نفحات اللسان عند هطول الغمام

منذ 2012-01-01


قطر السماء وما أدراك ما قطر السماء لا أبلغ من قول المولى جل وعز: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]، الإنسان والحيوان والجماد كل ذلك يفتقر إلى الماء ويرتوي منه، وكل ذلك يُهاجر ويصارع الموت من أجله.. ألا ترى الأرض القاحلة كيف تنكمش وتجمع نفسها إذا ورد الماء على جارتها!! الماء سرُّ وأي سر ونعمة وأي نعمة، الجُلُّ لا يقدِّرها حق قَدْرها ولا يعظمها حقَّ التعظيم ولا يعرف مقدار فضلها إلا من حُبست عنه فترى الرجال الأشداء يتصارعون على قطرة ماء في قاع بئر مظلم. يَبِسَت الأرض وخف الضرع وهلك الزرع وذبل الغصن فترى الأرض خاشعة هامدة فتأوّه وجهُ اليابسة وجف دمعها فصارت أوراق الربيع تساقط بدل الدموع.. فاستسقى الناسُ ربهم أن يكشف كربهم، وردوا المظالم وأدّوْا زكاة أموالهم وخرجوا يجأرون إلى الله: اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا سحا غدقا مجللا طبقا دائما، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.. واستغفروا ربهم مصدِّقين إن فعلوا ذلك بوعده. {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:11]. وبين عشية وضحاها ركض في السماء غيم وأجْلبْ، وصار لفيفاً مرعباً وعانق السماء من كل صَوبْ فلا ترى عينك إلا السحاب الأبيض، تزبنه ريح عاصف {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر:22]، و{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، وما زال يمشي ويتبختر حتى اجتمع جنده فأرسل صوتا مدويا أرعب القحط إرعابا ثم أتبعه بزئير صاخب ذاك هو الرعد.. وحتى يسير على خطى بيِّنة وشِرعة واضحة أبرق بريقا يأخذ بالعيون حتى وَصَل الأرضَ بالسماء فاكفهر الجو وتمعّر وكاد سنا برقه يأخذ بالأبصار.. وما فتئ الغمام يربو وينمو ويزجيه الله ثم يؤلف بينه حتى أصبح يمشي على الأرض ورأسه في السماء ركاما، وبين فَيْنة وأختها يومض ويُرعد حاملا وكاسحا ما يعترض في مسيره. فاختبئ كل شيء وجلا، وصار من لا يرى شيئا يعده شيئا.. فلما نظر إلى الناس وجد قلوبا تشقق ودموعا ترقرق فاستحيا من الله وخضل الدمع منه فأرسلها أرتالا تتلوها أرتال ينتحب ويئن ويُنزل من جبال فيها من برد، ولا يَجد أجدى من البكاء فكأن البحر تعلق بالسماء ثم نزل من شدة ما هطل من ماء عينه... وما أحلى الودق حين يخرج من خلال السحاب وثناياه كالجارية الحسناء حين تستر نفسها ولا تبدي سوى عينها النجلاء. فلما وجد استبشار البشر وحنين الحيوان وضحك الأرض تضائل فخف دمعه رحمة بهم ولكل شيء مقدار {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21]، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ ۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون:16]، فسجد لله وسبح وركع له وخضع حتى انجلى بعضه.. فتراقصت الأغصان وتعانقت، وارتدت رداء مخضرّا وناح الحمام على الفنن وتجاوبت الأطيار في نغم شكرا لله وحمدا. وازّيّنت الأرض بأبهى حللها وتلوّنت من كل لون وفن {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5].. فترى النخل بقنوانها دانية وترى جناتٍ من أعناب والزيتون والرمان فيالله!! وإذا كانت تلك حال الجماد فكيف حال الإنسان؟! لقد أشرق وجه الزُّرَّاع حين امتلأ الجدول فسقَوا النجم والشجر، وارتفع الزرع وآن حصاده.. (فأخرجنا به نبات كل شيء) فنعم الزاد الماء، "يشرب بها عباد الله"، طهور يَنفي الدَّرَن، ويقيم الأوَد ويَصرف الوَسَن.. "إن الله ليرضى عن العبد أن يشرب الشربة فيحمده عليها" شربة منه لكلب أدخلت جنةَ الخلد بغِيّاً، وسَقْيةٌ منه لأمير -ذهب يصطاد فأدركه العطش- أخْلفت ذهبا وإكليلا ومالا وفيرا وجاها عريضا. وما ظنك بشربة ماء يفديها هارون الرشيد بنصف ملكه إذا حبست عنه؟ هذا وهو في الرخاء.. فتالله لو كان في الضراء لفداها بملكه كله. وإن منة الله تعظم حين يحفظ هذا الماء النازل فلم يسِح في الأرض {وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [المؤمنون:16]، بل حفظه سبحانه: {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22] فترى العيون يفجِّرها الماء تفجيرا وترى النهرَ والبحرَ كالأم الرؤوم فسبحان من عظُمت منَّتُه وجلّتْ قدرته!!. إن القلب ليرقص طربا والنفسَ تطير شعاعا حين أمشي تحت وقع الغيث وعلى رأسي مِظلة تحفظ جسدي من البلل، وعلى مِظلتي صوت الغيث يَحْدو وينشد كأنه أم تناغي ابنها، أو عندليب خرج من مقام الصبا ليدخل نهاوند، أهو أجمل من ذلك، فأفهم كلامه وأسمع جوابه فيخامر عقلي ويسحر فكري، فأمشي بلا وعي وأسير بلا هدف.. تالله تلك الحالة من روائع الدنيا ونعيمها أو تكون حزين البال كثير البلبال وإذا بالسماء تهطل، فترفع نافذتك تسمع أغنية الغيث للأرض، فتميد الأغصان يمنة ويسرة، فتُوسوس لك نفسك بالاستلقاء في أحضان الأرض تستنشق رائحة الماء وعبير الأرض.. ذلك الماء الطيب المبارك، أو تدري لم هو مبارك؟ لقد أجاب عن ذلك خير الورى صلى عليه ربي وسلم بقوله: إنه حديث العهد بربه. ولذ يُسن أن ترفع بعض لباسك ليمَسَ ماءُ السماء جسدك لقد تفنن الشعراء في التشبيه بالسحاب والغيث واخضرار الأرض لأنهم تذوقوا هذا الأمر واستحلوه، بل كانوا أشد شوقا له من الفلاح..لأن الشاعر يسقي روحه والزارع يسقي زرعه وشتان بين السُّقيتين أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما.

المصدر: الكـاتب: داود العتيبي
  • 4
  • 1
  • 4,493

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً