نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم: كما تداعى الأكلة إلى قصعتها
إن أمة الإسلام تعيش في هذا العصر عصر العولمة أمواجًا من الفتن والتربص والترصد والتآمر والالتفاف حولها للإجهاز عليها بعد إضعافها
على مر عشرات السنين لم تجعل العولمة شيئًا واحدًا له استخدام مزدوج في الخير والشر إلا جعلته يداعب الشهوات بالقدر الذي يصرفه في النهاية إلى الشر بنسبة كبيرة، فتحدث أُلفة تدريجية بين الإنسان والشر، ودرجة عالية من التسليم بأنه العادي بحكم التكرار والانتشار، لتجعل استخدام الأشياء في الشر اعتياديًّا لدرجة عدم مروره حتى على نفسٍ لوَّامة أو بقايا ضمير، فتنشأ أجيال في غاية التشظي، لا تعرف هداية لخير، بل ومحاطة بالإغواء من كل جانب، فلا يشغل هذه الأجيال إلا شهوات أجسادهم وينطلقون منغمسين في الفتن تاركين أرواحهم في ظلمة مستمرة.
حرص رعاة العولمة والترويج لها على التحكم في تشكيل الهوية بشكل منحرف أو شبه منحرف، فمن أجل أن يُـتـاح للإنسان أن يكتسب هوية واضحة تحمله بفطرة نقية حتى يلقى الله على حسن خاتمة، عليه أن ينال فرصة اكتسابها في وسط نقي مُنظم، فكيف يحدث هذا في خضم ما يُـغَـذُّون به المجتمعات من مزيجٍ متضاد هدفه تشتيت الأجيال، مزيج يعزل روح الإنسان ويُـعمِل فقط شهواته، حتى إن الإنسان يتناول دوافع هذا في تركيبة طعامه وشرابه وأدويته.
والثورة المعلوماتية التي عدَّها اللاهثون وراء العولمة وجعل العالم قرية واحدة، هي ثورة معلوماتية تحمل في طيَّاتها وسائل عدم النفع العام، فكَمُّ تدفق المعلومات أصبح فوق مستوى الاستيعاب للإنسان العادي، كم من المعلومات يزاحم بعضه بعضًا حد النسيان، يعطي لمن يشاهد أو يسمع أو يقرأ متعة أثناء المشاهدة أو الاستماع أو القراءة فقط لكن المحصلة المخزنة والممكن استحضارها في المستقبل تكون عبارة عن خاطرة مشتتة لا يمكن تجميع تفاصيلها أو الاعتماد عليها.
حتى البحث العلمي أيضًا يُـمكن إدارته في ظل العولمة بأيدي المتحكمين في نشر العولمة، فهم أصحاب المال والإغداق في الإنفاق على الأبحاث يكون على علماء دون غيرهم، وعلى جمعيات علمية دون غيرها، تخدم مصالح هؤلاء رعاة العـولمة، أيديولوجيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وانحرافيًّا.
إن أمة الإسلام تعيش في هذا العصر عصر العولمة أمواجًا من الفتن والتربص والترصد والتآمر والالتفاف حولها للإجهاز عليها بعد إضعافها، إن أمة الإسلام تعيش في هذا العصر ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم واقعًا رأي العين، فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الأممُ أن تَداعَى عليكم، كما تَداعَى الأكَلةُ إلى قصْعتِها» ، فقال قائلٌ: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاء السَّيلِ، ولينزِعَنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ» ، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ، وما الوهْنُ؟ قال: «حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ»؛ (السلسلة الصحيحة: 958).
والحل في التئام جراح الأمة بعد كل هذا التشظِّي، وتماسكها وقوتها بعد كل هذا الضعف هو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعبَدَ بأرضِكم، ولكن رضِيَ أن يُطاعَ فيما سِوى ذلك مما تُحاقِرون من أعمالِكم، فاحْذَروا، إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا، كتابَ اللهِ، وسُنَّةَ نبيِّه»؛ (صحيح الترغيب: 40) وهو ما ترجمه الإمام مالك رحمه الله، بقوله: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إن قوة الأمة، كأمة كاملة متنوعة المجتمعات مترامية الأطراف لبنتها الأسرة والأفراد داخلها، ليس لها أي منبع آمن إلا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وكل ما سوى ذلك خراب في خراب، والعجيب أنه مع توافر هذا المنبع الآمن وسط كل هذه الأمواج من الفتن والشهوات والشبهات والمؤامرات، تجد الناس منصرفين عنه إلى غيره.
والاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يكون بالأقوال أو بمجرد الارتباط الظاهري، إنما لا بد أن نهرول إليهما عمليًّا نستقي منهما ما نفعله في كل موقف نتعرض له وكل نازلة نعيشها، نسترشد بهما لنعمل بما فيهما بمنتهى التسليم والاستسلام حتى في أدق الأحكام والتشريعات، وتكون غايتنا بهذا تحقيق العبودية المُطلقة لله رب العالمين.
بهذا فقط تكون النجاة، بهذا فقط تكون القوة، بهذا فقط نعبر أمواج الفتن وهندسة الانحراف التي تجري على قَدَمٍ وساقٍ، بهذا فقط تخرج الأمة من الظلمات إلى النور، بهذا فقط نُربِّي جيلًا قادرًا على السير إلى الله، بهذا فقط نحفظ لأنفسنا ولأبنائنا مكانًا بعيدًا عن نار الدنيا والآخرة.
_______________________________________________________
الكاتب: حسام كمال النجار
- التصنيف: