الفيتو الروسي والدم السوري والأمن الإسرائيلي
مفكرة الإسلام: على نسق متزامن لا يفرق بينهما سوى ساعات وفي مفارقة إنسانية مجنونة في عالم ما بعد العولمة، استخدمت روسيا والصين حق النقض (الفيتو) ضد المشروع العربي والغربي الهزيل والمعيب في نفس الوقت ضد النظام السوري، الذي سبقها بمجزرة بشرية مروعة في حي الخالدية بمدينة حمص، وعلى الرغم من إنها إدانة فارغة ولا ترقى لمستوى الحسم لكارثة إنسانية بشعة فاقت كل خيال، وعلى الرغم من أنه مشروع معيب يساوي بين الجلاد والضحية ويطال الجميع بوقف العنف! ولا يعدو عن كونه وسيلة ضغط ناعمة على الأسد للتنازل عن السلطة والانتقال بكل ما نهبه من أموال وسفكه من دماء لملاذ آمن له ولعائلته وأعوانه، ولضمان جدية العرض تقدمت 3 دول أوروبية بالإضافة لتركيا بعرضها الكريم لاستضافة السفاح وأعوانه في كرم أوروبي فاق الكرم العربي الحاتمي! ومع ذلك الكرم نقضت روسيا قرار المشروع وألقت بالقفاز في وجه الجميع، فكيف نفهم هذا الفيتو الروسي المشين؟ وهل فعلا امتعضت منه الدول الغربية وتأففت منه أمريكا وأوروبا؟ أما القضية برمتها مجرد صفقة سياسية ولعبة من ألاعيب القوى الكبرى؟
لكي ما نفهم هذا الفيتو الروسي على هذا المشروع الهزيل لإدانة النظام السوري لابد أن نعرف حقيقة مجلس الأمن ولماذا أنشئ في الأساس ولماذا وضعت له هذه الآلية الغريبة في التصويت وأخذ القرار؟
فمجلس الأمن واحد من أهم أجهزة الأمم المتحدة التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية لسيطرة القوى العظمى وقتها على باقي دول العالم، ويكمنا أن نصف مجلس الأمن تحديدا بأنه مجلس المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، فالهيكل التنظيمي وآليات عمل مجلس الأمن تستمد شرعيتها التاريخية العميقة من أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية، فالمجلس مازال حتى الساعة محافظا على شكله -تقريباـ منذ قيامه في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فمبدأ العضوية الدائمة وحق النقض عبارة عن تعبير سياسي عن انفراد القوى المنتصرة -أمريكا وحلفائهاـ على حساب دول المحور -ألمانيا واليابان وإيطالياـ في الحرب العالمية الثانية، وتأديب دولي من القوى الاستعمارية القديمة -أمريكا وحلفائها- إلى القوى الاستعمارية الصاعدة حينها ـ ألمانيا وحلفائها.
والخلاصة أن هيكل وآلية عمل مجلس الأمن هي ترجمة سياسية عن عقلية وثقافة الحرب وعقيدة الاستعمار الأوروبية التي تضمن بقاء الهيمنة الأوروبية والغربية ليس على المنهزم فحسب بل على العالم بأسره، ولعل هذه العقلية التي بني عليها مجلس الأمن هي التي تمنع حق العضوية الدائمة عن ألمانيا واليابان حتى الآن على الرغم من كونهما أقوى وأفضل من انجلترا وفرنسا وروسيا، وتمنع دولا أخرى مثل كندا واستراليا والهند رغم ضخامتها وقوة اقتصادها لكونهم لم يشاركوا في انتصار الحروب الأولى.
فمجلس الأمن هو الذي أضفى شرعية دولية على بقاء احتلال انجلترا وفرنسا للدول العربية في الشرق الأوسط، وشطر ألمانيا لدولتين في السياق التأديبي الرادع لها، وكرس إجراءات عقابية ووقائية ضد القوى المنهزمة في الحرب، ومع دخول العصر النووي وحقبة ما تسمى بالحرب الباردة أصبح مجلس الأمن بمثابة رمانة الميزان التي تحافظ على توازن المعسكرين الغربي والشرقي، وتم توظيف حق النقض (الفيتو) للإبقاء على حلفاء كل معسكر في سياقها السياسي والعسكري، فالاتحاد السوفيتي يصوت لصالح دول حلف وارسو، والولايات المتحدة تصوت لصالح دول حلف الأطلنطي، ولكن الحقيقة الثابتة أن كلاهما كان يصوت لصالح وخدمة الكيان الصهيوني وضد العالم العربي ومصالحه ومشاريعه.
وبعد دخول عصر العولمة وانهيار الاتحاد السوفيتي في مطلع حقبة التسعينيات، وبعد اندلاع حرب الخليج الثانية دخل مجلس الأمن مرحلة جديدة بدخول أعضاء جدد غير دائمين لا يمثلون عائقا أمام الطموحات الأمريكية الساعية للتفرد بالسيطرة والهيمنة على العالم، وأصبح عدد أعضاء المجلس 15 عضوا، عشرة غير دائمين بالإضافة للخمسة الدائمين.
وبعد هذا العرض الموجز لنشأة هذا المجلس الخطير، هل لنا أن نتساءل عن إمكانية الاعتماد على مثل هذا المجلس لإحلال السلام والأمن الدولي والأممي؟ وهل فقد هذا المجلس فاعليته في ضوء آلية عمله ونظمه التي تجعل من التوافق على قرار دولي حاسم يخضع لمعايير وضوابط وحسابات اقتصادية وسياسية أكثر منها إنسانية وحياتية؟
إن هذا التاريخ المريب لمجلس الأمن منذ تأسيسه، والأساس للأخلاقي الذي قام عليه، وارتباطه بمصالح الدول الأكثر فاعلية، يجعل من الصعب اعتباره وسيلة ناجعة لنشر السلم وفي عالم اليوم. وهذه الجذور التاريخية التي أسست على مبدأ الإقصاء لضمان التطويع السلس لهذه المؤسسة تتأكد من خلال آليات عملها لحل القضايا، فتقسيم القرارات إلى ملزمة وغير ملزمة وكذلك الإدانة، ليست إلا أشكالا من التحايل القانوني لمنح الدول الكبرى وسائل أكثر لتنويع أساليب مماطلتها، فحتى وإن اتخذت قرارات ملزمة، كما هو الحال مع إسرائيل، فلا نجد رغبة لمتابعة التنفيذ، فتصبح في النهاية حبر على ورق.
وفي هذا السياق النفعي الأيدلوجي استخدمت روسيا حق النقض لصالح إسرائيل وليس لصالح الأسد في سوريا، فروسيا وأمريكا تلعبان سويا لعبة شد الحبل لبقاء وضمان أمن الكيان الصهيوني، أو كما يقولون في الثقافة الغربية لعبة الشرطي الشرير والشرطي الطيب، فروسيا صوتت لصالح الأسد لشد ظهره وإنقاذه من التداعيات والانشقاقات المتتالية في جيشه ومن قادة جنده، وذلك في مصلحة كبرى للصهاينة الذين يدينون لسوريا الأسد وحكام مصر قبل الثورة بالفضل الأول في تحويل الكيان الصهيوني الغاصب والملفوظ إقليميا ودوليا القابع في حدود ما قبل 67 إلى دولة من أقوى دول المنطقة، فسوريا الأسد وحكام لمصر على مدار أربعين سنة مثلا ستارا واقيا ضد الهجوم على الصهاينة، وأمن إسرائيل سيتعرض لخطر حقيقي إذا ما سقط نظام الأسد، على أنه للروس أسباب أخرى غير تلك التي سربتها وسائل الإعلام والتي تحدثت عن الامتعاض الروسي مما جري لليبيا، فروسيا لا تبالي بحلفاء ولا بدماء، إنما تبالي بمصالح ونفوذ، ومن أسباب الفيتو الروسي: أنها صوتت أيضا لأسباب اقتصادية تتعلق ببقاء مبيعات أسلحتها في ارتفاع مستمر طالما أن النظام سيواصل مجازره اليومية ضد شعبه، ولضمان بقاء الحلف الإيراني الروسي السوري المشترك والذي تحقق فيه روسيا مكاسب جمة، وأخيرا صوتت روسيا بالفيتو لاسترضاء وتهدئة جبهتها الداخلية، حيث أن الأوضاع الداخلية في روسيا تنذر بثورة شعبية على غرار ثورات العرب بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية، وشعبية بوتين في أدني مستوياتها منذ توليه السلطة.
العالم العربي والإسلامي يدفع اليوم كما دفعه من قبل باهظا ثمنا لمؤسسات وهيئات دولية معيبة الأساس، قامت على ثقافة وعقلية تكريس الهيمنة والاستعمار ونهب خيرات الدول الأضعف، مؤسسات قامت على نظام الغاب القوي يأكل الضعيف، مؤسسات وهيئات قامت لدعم الكيان الصهيوني وتقويته وضمان تفوقه الاستراتيجي والعسكري على دول الجوار مجتمعة، لذلك كان على العرب والمسلمين البحث عن وسائل وبدائل أخرى غير تلك الهيئات والمؤسسات، وأن يتخذوا خطوات فاعلة نحو ذلك، وأضعف هذه الخطوات وإن كانت تبدو مستحيلة وغير واقعية في نظر الكثيرين؛ الانسحاب من هذه المؤسسات والهيئات الدولية أو على الأقل ترك الاعتماد عليها بالكلية في علاج مشاكلها وأزماتها.
كتبه للمفكرة / شريف عبد العزيز الزهيري
[email protected]