسرة، ويوم التلاق، ويوم الآزفة، ويوم التناد، ويوم التغابن، ويوم الحساب، ويوم القيامة... إلى غير ذلك من الأسماء.

ويوم القيامة يوم يجعل الولدان شيباً؛ إما لطوله، وإما لشدة أهواله. قال تعالى: {تَعْرُجُ الْـمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: ٤]. وقال جل شأنه: {إنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] أي: شديد الأهوال.

ففي هذا اليوم العظيم يعيد الله جلَّ شأنه العباد أنفسَهم، ولكنهم يُخلقون نشأة أخرى مختلفة عما كانوا عليه في الحياة الدنيا، لكنهم لا يموتون. قال تعالى عن الذي مات كافراً وخُتم له بخاتمة السوء: {وَيَأْتِيهِ الْـمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِه ِعَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17]. ومن حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: «... وخلود لا موت في أجساد لا تموت»[4].

ولخطورة هذا الأمر وأهميته بالنسبة للإنسان، إذ يتعلق بمصيره الأبدي، فإن قضية يوم القيامة وأهواله وأحداثه العظام ينبغي أن تشغل حيِّزاً كبيراً في ذهن الإنسان وعقله؛ لأنها قضية كبرى تتعلق بوجود الإنسان وحياته، ومستقبله ومصيره، وشقائه وسعادته.

فلا يجوز أن يتقدم هذا شيءٌ مهما كان شأنه، فكل أمر دونه صغير، وكل خطب سواه حقير. وهل هناك خطب أعظم وأفظع من أن يخسر الإنسان آخرته، وهي الخسارة الكبرى التي لا تعوَّض: {قُلْ إنَّ الْـخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْـخُسْرَانُ الْـمُبِينُ} [الزمر: 15].

على أن حياة الإنسان في هذه الدنيا لها علاقة بثلاثة أبعاد: الماضي والحاضر والمستقبل. فالماضي بالنسبة للإنسان شيء فات وانتهى لا قيمة له.

والحاضر هو الساعة التي يعيش فيها، فينبغي أن يستثمرها في الطاعات والقربات، ويُرَكِّز فيها على الأعمال الصالحة؛ لأنه لا يدري ما يحدث له بين يوم وليلة، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]. وقال جل ذكره: {وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 185].

وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: «يقولون القيامة، وإنما قيامة أحدهم موته»[5].

أما المستقبل فهو الآخرة، وما أدراك ما الآخرة! فهو لقاء الله تعالى حقّاً، والخلود في الجنة أو النار. ولأجل ذلك يجب على الإنسان أن يضعَ هذا المستقبل نصب عينيه، فيكونَ مقصودُه وغايته: الله جلَّت عظمته والدار الآخرة، ويكون هدفه نيل رضوانه تبارك وتعالى.


 


[1]  الطبري: جامع البيان، 10/8359-8360.

[2] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم: 8/302.

[3] عبد الرحمن السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص842، (بتصرف).

[4] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، انظر الألباني: سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 1668: 4/231.

[5] الطبري: جامع البيان: 10/8320.

_____________________________________________________

الكاتب: أ.د. محمد أمحزون

  • 0
  • 0
  • 464

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً