ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }
لا شك أن المكر السيئ من مساوئ الأخلاق، وفِعْل قبيح تأباه العقول الصحيحة، والفطر السليمة، ويرفضه الإسلام وغيره من رذائل الأخلاق جملةً وتفصيلًا.
تمهيد:
جاء الإسلام بالأخلاق الفاضلة، والقيم السامية لتسود المحبة، والوئام بين الناس في كل مكان وزمان، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فكل توجيهات القرآن الكريم والسُّنَّة المطهَّرة جاءت رحمةً وهدايةً للبشرية، وصلاح أحوالها في جوانب الحياة كلها؛ الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والتربوية، وغير ذلك، وللجانب الأخلاقي فيها مكانة عظيمة، نال كمالها وشرفها نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ الرحمة المهداة في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
قال ابن عثيمين رحمه الله: النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من مقاصد بعثته إتمام محاسن الأخلاق، فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما بعثت لأُتمِّم مكارم الأخلاق» (البخاري، الأدب المفرد، رقم: 273، الألباني، السلسلة الصحيحة، رقم: 45)، فالشرائع السابقة التي شرعها الله للعباد كلها تحثُّ على الأخلاق الفاضلة؛ ولهذا ذكر أهل العلم أن الأخلاق الفاضلة مما أطبَقت الشرائع على طلبه، ولكن الشريعة الكاملة جاء النبي عليه الصلاة والسلام فيها بتمام مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال (ابن عثيمين، مكارم الأخلاق، ص: 11)، ولا شك أن المكر السيئ من مساوئ الأخلاق، وفِعْل قبيح تأباه العقول الصحيحة، والفطر السليمة، ويرفضه الإسلام وغيره من رذائل الأخلاق جملةً وتفصيلًا.
أقوال العلماء في تفسير الآية موضوع المقال:
قال ابن عاشور رحمه الله: المكر: إخفاء الأذى، وهو سيئ؛ لأنه من الغدر، وهو منافٍ للخلق الكريم، فوصفه بالسيئ وصف كاشف، وجملة: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} موعظة، ويحيق: ينزل به شيء مكروه. حاق به؛ أي: نزل وأحاط إحاطة سوء؛ أي: لا يقع أثره إلا على أهله، والله أعد للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مكره، فيكون ذلك من النواميس التي قدرها الله لنظام هذا العالم؛ لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع زوال ثقة الناس بعضهم ببعض، والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض؛ لأن الإنسان مدني بالطبع، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضًا تنكر بعضهم لبعض، وتبادروا الإضرار، والإهلاك ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يقع فيه، فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم، والله لا يحب الفساد، ولا ضرَّ عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء؛ ولهذا قيل في المثل: وما ظالم إلا سيُبلى بظالم، وقال الشاعر:
لكل شيء آفة من جنسه ** حتى الحديد سطا عليه المبرد
الملامح التربوية المستنبطة من الآية موضوع المقال:
أولًا: نهى الإسلام عن المكر، وأعده من رذائل الأخلاق، وقبائح الأعمال؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10].
قال ابن كثير رحمه الله: والصحيح أنها عامة، والمشركون داخلون بطريق الأولى؛ ولهذا قال: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر: 10]؛ أي: يَفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنُّهَى، فإنه ما أسَرَّ عبد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسَرَّ أحد سريرة إلا كساه الله رداءها، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشَرٌّ، وقال صلى الله عليه وسلم: «المكرُ والخِداعُ في النَّارِ» (الألباني، صحيح الجامع، رقم: 6408)، قال المُناوي: أي: صاحِبُهما يستَحِق دخولَها؛ لأن الدَّاعيَ إليه الحِرصُ على الدنيا والرَّغبة فيها، وذلك يَجُر إليها (التيسير بشرح الجامع الصغير، 2/ 432).
ثانيًا: إن استقامة المؤمن وصلاحه، وحسن تعامله مع الناس بعامة، وإخوانه المسلمين بخاصة، يستند على توجيهات شرعية من الكتاب والسنة، والموفق من فقهها وعمل بها؛ فنال سعادة الدنيا والآخرة، فمن القرآن الكريم قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53] ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ شَيءٍ أَثْقَلُ في ميزَانِ المُؤمِنِ يَومَ القِيامة مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ، وإِنَّ اللَّه يُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيء»؛ (الألباني، صحيح الترمذي، رقم: 2002)،
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أَكْمَلُ المُؤمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُم خُلُقًا، وخِيارُكُم خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهمْ»؛ (الألباني، صحيح الترمذي، رقم: 1162)، وقالَ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ المُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِه درَجةَ الصَّائمِ القَائمِ»؛ (الألباني، صحيح الترغيب والترهيب، رقم: 2645).
ثالثًا: إن المكر السيئ ليس من أخلاق المؤمنين الأخيار، فالمؤمن التقي النقي يحرص على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خُلُقًا، فلا ينسجم بحال الإيمان والتقوى مع المكر والخداع وذميم الأخلاق، وكلما كان الإنسان متأسيًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، كان أبعد عن المكر والخداع وسيئ الأخلاق، فالواجب حينئذٍ الحرص على التفَقُّه في الدين، والتزوُّد بالعلم الشرعي من أهل العلم الثقات ليكون على علم ودراية بالتوجيهات الشرعية التي تؤكد على حسن التعامل، وغرس القيم والمبادئ والأخلاق الإسلامية الفاضلة في نفوس المسلمين، واجتناب كل ما يُلحق الضرر بالآخرين من قول سيئ، أو فعل قبيح، فمن فَقِه وتعلم ليس كمن لم يَفْقَه ولم يتعلم، وصدق الله العظيم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
رابعًا: سُنن الله تعالى في الخلق لا تتبدَّل ولا تتغيَّر: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [فاطر: 43] قال الطبري رحمه الله: يقول تعالى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلا سنة الله بهم في عاجل الدنيا أن أحل بهم من نقمتي على شركهم بي وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم، وهذا تنبيه مهم في الآية الكريمة؛ أن سنن الله تعالى الجارية في الخلق لمن بغى وتجاوز الحدود الشرعية لن تتبدَّل ولن تتحوَّل، فالسعيد من اتَّعَظ بغيره قبل فوات الأوان، قال عبدالرزاق البدر حفظه الله: ومن لم يعتبر بحال غيره من المفرطين الذين سبقوه كان لمن بعده عبرة (الموقع الرسمي للشيخ عبدالرزاق البدر تحت عنوان السعيد من اتَّعَظ بغيره).
خامسًا: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] تُقَرر الآية الكريمة قاعدة عامة في التعامل مع الآخرين؛ قال السعدي رحمه الله: الذي مقصوده مقصود سيئ، ومآله وما يرمي إليه سيئ باطل {إِلَّا بِأَهْلِهِ} فمكرهم إنما يعود عليهم، ونظير هذه القاعدة آيات أُخَر: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23].
قال ابن كثير رحمه الله: أي: إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم، ولا تضرُّون به أحدًا غيركم، ومثلها قوله تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10]، قال القرطبي رحمه الله: فإنما ينكث على نفسه؛ أي: يرجع ضرر النكث عليه؛ لأنه حرم نفسه الثواب وألزمها العقاب.
سادسًا: حرص الإسلام على الأُلْفة والمودة بين الناس عامة، وبين المسلمين خاصة، فجاء الإسلام بتهذيب النفوس وتزكيتها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسَدُوا، ولا تناجَشُوا، ولا تباغَضُوا ولا تدابَرُوا، ولا يبِعْ بعضُكمْ على بيعِ بعضٍ، وكُونُوا عبادَ اللهِ إخوانًا، المسلِمُ أخُو المسلِمِ، لا يَظلِمُهُ ولا يَخذُلُهُ، ولا يَحقِرُهُ»؛ (صحيح مسلم، حديث رقم: 2564).
فالناس خُلقوا لغاية سامية، هي: عبادة الله تعالى؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وعمارة الأرض؛ قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] قال القاسمي رحمه الله: جعلكم عمَّارها؛ أي: جعلكم قادرين على عمارتها؛ كقوله تعالى: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف: 74] فالواجب التفرغ لهذه الغاية الجليلة، وتأديتها على الوجه الأكمل، ولا يتأتى ذلك إلا بالتعاون بين الناس، ودوام الألفة والمحبة بينهم، فمتى ما حدث الظلم، وانتشرت رذائل الأخلاق انصرفوا عن رسالتهم الحقيقية، وتولدت البغضاء بينهم، وتأجَّجت الفتن والعداوات، فأصبح المجتمع يموج بالفوضى، فلا أمن ولا أمان، نسأل الله السلامة والعافية.
سابعًا: هناك نوعان من المكر؛ سيئ مذموم، ومكر غير سيئ ممدوح، فالسيئ يحيق بأهله، أما الممدوح فلا، قال ابن عثيمين رحمه الله: وهل الماكر بغيره ينجو؟ الجواب: إذا كان مكرًا سيئًا فإنه لا ينجو، بل سيحيق به مكره ويهلكه ويدمره؛ كما قال تعالى: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26]، أما إذا كان المكر بحق فإنه لا يحيق بأهله، بل يحيق بعدوِّه؛ ذلك لأن المكر بحق ممدوح وليس بمذموم.
هذا ما تيسَّر إيراده، والله أسأل بمنِّه أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
__________________________________________________
الكاتب: د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
- التصنيف:
عبد الرحمن محمد
منذ