صور رائعة من المسارعة إلى الخيرات
"لقد كان - ﷺ - مثالاً أعلى في المسارعة إلى الخير"
لقد كان - صلى الله عليه وسلم - مثالاً أعلى في المسارعة إلى الخير، فعن أبي سروعة عقبة بن الحارث - رضى الله عنه -، قال: صليت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة صلاة العصر، فسلّم ثم قام مسرعًا، فتخطى رقاب الناس إلى بعض حُجر نسائه، ففزع الناس من سرعته، فخرج إليهم، فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، قال: «ذكرت شيئًا من تبرٍ (الذهب المكسور) عندنا فكرهت أن يحبسني، فأمرت بقسمته» [1].
خشي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تحبسه هذه الأمانة يوم القيامة، فبادر إلى توزيعها، والتصدق بها.
وهذا أبو الدحداح الأنصاري، لما نزل قول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] [2] قال للرسول - صلى الله عليه وسلم -: وإنّ الله ليريد منَّا القرض؟ قال عليه الصلاة والسلام: نعم يا أبا الدحداح، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله النبي - صلى الله عليه وسلم - يده، فقال أبو الدحداح: إني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي (أي بستاني، وكان فيه 600 نخلة) وأم الدحداح فيه وعيالها، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: أخرجي من الحائط: يعني: أخرجي من البستان فقد أقرضته ربي عز وجل.
وفي رواية: أن امرأته لما سمعته يناديها عمدت إلى صبيانها تخرج التمر من أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم. تريد بفعلها هذا الأجر كاملاً غير منقوص من الله. لذلك كانت النتيجة لهذه المسارعة أن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كم من عقٍ رداح (أي: مثمر وممتلئ) في الجنة لأبي الدحداح» [3].
وأبو طلحة الأنصاري؛ جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال يا رسول الله: يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] [4] وإنّ أحب أموالي إليّ بَيْرُحاء، وكانت حديقة يدخلها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عز وجل، وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: بخ يا أبا طلحة، ذاك مال رابح، ذاك ما رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه[5].
وهذه صورة مشرقة، ولوحة رائعة يزيّنها مسارعة الصحابة، ومبادرتهم إلى فعل الخيرات. فعند الترمذي يقول عمر بن الخطاب - رضى الله عنه -: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق، ووافق ذلك مني مالاً، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر. قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أبقيت لأهلك»؟ فقلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال - صلى الله عليه وسلم - له: «ما أبقيت لأهلك»؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قال عمر: لا أسبقه إلى شيء أبدًا [6].
وإذا كانت النفوس كبارًا ** تعبت في مرادها الأجسام
ويقول الآخر:
من لي بمثل سيرك المدلل ** تمشي رويدًا وتجيء في الأوّل
ومسارعة أبي بكر معروفة، ومواقفه مشهودة ومشهورة، ففي صحيح مسلم، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا»؟ قال أبو بكر: أنا. قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة»؟ قال أبو بكر: أنا! قال: «فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا»؟ قال أبو بكر: أنا! قال: «فمن عاد منكم اليوم مريضًا»؟ قال أبو بكر: أنا! فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما اجتمعن في امرئ إلاّ دخل الجنّة» [7].
ويترجم الصحابي الجليل عدي بن حاتم المسارعة إلى الخير بشكل آخر، وبصورة بديعة فيقول: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلاّ وأنا على وضوء وقال: ما دخل وقت صلاة إلاّ وأنا أشتاق إليها هذا الصحابي مكث فترة زمنية ليست بالهيّنة يجاهد نفسه على طاعة الله حيث إنه أسلم في السنة السابعة للهجرة، وتوفي سنة 68هـ، وعاش 180سنة وقيل 120سنة.
وانظر يا رعاك الله إلى عامر بن عبدالله بن الزبير من كبار التابعين، وهو في مرض موته، يسمع المؤذن لصلاة المغرب، فيقول لمن حوله: أحملوني إلى المسجد، قالوا له: أنت عليل، قال: أسمع داعي الله فلا أجيبه، فأدخلوه في الصف مع الإمام، فركع ركعة ومات وهو يصلي [8].
وأخيرًا هذا التابعي الجليل محمد بن سيرين يسابق الزمان، ويلاحق اللحظات، ويسارع إلى الخيرات: كان يدخل إلى السوق نصف النهار، فيكبّر الله، ويسبّحه، ويذكره، فيُسأل عن ذلك، فيقول: إنها ساعة غفلة الناس.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة، واستعملنا في طاعتك.
[1] البخاري 851.
[2] سورة البقرة، آية (245).
[3] مسند الإمام أحمد 3/179 رقم 12490، المعجم الكبير للطبراني 22/300 رقم 763.
[4] سورة آل عمران، آية (92).
[5] البخاري 1461، مسلم 998.
[6] أبو داود 1678، الترمذي 3675.
[7] مسلم 1028.
[8] سير أعلام النبلاء 5/220.
__________________________________________________
الكاتب: د. إبراهيم بن فهد بن إبراهيم الودعان
- التصنيف: