غزوة تبوك وما فيها من عبر ودروس
ومن عظيم الغزوات التي غزاها النبيﷺ، غزوة تبوك وهي من أواخر غزوات النبي ﷺ؛ إذ كانت في السنة التاسعة هـ، التي تحقَّق فيها عَلَمٌ من أعلام النبوة؛ من قوله ﷺ: «ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر»
إن في غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عِبرًا وحِكَمًا، وفوائدَ ودروسًا، وأما قتاله عليه الصلاة والسلام وغزواته، فكانت في سبيل الله لتحقيق عبودية الله عز وجل في الأرض بألَّا يُعبَد إلا الله، وأن يُنفَى الشرك في الأرض، وأن تكون كلمة الله هي العليا.
شُرِع الجهاد - عباد الله - للدفاع عن دولة الإسلام، وحماية الأمة، ولقتال من خان الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن عظيم الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنزل الله عز وجل فيها جُلَّ آيات سورة التوبة، واستنفر إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين: غزوة تبوك، وهي من أواخر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ كانت في السنة التاسعة من الهجرة، التي تحقَّق فيها عَلَمٌ من أعلام النبوة؛ من قوله عليه الصلاة والسلام: «ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر»[1].
جاءت الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشام إلى المدينة بأن الروم جمعت جموعًا يريدون غزو المدينة النبوية، وانتشرت الأخبار في المدينة أن الروم يُجمِعون الجموع لغزو المسلمين، فقرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزوَهم قبل أن يغزوا المدينة، وكان ذلك في صيف شديد الحرارة، وفي عُسْرة وجدب، وقلة في الرواحل، وبُعْد الشُّقة بين المدينة وتبوك، وما بينهما من مفازة عظيمة، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للاستعداد للغزو، فتسابق الأصحاب إلى النفقة في سبيل الله؛ فأتى أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما أبقيت لأهلك» ؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله))، وأتى عمر رضي الله عنه بشطر ماله، وأنفق عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما نفقة عظيمة جهَّز بها جيش العسرة بمائة بعير بأحلاسها وأقطابها؛ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ما على عثمان ما عمِل بعد اليوم».
وتتابع الصحابة بالصدقات كلٌّ على قدر استطاعته، فمن مُقِلٍّ أو مستكثر، فطعن المنافقون - كشأنهم - قائلين: إن الله لَغنيٌّ عن صدقة هذا، وما أنفق هؤلاء إلا رياء؛ فأنزل الله عز وجل: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى القبائل، وإلى مكة أن يخرجوا معهم للقتال، فهبَّ المسلمون لهذه الرسالة، ومنهم من أعذر الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91، 92]؛ لِما قام في قلوبهم من حبِّ الله ورسوله، والشهادة في سبيل الله عز وجل.
وأراد المنافقون - عباد الله - تثبيطَ المؤمنين عن القتال: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81].
وتعذَّر المنافقون بأعذار واهية تُبيِّن سوء نياتهم وجُبنهم وخَوَرَهم، فعاتب الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم معاتبةً لطيفة على إذنه لهم: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 42، 43].
ثم أتمَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجهيز الجيش الذي بلغ ثلاثين ألف مقاتل، واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه، وأمر عليَّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن يكون في حماية أهله، فَنَبَزَ المنافقون عليًّا، فطيَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطره بقوله: «ألَا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي»[2].
فسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو تبوك، ورتَّب الجيش وأعدَّ العُدَّة، ومرَّ الجيش بطريقهم بديار ثمود؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبكم مثل ما أصابهم»[3].
وممن تأخر في الخروج الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه، ورُؤِيَ من بعيد؛ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «كُنْ أبا ذرٍّ» ، فإذا هو أبو ذر، فقال عليه الصلاة والسلام: «رحِمَ الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده»[4].
وله قصة عجيبة هذا الصحابي رضي الله تعالى عنه، لعلنا نجمل قصته في خطبة مستقلة بإذن الله تعالى.
ثم اشتد العطش بالجيش، فشكَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستسقى ودعا، فأرسل الله عز وجل سحابة، فأمطرت، فَرَوُوا منها، وحملوا معهم الماء، ثم نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبوك، فعسكر هناك ينتظر لقاء العدو، وحضَّ الجيش على خيري الدنيا والآخرة، ومكث عليه الصلاة والسلام في تبوك عشرين ليلة، ولم يجد أثرًا لجيوش الرومان، وهنا سارعت القبائل والحُكَّام من أطراف الشام بعقد الصلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودفع الجزية، وأرسل عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، فأسَرَ ملكَها، فصالحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الجزية.
وبعد أن مكث عليه الصلاة والسلام عشرين ليلة، همَّ بالرجوع إلى المدينة منصورًا، بعد أن ألقى الله عز وجل الرعب في قلوب أعدائه، ومن أشد الناس عداوة للإسلام وأهله هم أهل النفاق، ومما قاموا به من الاستهزاء والطعن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 64، 65].
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة: 74].
فلما اقترب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة عائدًا من تبوك، خرج الصبيان إلى ثنية الوداع يتلقَّونه حتى دخل المدينة، وذهب إلى مسجده الشريف، فصلى به ركعتين، ثم جلس عليه الصلاة والسلام للناس، وجاء المخلفون إليه يقدِّمون الأعذار، وجاء من جاءه المنافقون؛ فأنزل الله عز وجل فيهم قرآنًا يكشف أستارهم، وأعذر الله عز وجل أصحاب الأعذار، وأما من لم يكن له عذر من أهل الإيمان؛ أنزل الله عز وجل فيهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 102].
وقد بنى المنافقون مسجدًا يُضارُّون به أهل الإيمان، ويفرِّقون به جماعتهم، ففضحهم الله عز وجل وأخزاهم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107، 108].
فلما قفل عليه السلام راجعًا إلى المدينة من تبوك، ولم يبقَ بينه وبينها إلا يومٌ أو بعض يوم، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضرار، وما اعتمده بانُوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم؛ مسجد قباء، الذي أُسِّس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مَقدَمه المدينةَ.
وممن تخلف عن غزوة تبوك ثلاثة من المؤمنين، ليس لهم عذر؛ وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، رضي الله تعالى عنهم، وقد روى قصتهم كعب بن مالك بما لا مزيد على كلامه، فعلِم الله عز وجل صدق توبتهم بعد أن هُجِروا خمسين ليلة، صدقوا فيها مع الله سبحانه: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117 - 119].
عباد الله:
يبرز من غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ولا سيما في هذه الغزوة - الحكمة العظيمة من الجهاد في سبيل الله، الذي هو ذِروة سَنام الإسلام، وما يكون به من إرهاب المشركين، وعلوِّ كلمة المسلمين، ولا يكون ذلك إلا بقلوب صادقة، وأعمال صالحة تريد الله والدار الآخرة.
ويبرز في هذه الغزوة النفاق الواضح، والخطر الفاضح، فهم - أي المنافقون - حالة مرضية في الأمة، ولوثة عقائدية، لا يخلو منها مكان ولا زمان، وهم كما هم في عقائدهم وسلوكهم، وإن تغيرت الأسماء، واختلفت الشعارات، وتنوعت الأشخاص، والعاقبة - عباد الله - للمتقين.
ولو نظرنا - عباد الله - في أحداث غزوة تبوك، وما أنزل الله عز وجل فيها من آيات، لَوقفنا على عظيم الفوائد والدروس، نفعنا الله عز وجل بالقرآن العظيم، ورفعنا به، وبارك لنا فيه، ورزقنا تدبُّره وفهمه والعمل به.
[1] أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).
[2] البخاري، 4416.
[3] البخاري، 3381.
[4] أخرجه الحارث في المسند (1019)، والديلمي في الفردوس (4145)، وحسنه ابن كثير.
___________________________________________
الكاتب: سعد محسن الشمري
- التصنيف: