خطبة عيد الأضحى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان }

منذ 2024-06-15

إن الأعياد في الإسلام ميلاد جديد، وفرحة عارمة، وتآلف وتراحم وتزاور، وصلة للأرحام، وتوسعة على الأهل والأقارب والجيران، وهي إلى جانب ذلك أيامُ شكرٍ وعبادة لله الواحد الدَّيَّان

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر، خلق الخلق وأحصاهم عددًا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا، الله أكبر عَنَتِ الوجوه لعظمته، وخضعت الخلائق لقدرته، الله أكبر ما ذكره الذاكرون، والله أكبر ما هلَّل المهللون، وكبَّر المكبِّرون، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا.

 

الله أكبر عدد ما أحرم الحجاج من الميقات، وكلما لبَّى الملبُّون وزِيد في الحسنات، الله أكبر عدد ما طاف الطائفون بالبيت الحرام وعظَّموا الحرمات، الله أكبر عدد من سعى بين الصفا والمروة من المرات، والحمد لله عدد حُجَّاج بيته المطهَّر، وله الحمد أعظم من ذلك وأكثر، الحمد لله على نعمه التي لا تُحصر، والشكر له على آلائه التي لا تُقدَّر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَلَكَ فقَهَرَ، وتأذَّن بالزيادة لمن شكر، وتوعَّد بالعذاب من جحد وكفر، تفرَّد بالخلق والتدبير وكل شيء عنده مقدَّر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، طاهر المظهر والْمَخْبَر، وأنصح من دعا إلى الله وبشَّر وأنذر، وأفضل من صلى وزكى وصام وحج واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا مديدًا وأكثر؛ أما بعد أيها المؤمنون عباد الله:

فإن الأعياد في الإسلام ميلاد جديد، وفرحة عارمة، وتآلف وتراحم وتزاور، وصلة للأرحام، وتوسعة على الأهل والأقارب والجيران، وهي إلى جانب ذلك أيامُ شكرٍ وعبادة لله الواحد الدَّيَّان، تبدأ بالتكبير والحمد والثناء لله رب العالمين، فهنيئًا لكم عيدكم، عيد الأضحى المبارك، فطوبى للذين صاموا وقاموا، طوبى للذين ضحَّوا وأعطَوا، طوبى للذين كانوا مستغفرين بالأسحار، مُنْفِقين بالليل والنهار، ما أعظم هذا الدين! وما أجمل هذا الإسلام! يدعو الله عز وجل عباده لزيارة بيته الحرام، الذي جعله مثابةً للناس وأمنًا؛ ليُجمعوا أمرهم، وليوحِّدوا صفهم، ويشحذوا هِمَمَهم، وليقضوا تَفَثَهم، وليطوفوا بالبيت العتيق، نفحات الله، ورحمات الله، ونظرات الله، كانت بالأمس القريب في أفضل يوم؛ عرفاتِ الله، يومِ المناجاة، يوم المباهاة، يوم الذكر والدعاء، يوم الشكر والثناء، يوم النقاء والصفاء، يوم إذلال الشيطان الذي تكبر فأذله الله وأخزاه.

 

عبــــــاد الله: وإن كان لنا من وقفة في هذا اليوم، فإنها مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو يوجِّه الأمة ويحذِّرها من أسباب الضياع والتِّيه؛ لنأخذ سببًا من هذه الأسباب التي دمرت أمة الإسلام، وعصفت بها، وأخَّرتها عن رَكْبِ الأمم، وأغرقتها في كثير من المشاكل والصراعات والخلافات، ثم نبحث عن الحلول والمخرج من ذلك.

 

فقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه خطيبًا في حجة الوداع في مثل هذه الأيام من أيام الحج، فتكلم في خطبة عظيمة عن الكثير من الأمور التي تهم المسلم في دينه ودنياه وآخرته، فكانت هذه التعاليم بمثابة خطة العمل، ودستور الحياة لأُمَّتِهِ لتستأنف الحياة من جديد من بعده، والتي تضمن لها الحياة الطيبة، والراحة النفسية، والتمكين في الأرض؛ فكان مما قاله: «أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يُعبَد في أرضكم هذه أبدًا، ولكنه إن يُطَع فيما سوى ذلك، فقد رضِيَ به مما تحقِرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم».

 

وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الشيطان يئس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»؛ (رواه مسلم في صحيحه (2812)).

 

والتحريش في أمة الإسلام الذي عمِل من أجله شياطين الإنس والجن يظهر اليوم في أكثر من جانب؛ السياسي، والاقتصادي، والعسكري، والاجتماعي، والديني، وإن من أكبر مظاهر التحريش التي ابتُلِيَت بها هذه الأمة، واستسلمت لها، وفتَّت في سواعد قُواها، وأطاحت برايات مجدها - الاختلافَ والتفرُّق، والعصبية المقيتة، والتنازع على توافه الأمور، والتخاصم والفجور في الخصومة، وفساد ذات البين، على مستوى الأسرة والقبيلة والمجتمع، والدول والأوطان، ومن ثَمَّ ضعُفت هذه الأمة، وخارت قواها، وتشتَّتت جهودها، وتعرضت للنكسات والهزائم، وتوقف الإبداع والتطور والازدهار الحضاري؛ وصدق الله عز وجل إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}  [الأنفال: 45، 46]، إن التنازع مفسد للبيوت والأُسَرِ، مُهْلِكٌ للشعوب والأمم، سافك للدماء، مبدِّد للثروات، نعم؛  {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}  [الأنفال: 46].

 

والله عز وجل يقول مبينًا ومحذرًا من اتباع الشيطان وخطواته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}  [البقرة: 208]؛ أي: خُذوا الإسلام من جميع جوانبه، واحذروا الشيطان وخطواتِه وأساليبَه، التي منها إثارة الأحقاد والتنازع، والخصومات والتفرق، فبالخصومات والمشاحنات تُنتهك حرمات الدين، ويعُمُّ الشر القريب والبعيد، ومن أجل ذلك سمَّى رسول الله فساد ذات البين بالحالقة، فهي لا تحلِق الشعر، ولكنها تحلق الدين، فمن خطورتها أنها تذهب بدين المرء وخُلُقه وأمانته؛ عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألَا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: بلى، قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة»؛ (صحيح: رواه أبو داود (4919)، والترمذي (2509))،

ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»؛ (حسن لغيره، انظر: صحيح الترغيب والترهيب (3/ 44)، تحت رقم: 2814) وغاية المرام (414))،

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم؛ الحسدُ والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أُنبِّئكم بما يثبت ذاكم لكم؛ أفشوا السلام بينكم»؛ (سنن الترمذي: (2434)، قال الألباني: حسن؛ التعليق الرغيب (3/ 12)، الإرواء (238)).

 

أيها المؤمنون عبـاد الله: لقد حرَص الإسلام على إقامة العلاقات الودية بين الأفراد والجماعات المسلمة، ودعم هذه الصلات الأخوية بين القبائل والشعوب، وجعل الأساس لذلك أُخُوَّةَ الإيمان، لا نعرة الجاهلية، ولا العصبيات القبلية، ورسولنا أقام الدليل القاطع على حقيقة الأخوة الإيمانية، وتقديمها على كل أمر من الأمور الأخرى، فها هو رسول الله يؤاخي بين المسلمين المهاجرين والأنصار في بداية بناء دولة الإسلام، وأخذ ينمي هذه الأخوة، ويدعمها بأقوال وأفعال منه تؤكد هذه الحقيقة الغالية: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؛ (مسلم (45)، البخاري (13))، وقوله: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى»؛ (مسلم (2586))، ولقد أينعت هذه الأخوة، وآتت أُكُلها أضعافًا مضاعفة، وكان المسلمون بها أمة واحدة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم، فكانوا قوة يوم اعتصموا بحبل الله المتين، فنبذوا كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات، وعنصريات ونعرات جاهلية، وأطماع دنيوية، وتحصنوا بهذه الأخوة من مكر الأعداد وتخطيطهم لضرب الإسلام، والوقيعة بين المسلمين، وإثارة الخلافات والنعرات والتحريش بينهم؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم: قيلَ وقالَ، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»؛ (صحيح مسلم (ج: 9، ص: 109)).

 

أيها المؤمنون: عودوا إلى الله وثِقوا به، وأحسنوا الظن به، فإن بعد العسر يسرًا، وإن بعد الشدة فرجًا ومخرجًا، وإن بعد الفرقة والشتات والحروب والصراعات تآلفًا ومحبة وأُخوة، وإن غلبة أعداء الأمة وسيطرتهم على مُقدَّراتها ومقدساتها إلى زوال، فلا يمكن للبغي أن يستمر، ولا للظلم أن يسود، فقد مرت هذه الأمة بفترات أشد وأعتى مما هي عليه اليوم، وتجاوزت ذلك برجوعها إلى الله.

 

فثقوا بالله، وأحسِنوا الظن به، وتوكلوا عليه، تصلح أحوالكم، وتطيب نفوسكم، وقدموا بين يدي ربكم عبادة خالصة، وعملًا صالحًا، وخلقًا حسنًا، وسلوكًا سويًّا، قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه.

 

الخطبة الثانية

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد.

أيها المسلمون: ألَا فليَقُمْ كلُّ من ضحى إلى أضحيته، فله عند الله أجر عظيم، وأطعموا منها البائس والفقير والمحروم، وتفقَّدوا أحوال الضعفاء والأيتام والمساكين، وأدخِلُوا عليهم البهجة والفرح والسرور، ومن لم يضحِّ لضيق العيش والحاجة، فلا يبتئس ولا يحزن؛ فقد ضحَّى عنه وعن غيره من المسلمين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، واذكروا الله كما هداكم، واشكروه على ما أعطاكم، وجدِّدوا إيمانكم، وحسِّنوا أخلاقكم، واحفظوا دماءكم، واجتنبوا الفتن، وحافظوا على صلاتكم وسائر عباداتكم، وأْمُروا بالمعروف، وانهَوا عن المنكر، وقولوا كلمة الحق، واعملوا على ازدهار أوطانكم وتطوير مجتمعاتكم، وأخلصوا في أعمالكم؛ تفوزوا برضا ربكم.

 

فهنيئًا لكم بالعيد أيها المسلمون، في كل مكان، وتحت أي ظروف وأحوال، وأدام الله عليكم أيام الفرح، وسقاكم سلسبيل الحب والإخاء، ولا أراكم في يوم عيدكم مكروهًا، ألَا وصلوا وسلموا على من أُمِرْتُم بالصلاة والسلام عليه، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين؛ أبي بكر وعمرَ، وعثمان وعلي، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم اجمع شمل المسلمين، ولُمَّ شعثَهم، وألِّف بين قلوبهم، واحقُن دماءهم، اللهم جنِّبنا الفتن، ما ظهر منها وما بطن، واجعل بلدنا هذا آمنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم تقبَّل من حُجَّاج بيتك أعمالهم، ورُدَّهم إلى بلادهم سالمين غانمين، واغفر لنا ولهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

_________________________________________________________
الكاتب: حسان أحمد العماري

  • 0
  • 0
  • 597

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً