فقه مواجهة الابتلاء
أيها المبتلى، لا أريد منك أن تعيش في عالم الأحياء شبيهًا بحياة الأموات، جسدًا دون روح، ولا حس ولا أثر فيمن له فضل عليك ومِنَّة، ومن احتواك وآواك، لكن محور الحديث: من تكون أنت بعد الابتلاء؟
الحمد لله الذي جَعَلَ بعد الضيق مخرجًا، وبعد الشدة فَرَجًا، والحمد الذي جَعَلَ الابتلاء رفعةً لعباده المؤمنين وعَلاء، والصلاة والسلام على خير من ابتُلِيَ من الورى محمد بن عبدالله وعلى صحبه الميامين؛ أما بعد:
فالابتلاء من سُنَنِ الله الإلهية على جميع الخَلْقِ برِّهم وفاجرهم؛ لحكمةٍ ربانية قصُر عنها الإدراك، وله ارتباطٌ بالأعمال القلبية؛ كالصبر واليقين، والثبات والتفاؤل، والابتلاء يكون في الخير والشر؛ كما قال تعالى: ﴿ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} ﴾ [الأنبياء: 35]، فكما أن الله عز وجل يبلوه بالخير؛ ليمتحن شكره، فهو يبلوه بالشر؛ ليمتحن صبره.
وإن المتأمِّل لحال العبدِ المؤمن يعرِف أنه لا يخشى من وقوع الابتلاء، وإن كان لا يتمنى إلا وقوع الخير والاستكثار منه، ويحلُم بالحياة الآمنة المطمئنة المستقرة، ويخشى من تشتُّت الأحوال وتبدُّلها؛ لأن لديه اليقينَ التامَّ أنَّ وقوع الابتلاء أمرٌ لا بدَّ منه ولا محالة عنه، بل هو من سنن الله في أنبيائه ومن بعدهم؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} ﴾ [البقرة: 214].
ومن أسباب وقوعه رفعةُ الدرجات، ومضاعفة الحسنات، وتارة يُصاب به بسبب الذنوب والمعاصي، فتكون العقوبة مُعجَّلة؛ كما قال سبحانه: ﴿ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ﴾ [الشورى: 30].
ومن فضل البلاء أن يَلْقَى المبتلى الله عز وجل وما عليه خطيئة، فهذه الفضيلة وإن كان وقعها على النفس شديدًا أليمًا، هي أمنية الصالحين الصابرين؛ ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نَفْسِهِ وولده وماله، حتى يَلْقَى الله تعالى وما عليه خطيئة».
والابتلاء ليس محصورًا على نوع معين من أنواعه، بل هو متفاوت ما بين شديد وأشدَّ، فقد يكون منه خسارة الدين والعافية، والعِرْضِ والشرف، وهذا من أشد أنواعه وأقواها، ومنه الفقد، والفقدُ ليس لغائب عن الحياة بأكملها فحسب، بل منه فَقْدُ الحاضر في القلب الغائب عن العين الذي قد نأت به الديار، وبعدت به الظروف.
ومن تلكم الابتلاءات المؤثرة التي يحتاج تخطِّيها وتجاوزها إلى زمنٍ الصدماتُ النفسية المتتالية، التي قد تأتي مصيبة، ثم ما إن يخفَّ وقعُها، إلا وتبِعتها مصيبة أخرى أشدُّ منها، وهنا تضعُف النفس، ويقل صبرها، وتتساءل عن سبب وقوع تلك المصيبة، وسبب الاختيار من بين ألوف مؤلَّفة؛ لتعلم يا صاحب الابتلاء أن تتابُعَ الهموم والغموم عليك لحِكَمٍ منها: استشعار النعمة، وشكر الله على المنَّة، ولتعلم أن البلاء الأول كان أخف وطئًا على النفس، مع أنه لم يتيقن عندك خفة الحمل إلا بعد البلاء الثاني؛ والله يقول: ﴿ {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ﴾ [آل عمران: 153].
فالنفس المؤمنة الراضية تتيقن أن تتابُعَ المصائب عليها من الخير الذي ساقه الله لها من غير حَولٍ منها ولا قوة؛ فلْتُحْسِنِ الظن وتستبشر بما عند الله؛ وهو القائل جل في علاه: ﴿ {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} ﴾ [النساء: 113].
ثم إن البلاء الذي يصيب العبدَ المؤمنَ ليس إلا كرحلة السفر التي يسير فيها المسافر في هذه الحياة قصرًا وطولًا، حسب الحاجة إليها، وانتهاء المدة منها، فقصر البلاء وطوله الذي يصيب العبد المؤمن كذلك حسب قوة الإيمان، وصدق اليقين، والصلابة النفسية التي يتحلى بها، وهنا تكمن قوة المواجهة، والقدرة على التعايش مع المرحلة، لحين ترقُّب صُبْحِ الفَرَجِ، وومِيضِ الأمل.
وتتحقق الصلابة في نفس العبد المبتلَى إذا علِم يقينًا أن من قلَّ صبره، نقص أجره، فالله يبتلي العبد؛ لينال ثواب الصبر، وما فات من ثواب الله بالجزَع أعظم من المصيبة.
لكن إذا وقع الألم، فكيف يمكن للعبد المؤمن التقيِّ النقيِّ مواجهتُه؟ وما فقهُ المواجهة؟ هل يستسلم له، ثم يُصاب بالهشاشة النفسية، ويحلق بعيدًا عن عالم العطاء الذي كان يعيش فيه مسرورًا مبتهجًا، أم يعيش مكتَّف الأيادي، أسيرًا للهموم والغموم، شبيهًا بحال الأسير، متحسرًا متألمًا، بعد أن عُرِف عنه إطلاق الجناحين في زمن فائت متأملًا مؤملًا، ومعللًا سببَ الأَسْرِ والكآبة والحزن بالعجز عن المواجهة والمقاومة؟ هنا دعني أضع سؤالًا: أين قوة اليقين وحسن التوكل على الله عز وجل؟
ومَن منَّا لا يريد أن يحوِّل المعاناة إلى قوة إيجابية في التغيير للأفضل؛ لأن الله قال: ﴿ {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ﴾ [الرعد: 11]؟
ومَن منا لا يريد أن يكون صاحبَ شخصية قوية؛ كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال في الحديث الصحيح: «المؤمن القويُّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير»؟
قد تتساءل - أيها القارئ الكريم - بعد هذه المقدمة اليسيرة: لِمَ هذه المقالة؟ وما الغرض منها؟
هي لك يا صاحب الابتلاء؛ لأني أعلم يقينًا أن مرحلة التجاوز التي تأتي بعد البلاء صعبة عسيرة، لا تُطاق، وليس لكل أحد أن يخرج منها أفضل مما كان، إلا بعد مجاهدة طويلة، طالبًا الصبرَ، منتظرًا الجبرَ بين الألم والأنين.
أيها المبتلى، لا أريد منك أن تعيش في عالم الأحياء شبيهًا بحياة الأموات، جسدًا دون روح، ولا حس ولا أثر فيمن له فضل عليك ومِنَّة، ومن احتواك وآواك، لكن محور الحديث: من تكون أنت بعد الابتلاء؟
هل رضيتَ بما كتبه الله لك؟
هل تجددت روح الإيمان لديك؟
هل دعوت دعاء المضطر؟
هل تعلق قلبك بالله؟
وهل قوِيَ قلبك لمواجهة أحداث أخرى؟ لأن "الضربة التي لا تقتلك تقويك".
هل هذه الانكسارات التي تعرضت لها، وأصابَتْكَ بالهشاشة والخذلان والخيبة وغيرها، كسرت حياتك بكاملها؟!
وهل هذه الابتلاءات التي ضاقت بسببها عليك الأرض رغم سعتها، وضاقت نفسك فكأنما من شدة الألم، وضيق النفس، وثقِل الوطأة، تتنفس من ثقب إبرة، أم أن هذه المرحلة السالفة قد واجهتها مواجهة العبد الصابر القويِّ، المحسنِ الظنَّ بالله، والمستسلم والمنقاد له، والواثق بوعده، وأنه لا أصدق منه، ثم قررت بعدها مَن تكون أنت بعد الابتلاء؟
إن كنت هذا، وأظنك كذلك، فقد شُفيت جراحك، واختفى أثرها، ووصلت إلى شاطئ أمان الرضا، وخرجت من رحلة الكرب، ووطأة الألم، وثقل الوجع، راضيًا مطمئنًّا، ناشدًا للحقِّ، ومتطلعًا لِما عند الله من خير عظيم في الدنيا والآخرة، وساعيًا إلى التمكين الذي وعد الله به أولياءه؛ قال ابن القيم: "سأل رجلٌ الشافعيَّ فقال: يا أبا عبدالله، أيما أفضل للرجل أن يُمكَّن أو يُبتلى؟ فقال الشافعي: لا يُمكَّن حتى يُبتلى؛ فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحدٌ أن يخلُصَ من الألم ألبتةَ".
وفي ختام هذه المقالة، انفُضْ غُبار العجز والكسل، وتعوَّذ منهما كما تعوَّذ منهما المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوة الهمة، وإرادة العزيمة، وانشراح الصدر، وانبساط النفس بما أنعم الله عليك من نِعَمٍ قد خفِيَت مع البلاء، وتظن أنك الوحيد في هذه الحياة الذي قد ابتُلِيَ، وزلزل زلزالًا شديدًا، واشغل الفكر بالعمل؛ لئلا يغزوك الهمُّ والغمُّ من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ، أعاذك الله وحرسك.
ولا تُؤْثِرَنَّ إظهار الهلع، وإبداء الجَزَع على وقار الصبر وفائدته، وجمال الاحتساب ومثوبته، وتجلَّل لِباسَ التجلُّد، وقوِّ على الاحتساب عزمَك، واصبر لحكم ربك.
ولا تظنَّ أيضًا أن مَن حولك أقوياء اتصفوا بالصرامة والجمود، وقسوة القلب، ولا تظن أنهم قد تصدَّوا لصدماتهم بكل ما أُوتوا من قوة، وخرجوا من تلك الرحلة فرحين منتصرين من الهزيمة بنجاح وكفاح، ليس الأمر كما ظننت، بل إن الابتلاء صقل شخصياتهم، واكتسبوا معه مهارة وخبرة في التعامل مع حوادث الزمان، وأيقظتهم صفعة الألم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من يُرِدِ الله به خيرًا، يُصِبْ منه»، واجتهدوا في التجلُّد، وتحلَّوا بالصبر، ونشدوا الأمل؛ لتقوية من حولهم على ضعفهم وقلة حيلتهم؛ ليكونوا أحسن مما كانوا، ويمشوا في مناكب الأرض، ويسعوا في طلب الرزق بصدر منشرح، وضمير مرتاح.
وخلاصة القول:
هوِّن عليك فكل الأمر ينقطع ** وخلِّ عنك ضباب الهم يندفــعُ
فكل همٍّ له من بعده فَــــــرَجٌ ** وكل كرب إذا ضاق يتســــــــعُ
إن البلاء وإن طال الزمان بـه ** الموت يقطعه أو سوف ينقطعُ
وفي الختام، إنما هذه مجموعة أفكار قدحت في الذهن، فاجتهدت في ترتيبها ونشرها، وأسأل الله أن يكتب لها القبول، ومما لا شك فيه أن موضوع مواجهة الابتلاء من الموضوعات واسعة المدى والأرجاء، وقد كُتبت فيه مؤلفاتٍ ومقالات، ولا يمكن لمقالة قصيرة كهذه أن تحيط به من جميع جوانبه، ولكن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
أسأل الله أن يجعلنا وإياك عند البلاء من الصابرين، وعند النعماء من الشاكرين، والله الموفق والمعين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
_________________________________________________________
الكاتب: د. منال عبد الإله العتيبي
- التصنيف: