التوبة: رحلة الروح إلى الله ونور الحياة

منذ 2024-10-15

إن التوبة ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي رحلة نبدؤها إلى الله، نحتاج جميعًا إلى هذه الرحلة لنُعيد تصحيح مسارنا ونُنقِّيَ قلوبنا..."

عباد الله:

في زمن كثُرت فيه الفتن، وتزاحمت فيه الشهوات، وغابت فيه القلوب عن ذِكْرِ ربها، نحتاج إلى وقفة صادقة مع أنفسنا، إن التوبة ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي رحلة نبدؤها إلى الله، نحتاج جميعًا إلى هذه الرحلة لنُعيد تصحيح مسارنا ونُنقِّيَ قلوبنا، وفيما يلي وقفات مع التوبة؛ رحلة الروح إلى الله، ونور الحياة:

1- التوبة: نعمة من الله ورحمة لعباده:

إن التوبة هي من أعظم النِّعم التي أنعم الله بها علينا؛ فهي باب مفتوح لا يُغلَق، ورحمة واسعة لا تُحَدُّ؛ يقول الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82].

 

التوبة عودة الروح إلى خالقها، كيف نشعر حين ندرك أن كل ما فعلناه من ذنوب يمكن أن يُغفَر، وأن تبدل حسناتٍ؟ إنها حقًّا نعمة كبيرة، وهي فرصة جديدة لنبدأ من جديد، لنعيد بناء حياتنا، ونقترب من الله.

 

2- سَعَة رحمة الله ومغفرته:

مهما عظُمت ذنوبنا، فإن رحمة الله أوسع؛ جاء في الحديث القدسي: «يا بنَ آدمَ، إنك ما دعوتني ورجوتني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي»؛ (رواه الترمذي)، في هذا الحديث نجد دعوة للتفاؤل، فالله يدعونا للعودة إليه دون خوف.

 

لنستمع إلى دعوة الله، ولنتذكر أن الشيطان هو من يحاول إقناعنا بأننا غير مستحقين للمغفرة، دَعُونا نقطع هذا الحبل ونعود إلى الله؛ فهو القائل: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].

 

3- التوبة تبدل السيئاتِ حسناتٍ:

من فضل الله وكرمه أنه لا يكتفي بمغفرة الذنوب، بل يبدلها حسنات؛ يقول تعالى: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70].

 

تأملوا يا عباد الله، ذنوبُكم التي كنتم تخشَون عقابها، تتحول إلى حسنات تُثقِّل موازينكم يوم القيامة! هل هناك عطاء أعظم من ذلك؟

 

إن الله يفتح أمامنا آفاقًا جديدة، ويبدل الحزن فرحًا، والهمومَ سعادةً، إذا ما صدقنا في توبتنا، وقرَّرنا العودة.

 

4- قصة كعب بن مالك رضي الله عنه:

دعونا نتأمل في قصة الصحابي الجليل كعب بن مالك، الذي تخلَّف عن غزوة تبوك بدون عذر، وعندما عاد النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بمقاطعته، فعاش كعبٌ أيامًا عصيبة، لكنه صبر وصدق في توبته، فأنزل الله توبته في القرآن الكريم؛ فقال تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ...} [التوبة: 118].

 

هذه القصة تُعلِّمنا أن الصدق في التوبة، والصبر على البلاء يفتحان أبواب الرحمة والمغفرة، إن الصبر والإخلاص في التوبة هما المفتاحان اللذان يفتحان لنا أبواب الله.

 

5- التوبة تجلِب السَّكِينة والطمأنينة:

الذنوب تُثقِل القلب، وتجلِب الهمَّ والحزن، ولكن التوبة تمحو تلك الأثقال، وتُعيد إلى القلب سَكِينته وطمأنينته؛ يقول تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

 

إذا كنت تعاني من القلق، فالتوبة هي المفتاح، إنها تجلِب سَكينةً لا تُقارن بأي شيء آخر، عندما نتوب، نشعر بأننا نبدأ صفحة جديدة في حياتنا، وأن الله يَمُدَّنا بالقوة لمواجهة الصعوبات.

 

6- التوبة تُقرِّبنا من الله وتُحبِّبنا إليه:

الله سبحانه يحب التوَّابين، ويفرح بعودتهم إليه؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَلَّهُ أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرضِ فَلَاةٍ، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيِسَ منها، فأتى شجرةً، فاضطجع في ظِلِّها، قد أيِسَ من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها، قائمةً عنده، فأخذ بخِطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»؛ (رواه مسلم)، هذا الفرح الإلهي هو دعوة لنا جميعًا لنكون من التوابين، ولنستشعر قيمة العودة إلى الله.

 

فيا عباد الله، نحن نعيش في زمن تتعدد فيه الشهوات، وتُزيِّن لنا الدنيا بَرِيقها، ولكن في وسط هذه الظلمات، يظل نور التوبة يضيء الطريق، ويمنحنا الأمل، فكيف نحافظ على قلوبنا من الضلال في هذا الزمان؟ إن التوبة هي الدِّرع الذي يحمي قلوبنا، وهي السلاح الذي يُمكِّننا من مواجهة الفتن.

 

وفيما يأتي قصةُ شابٍّ وَجَدَ النور بعد الضلال؛ فبعد أنْ نَشَأَ في بيئة مليئة بالمعاصي، في ليلة هادئة شعر بفراغ كبير في قلبه، فتح المصحف؛ فوقع بصره على قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].

 

شعر بأن الله يخاطبه، فبكى وتاب، وقرَّر تغيير مسار حياته؛ لتكون مليئة بالخير والطاعة، والبر والإحسان.

 

فالتوبة تجلب السعادة الحقيقية، نعم أحبَّتي الكِرام، السعادة ليست في المال ولا في الشهرة، بل في قُربنا من الله ورضاه عنا؛ يقول ابن القيم رحمه الله: "إن في القلب فاقةً لا يسُدُّها إلا الإقبال على الله"، فلنجعل من التوبة طريقًا لنحصل على السعادة الحقيقية، التوبة ليست فقط عودة، بل هي أيضًا بداية جديدة لحياة مليئة بالبركة.

 

وفيما يأتي بعض النصائح للمحافظة على التوبة:

أولًا: المداومة على ذكر الله: فالذكر يُنير القلب، ويُبعِد الشيطان، اجعل لنفسك وِرْدًا يوميًّا من الأذكار.

 

ثانيًا: قراءة القرآن بتدبُّر: فهو كلام الله الذي يشفي الصدور، ويساعدنا على فهم رسالته.

 

ثالثًا: الصحبة الصالحة: اخْتَرْ مَن يُعينك على الطاعة، ويُذكِّرك بالله؛ فالصحبة لها تأثير كبير على مسار حياتنا.

 

رابعًا: الابتعاد عن مواطن الفتن: تجنَّبِ الأماكن والأشياء التي تُذكِّرك بالمعصية، وابتعِدْ عما يُعيق طريقك إلى الله.

 

خامسًا: الدعاء والاستغفار المستمر: اطلب من الله الثبات والهداية في كل لحظة.

 

وأخيرًا أحبَّتي، علينا التوبة قبل فوات الأوان؛ فلا نعلم متى يحين الأجل، فلا تُؤجِّلوا التوبة؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغِناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك»؛ (رواه الحاكم)، التوبة فرصة، فلنجعلها في قلوبنا قبل أن تداهمنا أوقاتٌ لا نُحسَد عليها.

 

وبعدُ فيا أيها المؤمنون، إن الله سبحانه وتعالى ينادينا في كل حين، يدعونا إلى رحمته، ويبسُط لنا يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسُطها بالنهار ليتوب مسيء الليل؛ فلا تَدَعُوا الفرصة تفوتكم، ولا تجعلوا الشيطان يَثنيكم عن العودة إلى الله.

 

اللهم يا واسع الرحمة، يا غافر الذنب وقابل التوب، تقبَّل توبتنا، واغسل حَوبَتَنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتوفَّنا مع الأبرار.

_________________________________________________
الكاتب: د. خالد بن حسن المالكي

  • 1
  • 0
  • 254
  • عنان عوني العنزي

      منذ
    في سبيل الأوطان • جاء في السنة المطهرة ضمن صور القتال الباطلة: (الرجل يقاتل شجاعة) أي أن طبعه مجبول على الشجاعة فهو يقاتل بها وتغلب عليه، (ويقاتل حميّة) يعني عن قومه ووطنه كما هو حال أغلب قتال "حركات التحرر" اليوم، ومع ذلك لم تكن الشجاعة وحدها كافية لتصحيح النية وتزكية القتال أو المقاتل، ما لم يكن في سبيل الله تعالى، نصرة للشريعة ومراغمة لأعدائها. وبالتالي، فالشجاعة بغير توحيد لا تنفع صاحبها سوى في الدنيا، كقولهم: إن فلانا شجاع، وقد قيل! أما في الآخرة فلا اعتبار للشجاعة بدون توحيد صاف وعقيدة سليمة توافق اعتقاد أهل السنة والجماعة الذين ليس منهم بالقطع "الإمام الخميني!" ولا "سورية الأسد!" ولا  "حزب الشيطان" الذي يمثل الشطر الأهم من جند الشام! " بحسب تعبير "جيفارا العرب". وقد جاء في حديث آخر أورده الإمام البخاري في باب: (إذا بقي حثالة من الناس)، يصف فيه حال آخر الزمان حين تختل موازين الناس، فيتمادحون ويتفاخرون بكل شيء إلا الإيمان، (ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان!) ، أي يكون الرجل فطنا، فصيحا، وقويا شجاعا وليس في قلبه أدنى درجات الإيمان. • مقتبس صحيفة النبأ العدد 446

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً